ف1 :سادسا : جهود البدوي فى المرحلة الثانية ( 658-675هـ )

آحمد صبحي منصور في الأحد ١٥ - مايو - ٢٠١١ ١٢:٠٠ صباحاً

السلطان بيبرس كخبير فى التآمر :

1ـ انتهت المرحلة الأولى وقد انتشر دعاة البدوي فى المنطقة ، والجو السياسي فى صالحهم من ضعف للسلاطين وانهماك فى الفتن والمؤامرات وقلق سياسي أسفر عن انهيار الدولة الأيوبية وقيام الدولة المملوكية التى انشغلت فى تأسيس بنيانها ومواجهة الطامعين من بنى أيوب والصليبيين والمغول . ثم كان توطيد الحكم المملوكي واستقراره على يد الظاهر بيبرس ،ذلك التوطيد الذى استقر بعده الحكم المملوكى  طيلة الدولة البحرية ثم البرجية على أثره&Cceا ، حيث ظلت الدولة المملوكية تتربع على عرش الصدارة فى المنطقة حتى انهارت على يد الدولة العثمانية سنة 921هـ .

    وإذا كان البدوي قد استفاد من فترة الخلل السياسى فإن عليه أن يواجه المأزق حين أخذ بيبرس على عاتقه أن يوطد الدولة المملوكية فى الداخل والخارج ، ولن يكون توطيد الدولة المملوكية فى الداخل إلا على حساب البدوي ودعوته السرية وسائر المستفيدين من الضعف الداخلى للدولة الوليدة .

 والواقع أن زمام المبادرة فى هذه المرحلة انتقل إلى يد الظاهر بيبرس الذى كان شعلة من النشاط لا تهدأ فى الداخل والخارج ، بحيث أنه من الأنسب أن نجعل العنوان (جهود بيبرس ) لا(جهود البدوي ) لأن البدوي فى هذه المرحلة اقتصر عمله على رد الفعل دون البدء به .

    وقد احتل الظاهر بيبرس المكان اللائق به فى التاريخ المصرى الوسيط وفى الوجدان الشعبى فحيكت سيره (الظاهر بيبرس ) التى تتناول بطولاته ضد الصلبيين ومهاراته فى المؤامرات..

وإذا وضعنا البدوي بإزاء بيبرس لرأينا خصمين لا يقل أحدهما عن الآخر فى فن المؤامرات والدهاء الأمر الذى يجعل المباراة بينهما شيقة مثيرة  لو اتحفتنا المصادر التاريخية بما يشفى الغليل ، لولا أن تميزهما معاً بالدهاء والتستر والتآمر جعل المصادر التاريخية لاتذكر من أعمالهما إلا ما ظهر وبان للعيان فقط .أما ما بطن وخفى فقد وقع علينا عبئه، وعلى الله جل وعلا التوفيق .

  2 ـ  ونبدأ بالتعرف على جانب من شخصية الظاهر بيبرس ، ذلك الذى أرهق الوجود الصليبي فى الشام والدولة المغولية فى العراق والمملكة النوبية فى الجنوب والأرمنية فى الشمال وأكد نفوذه فى الشام ومصر والحجاز ، وقد عانى أعداؤه جميعا من دهائه الخارق وحيويته الدافقة ونشاطه المستمر فى الحروب مع المؤامرات . 

    ونشاط الظاهر بيبرس فى فن المؤامرات هو الجانب الذى يهمنا فى بحثنا للبدوي كزعيم لآخر مؤامرة شيعية ضد الدولة المملوكية فى عهد الظاهر بيبرس ،ولقد تعرفنا على البدوي ودهائه فى المرحلة الأولى لدعوته وبقى أن -نتعرف فى المرحلة الثانية على خصمه الجديد ومدى دهائه فى التآمر هو الآخر .

    والواقع أن سجل بيبرس فى التآمر لا يحسدعليه ،فالمماليك – عموما- أساتذة  فىفن المؤامرات تعلموها فى المدرسة الأيوبية حيث كانوا عنصراً فى حلقات التآمر التى كانت لا تنتهى بين أبناء الأسرة الأيوبية . ثم مارسوها على نطاق شخصى حين آل الأمر إليهم دون الأيوبيين ، وأقاموا دولتهم المملوكية فبدأ التآمر فيما بينهم يأخذ الطابع المحلى ، وعلى أساس مقدرة أحدهم فى التآمر كان وصوله إلى السلطة أو إلى الدار الآخرة قتيلاً ليرثه القاتل المنتصر والذى هو بالطبع أكثر دهاء وتآمراً .

