قضية الألوهية والعبودية وتجلية حقيقتهما
" أَنَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ "

محمد صادق في الجمعة ٠٣ - يونيو - ٢٠١١ ١٢:٠٠ صباحاً

" أَنَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ "

 

أن القضية الأساسية التي يتكئ عليها السياق القرءآنى كله هي قضية الألوهية والعبودية  وتجلية حقيقتهما وبيان مقتضيات هذه الحقيقة في حياة الناس. والواقع أن تلك القضية الكبرى هي قضية القرءآن كله وقضية القرءآن المكي بصفة خاصة . فتعريف الألوهية الحقة وبيان خصائصها من الربوبية والقوامة والحاكمية وتعريف العبودية وحدودها التي لا تتعداها والوصول من هذا كله إلى تعبيد الناس لإلههم الحق واعترافهم بالربوبية والقوامة والحاكمية له وحده . هذا هو الموضوع الرئيسي للقرءآن كله . . وما وراءه إن هو إلا بيان لمقتضيات هذه الحقيقة الكبيرة في حياة البشر بكل جوانبها.

وهذه الحقيقة الكبيرة تستحق - عند التأمل العميق - كل هذا البيان الذي هو موضوع هذا القرءآن . . تستحق أن يرسل الله من أجلها رسله جميعا وأن ينزل بها كتبه جميعا:

وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ " 21:25

إن حياة البشر في الأرض لا تستقيم إلا إذا استقامت هذه الحقيقة في اعتقادهم وتصورهم واستقامت كذلك في حياتهم وواقعهم.

لا تستقيم أولاً إزاء هذا الكون الذي يعيشون فيه ويتعاملون مع أشيائه وأحيائه . . وهم حين يضطرب تصورهم لحقيقة الألوهية وحقيقة العبودية يروحون يؤلهون الأشياء والأحياء - بل يؤلهون الأشباح والأوهام  - ويُعَّبِدون أنفسهم لها في صور مضحكة ولكنها بائسة ! , ويقدمون لها - بوحي من الكهان والمنتفعين بأوهام العوام في كل زمان وفي كل مكان - خلاصة كدهم من الرزق الذي أعطاهم اللّه . بل إنهم ليقدمون لها فلذات أكبادهم كما يقدمون لها أرواحهم في بعض الأحيان . وهي أشياء وأحياء لا حول لها ولا قوة ولا تملك لهم ضراً ولا نفعاً . . وتضطرب حياتهم كلها  وهم يعيشون بين الهلع والجزع من هذه الأشياء والأحياء وبين التقرب والزلفى لمخلوقات مثلهم عبوديتها للّه كعبوديتهم . . وذلك كما قال الله تعالى: الأنعام 136-140

" وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ نَصِيبًا فَقَالُوا هَٰذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَٰذَا لِشُرَكَائِنَا ۖ فَمَا كَانَ لِشُرَكَائِهِمْ فَلَا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ ۖ وَمَا كَانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَىٰ شُرَكَائِهِمْ ۗ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ * وَكَذَٰلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلَادِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ لِيُرْدُوهُمْ وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ ۖ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا فَعَلُوهُ ۖ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ * وَقَالُوا هَٰذِهِ أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لَا يَطْعَمُهَا إِلَّا مَنْ نَشَاءُ بِزَعْمِهِمْ وَأَنْعَامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُهَا وَأَنْعَامٌ لَا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا افْتِرَاءً عَلَيْهِ ۚ سَيَجْزِيهِمْ بِمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ * وَقَالُوا مَا فِي بُطُونِ هَٰذِهِ الْأَنْعَامِ خَالِصَةٌ لِذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَىٰ أَزْوَاجِنَا ۖ وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكَاءُ ۚ سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ ۚ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ * قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلَادَهُمْ سَفَهًا بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُوا مَا رَزَقَهُمُ اللَّهُ افْتِرَاءً عَلَى اللَّهِ ۚ قَدْ ضَلُّوا وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ "

فهذه نماذج من تكاليف العبودية لغير الله في الأموال والأولاد التي تقدم لمخلوقات من خلق الله . أشياء أو أحياء ما أنزل الله بها من سلطان.

