سنحاول من خلال هذا البحث إن شاء الله إلقاء الضَّوء على كلمة تراب وماتحمله من معاني وألغاز في القرآن الكريم، لذلك سنستعين ببعض الرُّسوم التخطيطية لمراحل تشكل الإنسان داخل رحم المرأة، وذلك دون الدخول في تفاصيل أكثر تعقيداً عن كامل هذه المراحل بدقة، لان البحث يتحدث فقط عن معاني هذه المفردة القرآنية وليس عن الإعجاز العلمي في تشكّل الجنين ومايقوله القرآن الكريم..
كلمة تراب على كامل مساحة النص القرآني وردت في عشرين آية كريمة، و في سياقات مختلفة يمكن تصنيفها الى خمسة مجموعات رئيسية:
آيات المجموعة الأولى : بعد الموت أو البعث
يقول تعالى:
- ( وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَئِذَا كُنَّا تُرَابًا أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ )-]الرعد-[5
- ( وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَرًا مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ (34) أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُرَابًا وَعِظَامًا أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ (35) هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لِمَا تُوعَدُونَ (36) إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ (37) إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا وَمَا نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ )-]المؤمنون-[34-38
- ( قَالُوا أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (82) لَقَدْ وُعِدْنَا نَحْنُ وَآَبَاؤُنَا هَذَا مِنْ قَبْلُ إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ )-]المؤمنون-[82
- ( وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَئِذَا كُنَّا تُرَابًا وَآَبَاؤُنَا أَئِنَّا لَمُخْرَجُونَ (67) لَقَدْ وُعِدْنَا هَذَا نَحْنُ وَآَبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ )-]النمل-[67
- ( أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (16) أَوَآَبَاؤُنَا الْأَوَّلُونَ )-]الصافات-[16
- ( أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَدِينُونَ )-]الصافات-[53
- ( وَكَانُوا يَقُولُونَ أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ )-]الواقعة-[47
- ( أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ )-]ق-[3
- ( إِنَّا أَنْذَرْنَاكُمْ عَذَابًا قَرِيبًا يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرَابًا)-]النبأ-[40
الآيات القرآنية للمجموعة الأولى (أعلاه) تتحدث عن تعجب و انكار الكفار والمشركين واستبعادهم للبعث وقدرة الله تعالى على إعادة تشكيل الإنسان بعدما تتحول سوءته الفانية (الجسد) الى تراب وعظام، واعتبار البعث من أساطير السابقين سبق وأن وعد بها أبائهم من قبل. والله سبحانه وتعالى يخبرنا ان الجاحدين بحقيقة البعث أولئك هم الكفار الذين سيدخلون جهنم خالدين فيها، وتأتي أيضا لتخبرنـا عن أمنية الكفار في الدَّار الآخرة بعدما حقت عليهم كلمة العداب وأصبحوا يتمنون لو كانوا تراباً للهروب من مصيرهم المحتوم الذي هو الحساب ثم العقاب. الا أن الملاحظ في الآيات القرآنية وبدون استثناء أن كلمة تراب تأتي دائما قبل كلمة العظام, مما يعني أن كلمة تراب تمثل قيمة جسد الانسان بعد الموت (قيمة لا تساوي شيئا) ولو افترضنا جدلا أن كلمة تراب تعني مادة التراب لما جائت قبل كلمة العظام لأنه وكما هو معروف يموت الانسان وتدبل سوءته وتتحول الى عظام متناثرة أولا ثم بعدها تتفتت و تتحول هذه العظام الى رميم (عظام هشة و متهالكة) ثم بعدها الى مادة التراب, اي ان العظام هي التي تسبق التراب وليس العكس كما هو ملاحظ في الآيات المدروسة.