   وقد مارس بيبرس هذه اللعبة منذ بدايته، ويكفى أنه بالتآمر وصل إلى أن يكون أحد أعمدة المماليك البحرية وأحد كبار الأتباع لأقطاى زعيم البحرية .وحين قتل أقطاى بسيف قطز وتشرد بيبرس مع أتباعه فإنه لم ينس هزيمته أمام (خشداشيه )أو( زميله )قطز وأقسم أن يكون قطز من قتلاه ..وفعلا.. تآمر على قتل السلطان قطز بعد أن راسله قطز  واستقدمه وأعطاه الأمان وولاه قصبة قليوب وبّر بيبرس بقسمه فقتل السلطان قطز صديقه القديم قاتل استاذه أقطاى عند  الصالحية بعد أن هزم قطز المغول فى عين جالوت.  وتولى بيبرس السلطنة نتيجة مؤامرة نفذها بسيفه الملوث بدماء السلطان قطز .

       ولم يقلع بيبرس بعد توليه السلطنة عن ممارسة التآمر ضد خصومه وما أكثرهم ، وحتى يتيح لنفسه أكبر قدر من الحرية كان يفضل التخفى والتستر حين يباشر التآمر بنفسه ،وهكذا كان ( التنكر ) سمة أساسية فى النشاط السرى للظاهر بيبرس وسياسته .

    يقول المقريزى فى حوادث سنة 663 (وفيها نزل السلطان من قلعة الجبل متنكرا وطاف بالقاهرة ليعرف أحوال الناس [1]) وفى حوادث سنة 665 يقول أنه بلغه أن جماعة من الفرنج بعكا تخرج منها غدوة وتبقى فى ظاهرها فسرى – أى سار ليلا ببعض عسكره ( وأمر بالركوب خفية فركب وقد اطمأن الفرنجة فلم يشعروا به إلا وهو على باب عكا ووضع السيف فى الفرنج ) [2]واشتهر عنه أنه بعد سقوط أنطاكية طلبت إمارة طربلس الصليبية الصلح فأوفد بيبرس وفداً للمفاوضة ودخل المدينة بنفسه ضمن وفد المفاوضات متنكراً فى زى خادم ليتعرف خبايا المدينة ويدرسها تمهيداً لحصارها فيما بعد .

    وقد عقد الظاهر بيبرس لابنه السعيد بركه بولاية العهد .. ولكى يطمئن  على سير الأمور فى مصر أثناء غيابه فى الشام (خطر للسلطان أن يتوجه إلى ديار مصر خفية فكتم ذلك وكتب للنواب بمكانه ) وادعى المرض حتى لا يدخل عليه أحد ثم تسلل(ولبس السلطان خوجة مقطعة ،وقصد أن يخرج ولا يعلم به الحراس ) وسار من الشام حتى وصل قلعة الجبل (وعندما خرج الملك السعيد ليركب ما أحس إلا والسلطان قد خرج إليه فرعب منه وقبل الأرض ) ثم عاد للشام إلى حيث معسكره ،يقول المقريزى (ومشى كل ما وقع على العسكر  ولم يعلم به سوى الأتابك والاستادار والداودار وخواص الجامدارية ..وقصد بما فعله أن يكشف حال مملكته وتعرف أحوال ابنه الملك السعيد فى مصر فتم له ما أراد )[3].

وقد أعان بيبرس على تنفيذ سياسته تلك أن (رتب البريد فى سائر الطرقات فكان الخبر يصله من قلعة الجبل إلى دمشق فى أربعة أيام ويعود فى مثلها فصارت أخبار الممالك ترد إليه فى كل جمعة مرتين ويتحكم فى سائر الممالك من العزل والتولية وهو مقيم فى قلعة الجبل [4]) .