كذلك لا تستقيم حياة البشر إزاء بعضهم البعض بدون استقامة حقيقة الألوهية وحقيقة العبودية في اعتقادهم وتصورهم  وفي حياتهم وواقعهم . . إن إنسانية الإنسان وكرامته وحريته الحقيقية الكاملة لا يمكن أن تتحقق في ظل اعتقاد أو نظام لا يفرد الله سبحانه بالربوبية والقوامة والحاكمية  ولا يجعل له وحده حق الهيمنة على حياة الناس في الدنيا والآخرة في السر والعلانية ولا يعترف له وحده بحق التشريع والأمر والحاكمية في كل جانب من جوانب الحياة الإنسانية.

والواقع البشري على مدار التاريخ يثبت هذه الحقيقة ويصدقها . فما من مرة انحرف الناس عن الدينونة لله وحده - اعتقاداً ونظاماً - ودانوا لغير الله من العباد - سواء كانت هذه الدينونة بالاعتقاد والشعائر أم كانت باتباع الأحكام والشرائع - إلا كانت العاقبة هي فقدانهم لإنسانيتهم وكرامتهم وحريتهم.

والتفسير الإسلامي للتاريخ  يرد ذل المحكومين للطواغيت  وسيطرة الطواغيت عليهم  إلى عامل أساسي هو فسوق المحكومين عن دين اللّه الذي يفرد الله سبحانه بالألوهية ومن ثم يفرده بالربوبية والسلطان والقوامة والحاكمية . فيقول الله سبحانه عن فرعون وقومه: سورة الزخرف الآيات 51-54

" وَنَادَىٰ فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَٰذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي ۖ أَفَلَا تُبْصِرُونَ * أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَٰذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلَا يَكَادُ يُبِينُ * فَلَوْلَا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ جَاءَ مَعَهُ الْمَلَائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ * فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ ۚ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ "

فيرد استخفاف فرعون لهم إلى أنهم فاسقون . فما يستخف الحاكم الطاغي قومه وهم مؤمنون بالله موحدون لا يدينون لسواه بربوبية تزاول القوامة والحاكمية.

ولقد حدث أن الذين فسقوا عن الدينونة لله وحده فأتاحوا لنفر منهم أن يحكموهم بغير شريعته  قد وقعوا في النهاية في شقوة العبودية لغيره . العبودية التي تأكل إنسانيتهم وكرامتهم وحريتهم مهما اختلفت أشكال الأنظمة التي تحكمهم والتي ظنوا في بعضها أنها تكفل لهم الإنسانية والحرية والكرامة.

لقد هربت أوربا من الله - في أثناء هروبها من الكنيسة الطاغية الباغية باسم الدين الزائف - وثارت على الله - سبحانه - في أثناء ثورتها على تلك الكنيسة التي أهدرت كل القيم الإنسانية في عنفوان سطوتها الغاشمة . ثم ظن الناس هناك أنهم يجدون إنسانيتهم وحريتهم وكرامتهم - ومصالحهم كذلك - في ظل الأنظمة الفردية [ الديمقراطية ] وعلقوا كل آمالهم على الحريات والضمانات التي تكفلها لهم الدساتير الوضعية والأوضاع النيابية البرلمانية والحريات الصحفية والضمانات القضائية والتشريعية وحكم الأغلبية المنتخبة . . إلى آخر هذه الهالات التي أحيطت بها تلك الأنظمة . . ثم ماذا كانت العاقبة ? كانت العاقبة هي طغيان "الرأسمالية " ذلك الطغيان الذي أحال كل تلك الضمانات وكل تلك التشكيلات  إلى مجرد لافتات  أو إلى مجرد خيالات  ووقعت الأكثرية الساحقة في عبودية ذليلة للأقلية الطاغية التي تملك رأس المال  فتملك معه الأغلبية البرلمانية والدساتير الوضعية والحريات الصحفية وسائر الضمانات التي ظنها الناس هناك كفيلة بضمان إنسانيتهم وحريتهم وكرامتهم في معزل عن الله سبحانه.