ومن خلال قرائتنا للآيات السابقة يمكن أن نستنتج نقطتين هامتين نكتبهما بالأحمر العريض وهما:
النتيجة رقم 1 :
|
آيات المجموعة الثانية : في مراحل خلق الإنسان
يقول تعالى:
- ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا )-]الحج-[5
- ( هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخًا وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ وَلِتَبْلُغُوا أَجَلًا مُسَمًّى وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ )-]غافر-[67
- ( قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا )-]الكهف-[37
- ( وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْوَاجًا وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلَا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ )-]فاطر-[11
- ( وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ )-]الروم-[20
الآيات القرآنية للمجموعة الثانية تخاطب منكري البعث حيث يقول لهم جل شأنه الذي خلقكم من تراب وسوّاكم رجلاً قادر على إعادة انشائكم من تراب ذاته، فلم العجب والإنكار أصلاً ! والمستنير عقله سيستنتج أن جَسَدَه لم يكن شيئاً مذكوراً من قبل فالقادر على خلقه قادر أيضاً على إعادة بعته من جديد بعد وفاته، وتأتي هذه الآيات مباشرة لتصف أهمّ المراحل التي يمر بها تشكل الإنسان داخل رحم أمه الى ولادته –خارج الرحم- مروراً بالمراحل العمرية من حياته الى أن يصل الى أرذل العمر ثم إلى وفاته، ويلاحظ في هذه الآيات الكريمة أن كلمة تراب تأتي قبل تشكل النطفة أي قبل وجود أي جنين (إنسان) في رحم الأم، وتأتي أيضاً في نهاية المرحلة العمرية للإنسان أي بعد الموت إذا ما إعتبرنا الآيات السابقة. نتحدث هنا عن دورة حياة إنسان وتكون كلمة 'تراب' هي الحلقة الوصل بين قبل الخلق وبعد الخلق ، ويمكن تلخيص هذه الحلقة في الخطاطة التالية:
والآن سنأتي إلى تحليل هذه الآيات القرآنية التي تصف مراحل تشكل الإنسان، وبما أننا نبحث عن تعريف شمولي لكلمة تراب فسوف نتركها إلى آخر البحث (هذه الفقرة) لتكون النتيجة شمولية وجامعة لكامل الآيات القرآنية وعلى مساحة النص القرآني بحول الله تعالى.
المرحلة 1 : تشكل الإنسان داخل الرّحم سماها القرآن الكريم بالنطفة:
الآيات أعلاه تتحدث عن مضمون واحد وبالتالي سنكتفي بدراسة هذه الآية الشاملة لجميع مراحل خلق الإنسان.
( يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا ) قبل ذلك يجب أن نبرهن على أن كلمة نطفة لا تعني ماء الرجل كما ذهبت إليه بعض التفاسير التقليدية، وإنما تعني المرحلة ما بعد الاخصاب عندما تتحول البويضة المخصبة الى خلية بيضية واحدة ودليلنا على ذلك مايلي:
- الآية الكريمة أعلاه تتحدث بشكل دقيق عن أهم مراحل تشكل الإنسان في رحم المرأة وخارجه، والجزم بالقّول بأن النطفة تعني ماء الرجل فقط أمر غير منطقي وغير علمي، لانه وكما هو معروف فالإنسان لتشكله داخل الرَّحم يستلزم وجود الى جانب ماء الرجل ماء المرأة أيضا !
- كلمة نطفة جاءت بصيغة المفرد ولو كانت تعني ماء الرجل والمرأة معا لجاءت بصيغة الجمع، لأنه وكما هو معروف الامشاج الذكرية والانثوية التي يتكون منها الإنسان (الجنين) تعد بالملايين.
- قول الله تعالى في موضع آخر في القرآن الكريم : ( إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ )-]الإنسان-[2دليل على أن النطفة تكونت عن طريق الامشاج وهذه الاخيرة جاءت بصيغة الجمع دليل على أنها تعني الامشاج الذكرية والانثوية معا والتي اتحدتا عن طريق الاخصاب وتحولت من بويضة مخصبة الى خلية بيضية واحدة وهذا مايفسر ورود النطفة بصيغة المفرد في الآيات الكريمة.
- التصاق كلمة نطفة بكلمة أمشاج دون حرف عطف بينهما دليل على حدوث ظاهرة الاخصاب وهي التصاق الامشاج (الذكرية والانثوية) وتحولها خلال لحظات قليلة الى نطفة وهي أولى بداية تشكل الإنسان.