ومع ذلك فلم يمكث بمكان واحد بل كان على حد قول المقريزى نفسه(مقداماً خفيف الركاب طول أيامه يسير على الهجين وخيول البريد لكشف القلاع والنظر فى الممالك فركب للعب الكرة فى الأسبوع يومين بمصر ويوما بدمشق ، وفى ذلك يقول سيف الدولة المهندار من أبيات يمدحه فيها :

 يوما بمصر   ويوما بالحجاز   وبالشام يوما    ويوما فى قرى حلب [5]

 

  وحين يكون بمكان ويصله خبر بالبريد عن تحرك أعدائه يبادر بالتحرك إليهم ، فكانت أيامه حركة مستمرة ،من ذلك ما يقوله المقريزى فى حوادث سنة 668 (صلى الجمعة فى الكرك ( الأردن ) ، وساق إلى دمشق والناس فى مصر لا يعرفون شيئاً من خبر السلطان هل هو فى الشام أو الحجاز أو غيره ولا يستطيع من مهابته والخوف منه أحد أن يتكلم ، ثم وصل إلى قلعة الجبل ودخل إلى الأسكندرية ، وتوجه إلى الحمامات ونزل بالليونة فبلغه هناك حركة التتار وأنهم واعدوا فرنج الساحل فعاد إلى قلعة الجبل وسار السلطان من قلعة الجبل ومعه نفر يسير فوصل إلى غزة ثم دخل دمشق [6]).

  وبيبرس كخبير فى المؤامرات كان يدرك أن أسهل الطرق لمواجهة مؤامرات الخصوم أن يحتاط لها ولا ينتظر حدوثها بل يبادر بالقضاء على من يخشاه مقدماً قبل أن تنشب الفتنة ، وذلك خط أساسى فى جهد بيبرس السياسى من ذلك ما فعله مع المغيث الأيوبى صاحب الكرك الذى تحايل عليه واستحضره فاعتقله ثم قتله بعدها [7]وكان لبيبرس صديق من أمراء المماليك الطموحين ( وقد ولاه الملك الظاهر شد الدواوين بمصر والقاهرة فأطلق فى مدة أربعين يوما ثمانمائة فرس فبلغ ذلك السلطان فقال : هذا ما نيتة خير ..وكان بينه وبينه مودة عظيمة فما أمكنه إلا أن عزله [8])

    وبذلك نتعرف على بعض الملامح الـتآمرية لدى الظاهر بيبرس بعد توليه السلطنة ،فهو فى وضعه الجديد – الذى وصل إليه بالتآمر– يواجة مؤامرات خصومه بأدوات الحكم فهو يرتب البريد وينظمة ، والبريد أهم وسائل التجسس وبه أصبحت أخبار البلاد تصله فى مدة قياسية حيثما كان ،وعن طريق جواسيسه المنتشرين وبريده السريع المنتظم كان يبادر بالتحرك السريع لمواجهة الموقف بل أنه كان لا ينتظر وقوع الفتنة ، وبمجرد أن يشم احتمال حدوثها كان يبادر بالقضاء عليها قبل أن تكتمل ملامحها ، وساعده على ذلك كله خبرة سابقة بآلتامر وحيوية دافقة لا تعرف الكلل .

   وهذه الملامح نتبينها فى موقف الظاهر بيبرس من الدعوة الشيعية المستترة بالتصوف ، ولأن مؤرخي عصره كانوا يرصدون تحرك السلطان الظاهرى دون فهم لنواياه الخفية فأننا نربط الحوادث على ضوء فهمنا لسياسة السلطان الظاهر بيبرس ذلك الذى وصل بالتآمر ولن يسمح لمتآمر أن يغلبه وهو (سلطان المتآمرين ).

حركة الكوراني وذيولها :

  ومن سوء حظ البدوي أن الظاهر بيبرس واجه فى أولى سنوات حكمه مؤامرة الكوراني الشيعية الصوفية ،ففى أثناء اشتغال المماليك بمواجهة الخطر المغولي سنة 657 بدأت دعوة الكوراني السرية فقبض عليه(وضرب ضرباً مبرحاً [9])وأطلق من اعتقاله فأقام بالجبل الأحمر . وفى العام التالي قتل بيبرس قطز وتولى السلطنة وكانت العامة تتخوف من تسلط  المماليك البحرية فى عهد الظاهر بيبرس واستغل الكوراني الشعور العدائي للسلطة الجديدة فقام بحركته الصوفية الشيعية العسكرية ..يقول المقريزي فى حوادث سنة 658 (وفيها ثار جماعة من السودان والركبادارية وشقوا القاهرة وهم ينادون (يا آل علي ) وفتحوا دكاكين السيوفيين من العصر وأخذوا ما فيها من السلاح واقتحموا اصطبلات الأجناد وأخذوا منها الخيل ، وكان الحامل لهم على هذا رجل يعرف بالكوراني أظهر الزهد وحمل بيده مسبحة وسكن قبة بالجبل وتردد إليه الغلمان فحدثهم فى القيام على أهل الدولة وأقطعهم الإقطاعات وكتب لهم بها رقاعاً ، فلما ثاروا فى الليل ركب العسكر وأحاطوا بهم وربطوهم فأصبحوا مصلوبين خارج باب زويلة وسكنت الثائرة [10]).