ثم هرب فريق من الناس هناك من الأنظمة الفردية التي يطغى فيها "رأس المال" و "الطبقة ! " إلى الأنظمةالجماعية ! فماذا فعلوا ? لقد استبدلوا بالدينونة لطبقة "الرأسماليين" الدينونة لطبقة "الصعاليك" ! أو استبدلوا بالدينونة لأصحاب رؤوس الأموال والشركات الدينونة للدولة التي تملك المال إلى جانب السلطان فتصبح أخطر من طبقة الرأسماليين.

وفي كل حالة وفي كل وضع وفي كل نظام دان البشر فيه للبشر , دفعوا من أموالهم ومن أرواحهم الضريبة الفادحة . دفعوها للأرباب المتنوعة في كل حالة.

إنه لا بد من عبودية فإن لا تكن لله وحده , تكن لغير الله . . والعبودية لله وحده تطلق الناس أحرارا كراما شرفاء أعلياء . والعبودية لغير الله تأكل إنسانية الناس وكرامتهم وحرياتهم وفضائلهم . . ثم تأكل أموالهم ومصالحهم المادية في النهاية.

من أجل ذلك كله تنال قضية الألوهية والعبودية كل تلك العناية في رسالات الله - سبحانه - وفي كتبه . فهي قضية لا تتعلق بعبدة الأصنام والأوثان في الجاهليات الساذجة البعيدة . ولكنها تتعلق بالإنسان كله في كل زمان وفي كل مكان وتتعلق بالجاهليات كلها . . جاهليات ما قبل التاريخ . وجاهليات التاريخ . وجاهلية القرن الواحد والعشرين . وكل جاهلية تقوم على أساس من عبادة العباد للعباد.

ويتطرق من عرض الآيات الكونية فى القرءآن الكريم،  إلى الغافلين عنها ، الذين لا يرتقبون لقاء الله مدبر كل شيء  وما ينتظر هؤلاء الغافلين من سوء المصير، وما ينتظر المؤمنين في الجانب الآخر من نعيم مقيم . ويسجل حكمة تأجيل المصير إلى يومه الموعود وعدم تعجيل الشر للناس كما يستعجلون هم الخير في هذه الدنيا ولو عجل لهم بالشر كما يستعجلون بالخير لانتهى الأجل وأخذوا بذنوبهم دون إمهال. يقول سبحانه فى سورة يونس الآيات 48-50

" وَيَقُولُونَ مَتَى هَـذَا الْوَعْدُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ * قُل لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرّاً وَلاَ نَفْعاً إِلاَّ مَا شَاء اللّهُ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ إِذَا جَاء أَجَلُهُمْ فَلاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ * قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُهُ بَيَاتاً أَوْ نَهَاراً مَّاذَا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ "

إن هذا القرءآن يجعل من مألوفات البشر وحوادثهم المتكررة  قضايا كونية كبرى يكشف فيها عن النواميس الإلهية في الوجود وينشئ بها عقيدة ضخمة شاملة وتصوراً كاملاً لهذا الوجود كما يجعل منها منهجاً للنظر والتفكير وحياة للأرواح والقلوب ويقظة في المشاعر والحواس . يقظة لظواهر هذا الوجود التي تطالع الناس صباح مساء وهم غافلون عنها  ويقظة لأنفسهم وما يجري من العجائب والخوارق فيها. يقول سبحانه عن أولى الألباب فى سورة آل عمران :

إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىٰ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَٰذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ * رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ ۖ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ * رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا ۚ رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ * رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا ۚ رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ * رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَىٰ رُسُلِكَ وَلَا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ ۗ إِنَّكَ لَا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ * فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَىٰ ۖ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ ۖ فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ثَوَابًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ۗ وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ "190-195

إنه لا يكل الناس إلى الحوادث الفذة الخارقة والمعجزات الخاصة المعدودة . كذلك لا يكلفهم أن يبحثوا عن الخوارق والمعجزات والآيات والدلائل بعيداً عن أنفسهم ولا عن مألوف حياتهم ولا عن الظواهر الكونية القريبة منهم المعروفة لهم .إنه لا يبعد بهم في فلسفات معقدة أو مشكلات عقلية عويصة أو تجارب علمية لا يملكها كل أحد لكي ينشئ في نفوسهم عقيدة وتصورا للكون والحياة قائماً على هذه العقيدة.