وكل ماسبق قوله أعلاه يمكن تلخيصه بالرسوم والآية التالية:
هذه النطفة المتشكلة والتي تعتبر البنة الأولى لخق الإنسان داخل الرّحم ستتعرض لسلسلة من الانقسامات والتحولات، وهذه الانقسامات تكون موازية لتحركها بالتجاه جدار الرّحم للالتحام بها، هذا الالتحام يسمى بظاهرة التعشيش .
والوثيقة التالية تبين كل ماثم الاشارة اليه مند التحام الامشاج وحدوث ظاهرة الاخصاب الى تحول البويضة المخصبة الى خلية بيضية (نطفة) وما تتعرض لها من انقسامات داخل قناة فالوب الى التحامها بجدار الرّحم مشكلة مايسمى بالتعشيش استعداداً لبدء مرحلة أخرى جديدة.
ملحوظة: الكرات دات اللون الاصفر تمثل النطفة واللون الوردي تمثل المشيج الانثوي.
مرحلة التعشيش من المراحل المهمة في حياة الإنسان داخل رحم الأم والقرآن العظيم أشار إلى هذه المرحلة وسمى المكان الذي تلتصق فيه هذه النطفة بالقرار المكين، يقول تعالى: (ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ )-]المؤمنون-[13.
المرحلة 2: تشكل الإنسان داخل الرّحم سماها القرآن الكريم بالعلقة:
بعد تتبيت النطفة في جدار الرّحم وحدوث ما يسمى بظاهرة التعشيش تتحول هذه النطفة الى علقة معلنة بداية مرحلة جديدة وبزوغ أطوار جديدة بخصائص جديدة، هذه العلقة تشبه الى حد كبير حشرة العلقة الطفيلية في شكلها وحتى في طريقة تتبيثها وأيضا في طريقة حصولها على الطعام (الدم) بعدما ما تلتصق بفريستها، وهذه الوثيقة تبين أوجه التشابه بينهما.
المرحلة 3 : تشكل الإنسان داخل الرّحم سماها القرآن الكريم بالمضغة :
بعد مرحلة العلقة يتخد الجنين شكلا آخر في تطوره سماه القرآن الكريم بالمضغة وأيضا هذه الاخيرة تشبه تماما مضغة الطعام
والوثيقة التالية تبين مقارنة بين شكل الجنين ومضغة الطعام .
بعد المضغة يأخد الجنين أشكال أخرى معقدة تتطور تدريجيا وتبدأ معالم هذا الكائن في الإتضاح، وتغديته وتنفسه يكون عن طريق الحبل السري الذي يربطه مع أمه. بعد إنقضاء حوالي تسعة أشهر من الحمل يستعدّ هذا الكائن لمغادرة الرّحم ليطالب بحياة أخرى خارجه غير الحياة التي اعتاد عليها في السابق .
المرحلة 4: تشكل الإنسان خارج الرّحم سماها القرآن الكريم بخلق آخر:
بعدما ينقضي الأجل الذي حدده له الله تعالى سلفا يخرج هذا الإنسان خارج الرّحم عن طريق الولادة، و هذا الكائن الجديد أصبح صالحا للتكيف مع محيطه الجديد و سماه القرآن الكريم بخلق آخر، هذا الخلق يخرج من بطن أمه لا يعلم شيئا عن محيط عيشه الجديد الا ماقدره الله له سلفا من الحصول على الطعام والنوم والحركة، ويتحول هذا الإنسان الى طفل ثم الى شاب ثم الى شيخ وينقضي أجله الذي قدّرله سلفا، وتتحول سوءته الى تراب ثانية.
والمبيان التالي يبين ويلخص كل ما تم شرحه في آيات خلق الإنسان وما يقوله العلم الحديث.