   فالشيخ الكوراني خطط جيداً لحركته العسكرية ، فقد اختار الوقت المناسب واصطنع التصوف والزهد والمسبحة وسكن قبة بالجبل ، وكون خلايا عسكرية من بين الغلمان الخدم المنوطين بخدمة الفرسان المماليك ،ورسم لهم خطط الهجوم بانتزاع السلاح وسرقة الخيل والهجوم على ثكنات المماليك على أن يسبق الهجوم مظاهرة مسلحة تنادى (يا آل على ) لينضم إليها العامة أو (الزعر) وهم كارهون للبحرية وزعيمهم بيبرس السلطان  الجديد .

 وقضى على المؤامرة الوليدة ..

وما كان لبيبرس أن تمر عليه هذه الحادثة دون دراسة وانتباه. من ذلك أنه فى العام التالى سنة 659 (رتب البريد فى سائر الطرقات ) ليكون على أهبه التحرك عند أى طارئ ،واستمال العامة فأزاح عن كاهلهم الضرائب التى فرضها سلفه قطز حين تجهز للقاء المغول  ...

   ولأنه أدرك أن هدف الكوراني يتمثل فى الخلافة الشيعية التى تحل محل الخلافة العباسية المنهارة  فقد عمل بيبرس على بعث الخلافة العباسية السنية فى مصر لتكون واجهة  لحكمه وسنداً لسلطته ضد أى تحرك يقوم به الشيعة على الخصوص ، وهكذا ففى العام التالى لحركة الكوراني استقدم أحد العباسيين وتمت البيعة له باسم الخليفة المستنصر ، وكان المستنصر طموحاً فتخوف منه بيبرس وعزم على التخلص منه فأوفده بجيش قليل لاسترداد بغداد فهزمه المغول وقتلوة سنة 660 هـ ، فعين بيبرس خليفة آخر هو الحاكم سنة 661 وحتى يضمن الأمان لسلطانه من طموح الخليفة الجديد جعل من القاهرة ملجأ للأمراء العباسيين الفارين ليهدد الخليفة الجديد بالعزل وتولية أحدهم مكانه إذا حدثته نفسه بالتدخل فى شئون الدولة.

   وهكذا كان بيبرس يبادر بعلاج أسباب الفتنة قبل أن تحدث حتى إنه حين بلغه من جواسيسه أن الخليفة الجديد يقوم ببعض الاتصالات حجبه عن الناس لأن (أصحابه كانوا يخرجون إلى الناس ويتكلمون فى أمر الدولة [11]) أى السياسة .

وربط بيبرس فى دراسته لمؤامرة الكوراني بين حركة الكوراني وحركة الشريف حصن الدين ثعلب الشيعية التى ساندها الأعراب وأقامت دولة فى الشرقية ومصر الوسطى ثم قضى عليها أيبك واعتقل الشريف حصن الدين فى الأسكندرية .

    وقد جاء بيبرس للحكم وحصن الدين لم يزل معتقلاً ،وبعد حركة الكوراني بث العيون حول أصحاب حصن الدين .. وحينما نمى إلى علمه أن الشريف السرسناوي يتردد إلى حصن الدين فى حبسه أمر بشنقهما معا [12].

وشك بيبرس فى طموح صديقة الأمير المملوكى الذى أشرنا إليه سلفاً والذى (ولاه شد الدواوين بمصر والقاهرة فأطلق فى مدة أربعين يوما ثمانمائة فرس فبلغ ذلك للسلطان فقال : هذا ما نيته خير ،وكان بينه وبينه مودة عظيمة فما أمكنه إلا إنه عزله )، والجديد أن ذلك المملوك (كان يدعى أن أصله شريف علوى من العجم [13]) .

   ودرس بيبرس نشاط الكوراني السابق فعلم أن الكورانى قد اعتقل فى العام السابق لحركته (بسبب بدع ظهرت منه وجدد اسلامه الشيخ عز الدين ابن عبد السلام وأطلق من الاعتقال فأقام بالجبل الأحمر )[14].أى لولا توبة الكوراني على يد الشيخ عز الدين بن عبد السلام لما أخرج من المعتقل وما قام بحركته أصلا ..