إن أنفسهم من صنع الله وظواهر الكون حولهم من إبداع قدرته . والمعجزة كامنة في كل ما تبدعه يده . وهذا القرءآن قرءآنه . ومن ثم يأخذهم إلى هذه المعجزات الكامنة فيهم  والمبثوثة في الكون من حولهم . يأخذهم إلى هذه الخوارق المألوفة لهم التي يرونها ولا يحسون حقيقة الإعجاز فيها . لأنهم لطول ألفتهم بها غفلوا عن مواضع الإعجاز فيها . يأخذهم إليها ليفتح عيونهم عليها فتطلع على السر الهائل المكنون فيها . سر القدرة المبدعة وسر الوحدانية المفردة وسر الناموس الأزلي الذي يعمل في كيانهم هم أنفسهم كما يعمل في الكون من حولهم  والذي يحمل دلائل الإيمان  وبراهين العقيدة فيبثها في كيانهم أو يوقظها في فطرتهم بتعبير أدق. أنظر قول الله تعالى فى سورة النحل الآيات 3-6

" خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ ۚ تَعَالَىٰ عَمَّا يُشْرِكُونَ * خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ * وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا ۗ لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُون * وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ * وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَىٰ بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ ۚ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ "

وعلى هذا المنهج يسير , وهو يعرض عليهم آيات القدرة المبدعة في خلقهم هم أنفسهم . وفي زرعهم الذي تزاوله أيديهم  وفي الماء الذي يشربون . وفي النار التي يوقدون - وهي أبسط ما يقع تحت أبصارهم من مألوفات حياتهم - كذلك يصور لهم لحظة النهاية . نهاية الحياة على هذه الأرض وبدء الحياة في العالم الآخر . اللحظة التي يواجهها كل أحد والتي تنتهي عندها كل حيلة والتي تقف الأحياء وجهاً لوجه أمام القدرة المطلقة المتصرفة وقفة فاصلة لا محاولة فيها ولا مجال ! حيث تسقط جميع الأقنعة .

" هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً ۖ لَكُمْ مِنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ * يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنَابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ ۗ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ * وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ ۖ وَالنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ ۗ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ "

إن طريقة القرءآن في مخاطبة الفطرة البشرية تدل بذاتها على مصدره . . إنه المصدر الذي صدر منه الكون . فطريقة بنائه هي طريقة بناء الكون . فمن أبسط المواد الكونية تنشأ أعقد الأشكال وأضخم الخلائق . . الذرة يظن أنها مادة بناء الكون والخلية يظن أنها مادة بناء الحياة . . والذرة على صغرها معجزة في ذاتها والخلية على ضآلتها آية في ذاتها . . وهنا في القرءآن يتخذ من أبسط المشاهدات المألوفة للبشر مادة لبناء أضخم عقيدة دينية وأوسع تصور كوني . . المشاهدات التي تدخل في تجارب كل إنسان:النسل . الزرع . والماء . والنار . والموت . . أي إنسان على ظهر هذه الأرض لم تدخل هذه المشاهدات في تجاربه ? أي ساكن كهف لم يشهد نشأة حياة جنينية ونشأة حياة نباتية . ومسقط ماء  وموقد نار . ولحظة وفاة ? . . من هذه المشاهدات التي رآها كل إنسان ينشئ القرءآن العقيدة لأنه يخاطب كل إنسان في كل بيئة . . وهذه المشاهدات البسيطة بذاتها هي أضخم الحقائق الكونية وأعظم الأسرار الربانية فهي في بساطتها تخاطب فطرة كل إنسان .