بعد دراسة جل مراحل تشكل الانسان في القرآن الكريم وما يقوله العلم الحديث يتضح جليا أن الإنسان لا يعتبر و لا يسمى إنسانا الا بعد اتحاد المشيج الذكري والانثوي وتحول البويضة الى خلية بيضية والتي سماها القرآن الكريم بالنطفة هذه الاخيرة هي البداية رقم 1 لتشكل الانسان، وقبل النطفة تكون قيمة الانسان المتكون هي 0 منعدمة، وبالتالي كلمة تراب والتي جاءت قبل كلمة النطفة في الآيات الكريمة تعني'لا شيئ ' أو 'قيمة صفر' أو 'قيمة هابطة ' او' عدم' ،'قيمة منعدمة' .. وبالتالي كلمة التراب في الآيات الكريمة لا تعني قيمة مادية وإنما قيمة معنوية ,كقوله تعالى مثلا: ( خُلِقَ الْإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ سَأُرِيكُمْ آَيَاتِي فَلَا تَسْتَعْجِلُونِ )-]الأنبياء-[37،أي أن طبيعة خِلقة الإنسان دائماً مستعجل ومتسرع في أمره ولا تعني أنه خلق من السرعة وبالتالي العجل يقصد بها قيمة معنوية وليستقيمة مادية تماما مثل كلمة تراب.
المرحلة 0: تشكل الإنسان داخل الرّحم سماها القرآن الكريم بتراب :
بعد تحديدنا لكامل أطوار و مراحل خلق الإنسان داخل الرحم واستنتاجنا لمعنى كلمة تراب و التي تأتي قبل كلمة النطفة يمكن نعبر عنها بهاذا الرسم التخطيطي التالي:
النتيجة رقم 2:
|
استنتاج عام :
من النتيجة رقم 1 و 2 (المؤطَّرة بالاحمر) نستنتج أن كلمة تراب يدور حولها نفس المعنى من الدلالات وهي ' لا شيء' ، 'قيمة هابطة ' ، ' قيمة صفر ' ، ' عدم ' ، ' قيمة منعدمة ' ، ' 0 كقبمة رياضية مجردة ' .
آيات المجموعة الثالثة : أتراب الجنة:
يقول تعالى:
- ( إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ إِنْشَاءً (35) فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا (36) عُرُبًا أَتْرَابًا)-]الواقعة-[35-37
- ( حَدَائِقَ وَأَعْنَابًا (32) وَكَوَاعِبَ أَتْرَابًا(33) وَكَأْسًا دِهَاقًا (34) لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا كِذَّابًا )-]النبأ-[32-35
- ( جَنَّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوَابُ (50) مُتَّكِئِينَ فِيهَا يَدْعُونَ فِيهَا بِفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ وَشَرَابٍ (51) وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ أَتْرَابٌ)-]ص-[50-52
برهنا سلفا على أن كلمة تراب في إطارها العام تعني قيمة هابطة، قيمة صفر، قيمة منعدمة، قيمة دنوية، لا شيئ و ايضاً العدم. ورمزنا لها ب صفر 0 كقيمة رياضية مجردة ، وما يقابل كلمة تراب في القرآن الكريم هي كلمة أتراب والفارق بينهما هي الهمزة ( أ) هذه الأخيرة تسمى همزة التعدي حيث قلَبت معنى كلمة تراب إلى نقيضها تماما، وتعدّت صفات القيمة الهابطة و القيمة المنعدمة ،( قيمة دنوية ,لاشيئ ، العدم..) إلــى قيمة عليا، قيمة لا متناهية ، سرمدية ، أزلية، خالدة، وسنرمز لها بالرَّمز الرياضي مالانهاية (8 مقلوبة) .
كما بينا أعلاه فهمزة التعدي قلبت المعنى من القيمة السلبية الى القيمة إلايجابية ويمكن الآن فهممضمون الآيات اعلاه كالتالي:
يصف لنا الله سبحانه وتعالى نساء الجنة بأنهم أتراب أي نساء غير ناقصات ولا منتهيات و ذات قيمة عليا في الحسن والجمال وسرمديات، خالدات ،أزليات (ضد العدم) ولايشخن ولا يمرون بالمراحل التي تمر بها نساء الدنيا من الطفوله والشباب والكهولة (أنظر المبيان أعلاه) في الجنة لأصحاب اليمين.