وكان عز الدين بن عبد السلام سلطان العلماء فى عصره ومعٌلماً بارزا فى تاريخ القرن السابع جاء لمصر غاضباً من الصالح إسماعيل الأيوبي المتعاون مع الصليبيين ضد الصالح أيوب سلطان مصر ، وأحرز مكانة عالية بين المصريين حكاماً ومحكومين ،إلا أنه اتصل بالشاذلي وتصوف فصار – وهو الفقيه الواعظ – ( يحضر السماع ويرقص )[15]أى يرقص فى حفلات  الصوفية شأن المريدين ،وقد سبق القول بأن الشاذلي كان واجهة صوفية فى الاسكندرية للدعوة السرية بعد موت رائدها أبى الفتح الواسطي ، ومن الطبيعى أن تستغل الدعوة فقيهاً شهيراً كإبن عبدالسلام بعد أن أحدثت هذا التحول الخطير فى حياته وحولته من فقيه ثائر إلى مريد راقص.  إلا أن أمر عز الدين ابن عبد السلام لم يتأثر بانخراطه فى التصوف ،فالتصوف مرعي الجانب من السلطات طالما لا تشوبه شائبه من طموح سياسي ..ولم تستطع السلطة المملوكية فى عهد قطز أن تشك فيه من هذه الناحية ، بل على العكس لجأ إليه قطز ليستعين به فى فرض الضرائب لمواجهة المغول فرفض ابن عبد السلام أن تؤخذ أموال العامة وقال (إذ لم يبق فى بيت المال شئ وأنفقتم الحوائص من الذهب ونحوها من الزينة وساويتم العامة فى الملابس سوى آلات الحرب ولم يبق للجندى إلا فرسه التى يركبها ساغ أخذ شئ من أموال الناس [16]). ولم يأخذ قطز بفتوى عز الدين بن عبد السلام ففرض ضرائب باهظة على الناس ،ومع ذلك فلم تتأثر مكانة ابن عبد السلام بموقفه المشرف هذا ،وبعدها كان اطلاقه للكوراني حين اعتقل اشتباهاً فى نشاطه السياسي بحجة أنه ( ظهرت منه بدع ) استوجبت اعتقاله وضربه ضربا مبرحا وليس ذلك مألوفا فى التعامل مع صوفى معتقد يقصده الناس معتقدين فى كراماته وولايته كالكورانى . وبعد حركة الكورانى أحاطت شكوك الظاهر بيبرس بسلطان العلماء (عز الدين بن عبد السلام)، وليس غريبا حينئذ أن تعقد له جلسات لمحاكمته لأسباب غامضة ،يقول الشعرانى عنه ( وعقدوا للشيخ عز الدين بن عبد السلام مجلسا فى كلمة قالها فى العقائد) [17]، ومفهوم أن تعقد للصوفى العادى محاكمات بسبب الشطح ، أما من غير المفهوم أن يتهم بذلك فقيه شهير كان سلطاناً للعلماء فى عصره متمتعاً بالحظوة لدى الحكام والمماليك على وجه الخصوص بحيث يتجرأ على القول أمامهم بكلمة حق دون خوف أو دجل ،ومن غير المفهوم أيضا أن تعقد لهذا الفقيه الخطير الشأن جلسة للمحاكمة حول كلمة يقولها فى العقيدة ،وهو أدرى بخطورة هذا الاتهام المسلط دائما على رقاب الصوفية ذوى الشطحات . ومن غير المفهوم أيضا أن تجرى هذه المحاكمات فى جو من السرية بحيث لا ترصدها المصادر التاريخية وهى مغرمة بتقصى اخبار المشاهير ومنهم ابن عبد السلام .

       والتفسير الوحيد لهذه الألغاز هو فى الربط بين عزالدين بن عبد السلام والدعوة السرية الشيعية ونشاط الشيعة المستتر بالتصوف فى عهد حاكم داهية كالظاهر بيبرس يعالج أموره بالكتمان ويقابل التآمر بتآمر أعتى وأشد ويتبع خيوط المؤامرة بنفسه ويبادر بالقضاء على أعوانها مهما سمت مراكزهم إذا توفر له دليل أى دليل .