إن هذا القرءآن يخاطب الكينونة البشرية بجملتها فلا يخاطب ذهنها المجرد مرة . وقلبها الشاعرة مرة . وحسها المتوفز مرة . ولكنه يخاطبها جملة ويخاطبها من أقصر طريق ويطرق كل أجهزة الاستقبال والتلقي فيها مرة واحدة كلما خاطبها وينشئ فيها بهذا الخطاب تصورات وتأثرات وانطباعات لحقائق الوجود كلها لا تملك وسيلة أخرى من الوسائل التي زاولها البشر في تاريخهم كله أن تنشئها بهذا العمق وبهذا الشمول وبهذه الدقة وهذا الوضوح.

 والقرءآن يقدم حقائق العقيدة - أحياناً - في مجالات لا يخطر للفكر البشري عادة أن يلم بها لأنها ليست من طبيعة ما يفكر فيه عادة أو يلتفت إليه على هذا النحو.

ما جاء في سورة الأنعام في تصوير حقيقة العلم الإلهي ومجالاته:  ولننظر إلى   

وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ ۚ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ ۚ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ " 59

فهذه المفاتيح المترامية  الخفية والظاهرة  ليست مما يتوجه الفكر البشري إلى ارتيادها على هذا النحو وهو في معرض تصويرشامل للعلم  مهما أراد تصوير هذا الشمول . ولو أن فكراً بشرياً هو الذي يريد تصوير شمول العلم لاتجه اتجاهات أخرى تناسب اهتمامات الإنسان وطبيعة تصوراته.

ننظر إلى هذه الآية القصيرة من أي جانب فنرى هذا الإعجاز الناطق بمصدر هذا القرءآن الكريم:

ننظر إليها من ناحية موضوعها فنجزم للوهلة الأولى بأن هذا كلام لا يقوله بشر فليس عليه طابع البشر. إن أسلوب الفكر البشري وانطلاقاته في هذا المجال لها طابع آخر ولها حدود . إنه ينتزع تصوراته التي يعبر عنها من اهتماماته . فما اهتمام الفكر البشري بتقصي وإحصاء الورق الساقط من الشجر , في كل أنحاء الأرض ? إن المسألة لا تخطر على بال الفكر البشري ابتداء . لا يخطر على باله أن يتتبع ويحصى ذلك الورق الساقط في أنحاء الأرض .ومن ثم لا يخطر له أن يتجه هذا الاتجاه ولا أن يعبر هذا التعبير عن العلم الشامل ! إنما الورق الساقط شأن يحصيه الخالق ويعبر عنه الخالق.

وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ،

إن أقصى ما يتجه إليه تفكير البشر هو الإنتفاع بالرطب واليابس مما بين أيديهم . . فأما التحدث عنه كدليل للعلم الشامل فهذا ليس معهوداً في اتجاه البشر.

وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا:

ولا يفكر البشر أن تكون كل ورقة ساقطة وكل حبة مخبوءة وكل رطب وكل يابس في كتاب مبين. فما شأنهم بهذا، وما فائدته لهم.

وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْر:

آماد وآفاق وأغوار في "المنظور" على استواء وسعة في عالم الغيب المحجوب.

وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا:

حركة الموت والفناء وحركة السقوط والانحدار من علو إلى سفل  ومن حياة إلى اندثار.

وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ:

حركة البزوغ والنماء المنبثقة من الغور إلى السطح ومن كمون وسكون إلى إندفاع وانطلاق.

وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ:

التعميم الشامل الذي يشمل الحياة والموت . والازدهار والذبول في كل حي على الإطلاق.

 إن هذا الوصف الشامل العميق . . مشهد الورق الساقط من شجر الأرض جميعاً والحب المخبوء في أطواء الأرض جميعاً والرطب واليابس في أرجاء الأرض جميعاً . . إن هذا المشهد كما أنه لا يتجه إليه الفكر البشري والاهتمام البشري وكذلك لا تلحظه العين البشرية ولا تلم به النظرة البشرية . . إن هذا المشهد إنما يتكشف هكذا بجملته لعلم الله وحده المشرف على كل شيء المحيط بكل شيء الحافظ لكل شيء الذي تتعلق مشيئته وقدره بكل شيء.

ومن أجل ذلك كان جوهر الرسالات والكتب هو تقرير ألوهية الله - سبحانه - وربوبيته وحده للعباد:

وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ " 21:25

اجمالي القراءات 17000