آيات المجموعة الرابعة : التراب كمادة :
- ( وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (58) يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ)-]النحل-[58-59
كلمة التراب في هذه الآية الكريمة هي الكلمة الوحيدة في القرآن التي جاءت معرفة ب (ال) وهي تتحدث عن التراب كمادة، لكن القرآن الكريم لا يهتم بالتراب أكثر من إهتمامه بالإنسان، ذلك الكائن المكلف والممتحن في الامانة التي عُرضت عليه وحملها بحرية تامة قبل هبوطه الى عالم الخلق .. وبالتالي يمكن فهم مضمون الآية الكريمة أعلاه كما يلي، وعتباراً للمفهوم الجامع والشامل الذي تم استخلاصه من هذا البحث المتواضع.
الله تعالى يصف حال المنافقين بعد تبشيرهم بمولود أنثى، حيث تضل وجوههم مسودة من الغضب وسوء الرضى خوفاً منهم على مقامهم لدى عشيرتهم وقبائلهم من الفضيحة والعار و السخرية، مما يضطرهم إلى القبول به بمشقة وعدم رضى كبيرين أو يدفنونه في التراب (كمادة) للتخلص منه وبالتالي تحويل قيمته كإنسان الى تراب أيالى لاشيئ أو قيمة هابطة .. وحتى كلمة التراب التي جاءت بمعنى المادّة فقيمتها هابطة لا تساوي شيئاً.. بالمقارنة بالمولود الذي سيرمى إليها.
آيات المجموعة الخامسة : التراب كمثال :
- ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا لَا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ )-]البقرة-[264
- ( إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آَدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ)-]ال عمران-[59
يمكن فهم مضمون الآية الأولى وفق المعنى المستخلص من البحث كما يلي:
تحدير الله سبحانه وتعالى المؤمنين من ابطال أجور صدقاتهم بالرياء وأدى الخلق، وتشبيه هذه الأجور بنفقات الكافر الذي لا يؤمن بالله واليوم الآخر والتي يبتغي بها فقط مراتب دنيوية دنيئة بغية الشهرة وكسب الجاه وشراء الدمم، بالحجر الصلب الذي عليه تراب خفيف هذا التراب شبهه الله تعالى بصدقة الكافر ووفقا للتعريف المستخلص من كلمة تراب على أنها قيمة هابطة لا تساوي شيئاً ومنعدمة فهذه هي قيمة صدقة الكافر في محصلة أعماله الأخروية ، وحتى هذه القيمة الهابطة والمنعدمة من اعماله تصل الى تحت تحت قيمة تراب بعدما يهب عليها مطر شديد ويتركها صلدا..
وفي هذه الآية ( إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آَدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) يخبرنا الله تعالى فيها أن عيسى عليه السلام في طريقة خلقه تشبه تماما طريقة خلق آدم عليه السلام وكلاهما خلقا من تراب ، وكما هو معروف فعيسى عليه السلامنفخفي رحم مريم العذراء، يقول تعالى في سورة التحريم -12: ( وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا)، واذا كان التراب يقصد بها مادّة الترابالتي نعرفها فماذا تفعل إذا في رحم مريم عليها السلام ؟ !ولكن اعتبارا للمعنى الذي توصلنا اليه سلفا لكلمة ' تراب ' يمكن فهم هذه الآية الكريمة بالصيغة التالية:
الله سبحانه وتعالى بقدرته المطلقة على فعل ما يشاء خلق عيسى عليه السلام في رحم مريم من تراب اي من لاشيئ ومن قيمة صفر دون وجود أب له، فقط بكلمة كن فيكون حملت مريم العذراء بعيسى عليه السلام.
وأيضا آدم اسم قبل الهبوط الى عالم الخلق (قبل حلول النفس في الجسد) والتراب كمادة توجد فقط في العالم المادي (عالم الخلق) وبالتالي يمكن فهم الآية بأن الله سبحانه وتعالى خلق آدم من تراب أي من العدم ومن لا شيئ ومن قيمة تساوي صفر قبل هبوطه الى دنيا الاختبار(العالم المادي).