 لقد انحسرت الأضواء عن ابن عبد السلام منذ حركة الكوراني إلى أن مات سنة 660 هـ ، ونحن لا نجزم بوجود علاقة ما بين الكوراني وابن عبد السلام ولكننا نرجح أن يكون موقف ابن عبد السلام من الكورانى فى محنته سنة 657 نابعاً من تأثره وتشبعه بالدعوة الشيعية الصوفية التى أشربها عن طريق الشاذلي صديقه .. ولم يجد الظاهر بيبرس فى موقف ابن عبد السلام إلا ما يستوجب الاتهام فإتهمة ..ولعله كانت لديه أدلة أكثر حسماً من مجرد الشكوك برر بها التطور الجديد الذى قام به الكوراني ، ففى أقل من عام بعد خروجه من المعتقل كانت جماعاته المسلحة تطوف القاهرة وتبغى الاستيلاء على السلطة وتهتف (يا آل على ).

انعكاسات حركة الكورانى على دعوة البدوى  :

    ومن الواضح أنه لا صلة مباشرة بين حركة الكوراني ودعوة البدوي مع اتفاقهما فى (الهدف) وهو إقامة الحكم الشيعي و(التخطيط الأساسي ) وهو استغلال التصوف وتكوين الأتباع ، إلا أن هناك نوعاً من الاختلاف بين الحركتين نلمسه فى التمهل الذى تسير عليه الدعوة الشيعية الصوفية بدءاً من الرفاعي وانتهاءاً بالبدوي ، بالإضافة إلى ميل هذه الدعوة للابتعاد عن العواصم ومراكز التحكم السياسي مع شموليتها للمنطقة داخل وخارج مصر ،أما حركة الكوراني فالأغلب أنها حركة محلية من الأتباع المتبقين من أنصار الدولة الفاطمية الآفلة بدليل اعتماد صاحبها الكوراني على جماعات السودان ، وقد كان السودان يمثلون الحرس الفاطمي الذى أرهق صلاح الدين فى بدايته بالمؤامرات ، وإذا كان قد قضى عليهم عسكرياً فإن بقاياهم وذرياتهم كانت لا تزال موجودة تطوى القلوب على الجمر تتحين الفرصة ، وقد واتتها فى حركة الكوراني الفاشلة .

ومع ذلك فإن التسرع الذى اتسمت به حركة الكوراني وأدى إلى فشلها   كان عاملاً هاماً فى لفت نظر بيبرس للتآمر الشيعي المستتر بالتصوف مما دفعه لبث العيون وتنظيم البريد حتى لا يؤخذ على حين غرة ،وإقامة الخلافة العباسية ليقطع الطريق على هدف الشيعة فى الخلافة الفاطمية ، ثم اجتث جذور التآمر أو ما يشك فيه كتآمر فقتل الشريفين حصن الدين والسرسناوى وعزل صديقه المملوكي مدعى النسب العلوى وحاكم عز الدين بن عبد السلام .

      ثم بدأت عيونه ترصد تجمعات المتصوفة وفوجئ بيبرس بداعية مجهول غامض يحتل مكانا هاما فى وسط الدلتا هو أحمد البدوى ،ودعاته أو أتباعه منتشرون ،وكان كشف البدوي أمام أعين الظاهر بيبرس هو الهدية الغير منتظرة من الكوراني لرفيقة الشيعي الصوفي البدوي

. يقول الشيخ مصطفى عبد الرازق (ولكن سرعان ما أدرك السيد البدوي أنه محاط بالجواسيس من كل مكان وأن صاحب مصر قد وقف على نيته فانقلب يعلم الناس النحو والصرف وقرأ دروساً فى الفقه على المذهب الشافعي ولبث سنين لا يجتمع بأحد من السطوحية فى مجلس ظاهر )[18]. ولم يكن البدوي بالشخص الذى يؤخذ على غرة ،فأتباعه منتشرون والاتصلات بينهم وبينه مستمرة ومستقرة ، وقد علم بشنق حصن الدين والسرسناوى فى الاسكندرية ،وبلغته أخبار فشل الكوراني ونهايته مع أتباعه فى القاهرة ، وقبل كل ذلك كانت لديه عين على الظاهر بيبرس نفسه ينبئه بما ينبغي عليه فعله ،إنه الشيخ خضر العدوي المهراني الكردي تلميذ أبى السعود بن أبى العشائر الواسطى [19]مبعوث الرفاعى للقاهرة ،والذى أصبح شيخاً للظاهر بيبرس ومتمتعا بالنفوذ فى عهده .

خضر العدوي بين الظاهر بيبرس والبدوي :

ففى فترة (التيه ) التى قضاها الأمير بيبرس البندقداري فى الشام الأيوبي بعد هروبه من مصر التقى بخضر العدوي ،وكان خضر العدوي الكردي تلميذاً نشطاً لأبى السعود بن أبى  العشائر فى مصر .وفد إليه وكون مع داوود (المغربي )وشرف الدين (الكردي )وحسين (الجاكي ) خلية صوفية متحركة بين الشام والعراق ومصر .

 وفى فترة الاضطراب هذه والتى تنبئ بعلو شأن البحرية وضع الشيعة أعينهم على بعض الطموحين من المماليك البحرية يبشرونهم بتولى السلطنة ، حيث شاع فى العصر الإيمان بكرامات الأولياء وعلمهم بالغيب ،وكان من نصيب خضر العدوي أن التقى بالظاهر بيبرس وقت أن كان أميراً هارباً فى الشام فبشره بالسلطنة ، وفى هذا الوقت حيث كان بيبرس يعيش بحد سيفة خادماً لهذا الأمير الأيوبي أو ذاك فإن تبشيره بالسلطنة من صوفى معتقد كالشيخ خضر لابد أن يترك فى نفسه أثراً ، ويحفزه لتحقيق أطماعه التى أضاعها قطز حين قتل أقطاى أستاذ بيبرس . وبينما يسير بيبرس فى الشام شريدا بين صغار الأيوبيين المتنازعين فإن غريمه قطز يتولى السلطنة بعد أن مهد لعز الدين أيبك أستاذه من قبل وعلى حساب أقطاى وبيبرس .و هكذا فمن بين سياسة (التبشير ) بالسلطنة بين الأمراء البحرية فى هذا العصر المضطرب أفلح خضر العدوي فى حفز الأمير بيبرس البندقداري ليرجع إلى غريمه قطز فى مصر رافعاً راية الاستسلام وفى نفسه عزم على الانتقام والوصول للسلطنة .

   يقول أبو الفدا (سار بيبرس إلى غزة وراسل قطز وأرسل إليه علاء الدين طيبرس يطلب منه الأمان فكتب إليه قطز بالأمان ووعده بالوعود الجميلة )[20]. وسارت الأمور على نحو ما نعرف .عاد بيبرس فشارك فى حرب المغول ثم انتهز الفرصة حين الأوبة من الانتصار فقتل السلطان قطز وتولى مكانه. وتحقق أمل الشيعة الصوفية مع أمل بيبرس الذى تنبأ له  خضر العدوي بالسلطنة ، فاعتقد بيبرس فى كرامات وولاية الشيخ خضر ، وتقدم خضر فى سلطنته وسمح له بيبرس  بنفوذ وهو الذى يهابه الجميع ولا يسمح لرأس بالظهور فى دولته ، واستخدم خضر هذا النفوذ فى خدمة الدعوة.

ومع أننا لا نعرف على وجه القطع أوجه العلاقات بين البدوي وخضر العدوي وسبل الاتصال بينها ،إلاّ نلحظ وجود هذه العلاقه الغامضة بين الأطراف الثلاثة (الظاهر بيبرس –خضر العدوي –البدوي ) من تتبع المصير الذى آل إليه خضر العدوي ثم البدوي فى دولة الظاهر بيبرس.  والملاحظ أنه مع اهتمام المؤرخين برصد تاريخ الشيخ خضر العدوي وعلاقتة بالظاهر بيبرس فإن الغموض وجد طريقة إلى هذه العلاقة مع أنها تطفو إلى السطح الذى يهتم به المؤرخون عادة فى هذا العصر. وقد أبانت المصادر التاريخية النفوذ الذى تمتع به خضر العدوي فى دولة الظاهر بيبرس وأن مرد ذلك النفوذ إلى أن الظاهر كان يعتقد فى ولايته ويعظمة منذ أن بشره بتولى السلطنة ثم يتحدثون عن نكبتة واعتقاله . ويلخص السيوطي ذلك كلة فى ترجمة لخضر العدوى بقوله فيه (كان الظاهر بيبرس يخضع له ثم تغير عليه وأراد قتله سنة 671 فقال له :إنما بينى وبينك فى الموت شئ يسير فوجم لها السلطان وتركة )[21]ونحو ذلك ما يقوله الشعراني (الشيخ خضر الكردي شيخ الملك الظاهر بيبرس أبى الفتوحات ،كان به الإلمام الكثير والتصوف والكشف والهمة والمدد ،وكان السلطان ينزل كثيرا لزيارته ويحادثه بأسراره ويستصحبه فى أسفاره فرمى أولاد الحلال بينه وبينه فنقم عليه وحبسه ، فطلع للسلطان جمرة رعت ظهره فأرسل يتعطف بالشيخ وأطلقه فقال : أجلى قريب من أجل السلطان فماتا قريبا من بعضهما ، والشيخ خضر قبله بأيام فى سنة خمس وسبعين وستمائة ، وكان حبس الشيخ اربع سنين ـ ومع ذلك كان يرسل له الأطمعة الفاخرة إلى الحبس )[22].