خلاصة:
كما برهنا بالمنطق العلمي والقرآني واللغوي على أن كلمة تراب في القرآن الكريم سواء جائت بالمعنى المادي كالتراب أو بالمعنى المعنوي كتراب فإن لهما نفس المعنى المشترك وهو قيمة سلبية هابطة لا تساوي شيئاً قيمتها رياضيا تساوي صفر، وبينا أن كلمة أتراب تعني عكس هذه القيمة السلبية بسبب بروز همزة التعدي والتي قلبت معنى الكلمة الى نقيضها تماما وتحولت الى قيمة إيجابية وذلك ما يفسر ظهور كلمة أتراب في وصف نساء الجنة فقط.
وحتى في هذه الآية الكريمة: ( أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ (14) يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ (15) أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ)-]البلد-[14
كلمة متربة في هذه الآية الكريمة تنتمي الى نفس الجدر اللغوي (ت,ر,ب) او تراب وأتراب وكلاهما يدوران حول نفس المعنى من الدلالات . وقد سبق ان برهنا في هذا البحث على ان كلمة تراب في اطارها العام تعني لا شيئ او قيمة هابطة أومنعدمة , وبالتالي فكلمة متربة لها نفس المعنى من الدلالة, أي يوصينا الله سبحانه وتعالى بإطعام مسكين ليس له من يكفله من اقاربه او مسكينا لا شيء له من المال.
لكن السؤال الجوهري الذي يطرح نفسه الآن هو لماذا الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم وخصوصا عندما يحدثنا عن المراحل التي يمر منها تشكل الإنسان في بطن أمه يبدأ دائما بكلمة تراب، لماذا سبحانه وتعالى لا يبدأ بذكر مراحل خلق الإنسان ابتداءً من مرحلة النطفة الى آخر مرحلة من مراحل خلقه ؟
الجواب واضح وجلي لأن في جل الايات التي تبتدأ بكلمة تراب و يُذكر فيها مراحل خلق الإنسان يخاطب فيها الله سبحانه وتعالى منكري البعث حيث يقول لهم جل شأنه كنتم في بطون أمهاتكم قبل النطفة لاشيئ (قيمة صفر) ثم من النطفة الى علقة ومن العلقة الى المضغة .. الى أن تصلوا الى الشباب ثم الى الشيخوخة وتوافيكم المنية وتتحول أجسادكم الى لاشيء وهي نفسها القيمة التي خلقتكم منها من قبل، فلماذا الانكار والجحود بالبعث وقدرة الله تعالى أصلا ؟ !!
اما في الآيات التي يخاطب فيهاالله تعالى عموم البشر فإنه سبحانه وتعالى لا يستعمل كلمة تراب والدليل هذه الآيات :
- ( خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ )-]النحل-[4
- ( أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ )-]يس-[77
- ( وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى (45) مِنْ نُطْفَةٍ إِذَا تُمْنَى )-]النجم-[46
- ( أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى )-]القيامة-[37
- ( إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا )-]الانسان-[2
- ( مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ (18) مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ )-]عبس-[19
وكل ماجاء في هذا البحث تنطق به وتختصره هذه الآية الكريمة ' هَلْ أَتَى عَلَى الإِنسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً (1) إِنَّا خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً ' -الانسان-1
الله سبحانه وتعالى خلق الإنسان في بطن أمه من نطفة (البيضة المخصبة) وقبل هذه النطفة لم يكن شيئا مذكورا,وتراب جاءت قبل النطفة ' هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ' إذا فهي تمثل قيمة اللاشيء المذكور بالنسبة للإنسان.
إنتهى
ملاحظة
هذا البحث يتحدث فقط عن معنى كلمة تراب في كتاب الله تعالى وليس عن كلمة طين او صلصال ,فذلك بحث آخر مستقل.
إعداد: ابراهيم ايت ابورك
adamoon@live.fr