 وبغض النظر عن تلك (الجمرة )التى ألصقها الشعراني- دون غيره – بالظاهر بيبرس ظلما وعدوانا وإثباتا لنفوذ مزعوم للأولياء الصوفية – فإن الترجمة التى أوردها لخضر العدوي لم تخل من بعض الصدق كقوله عن علاقة الظاهر بخضر (وكان السلطان ينزل كثيرا لزيارته وحادثه بأسراره ويستصحبه فى اسفاره ) فقد أشار الكثيرون إلى نفوذ خضر الواسع فى دولة الظاهر الذى كان يعتقد بعلمه بالغيب ويستشيره ويسمع له ويطيع . وحين وصل الشعرانى إلى نكبة خضر أسندها إلى (أولاد الحلال ) وتدخلهم بين السلطان وخضر .والواقع أنه مهما قال (أولاد الحلال ) فى شأن الشيخ خضر فلن يكون ذلك سببا فى إصرار السلطان على قتله إلا إذا كان خضر متآمرا على السلطان ، فتلك هى الجريمة الكبرى فى نظر بيبرس والتى لا يعدلها إلا اعتقاده فى خضر ومعرفته بالغيب إلى درجة أنه أوسع لنفوذه فى الظهور فى  دولته ،وهكذا عدل الظاهر بيبرس عن تصميمه على قتل خضر حين هدده الأخير بعلم الكشف – أو الغيب – أنهما متقاربان فى وقت الوفاة ..فكان أن اعتقله مكرماً إلى أن مات ،وتخلص خضر بهذه الحيلة وكان لابد أن ينجو بها . وجدير بالذكر أن النويري [23]أسهب فى الحديث عن انحرافات الشيخ خضر الخلقية مع النساء والصبيان وجعل منها سببا سياسيا فى نكبته ،وأشار إلى ذلك ابن كثير بايجاز [24]،ولعل الشيخ خضر وقد بلغ حينئذ من الكبر عتيا – كان يموه بعلاقاته تلك عن حقيقته كداعية سرى فى مركز خطير بدليل أنه لم يدفع عن نفسه هذا الاتهام الذى جاء فى أخريات حياته ،وتلك عادة الشيعة المتصوفة كما رأينا مع الرفاعي ونسج القصة المنسوبة للبدوي مع فاطمة بنت بري ومع أبى العباس الملثم . وما كان للظاهر بيبرس أن يعول على هذا الاتهام ويجعل منه سببا لقتل شيخه العجوز الذى يعتقد ولايته واطلاعه على غيب الله – فالسبب الحقيقى هام وخطير يتعلق بالسياسة والتآمر ، خاصة وأن المؤرخين اللاحقين للنويرى تجاهلوا هذا الاتهام بل أن النويرى نفسه ذكر أن من اتهم خضر العدوى بتلك التهم كانوا الأمراء القريبين من الظاهر بيبرس ولم يخل اتهامهم من محاولات التلفيق وقد استند إلى ماضى خضر أكثر من حاضره . والواقع أن ماضى خضر الخلقى لم يكن نظيفا ، إلا أن بعثه من مرقده فجأة ومحاسبته به حين اشتعل رأسه شيبا ليعد دليلا على محاولة متعمدة للتغطية على شئ أخطر ،ولما كان خضر لا يمانع فى هذه التغطية أيضا فقد شارك فيها بعدم الدفاع عن حاضره حرصا على بقاء الدعوة الشيعية وخوفا أن تمتد أصابع بيبرس لتصل إلى عنق البدوي فى طنطا وأتباعه فى الشام والحجاز.

لقد كان الظاهر بيبرس يعتقد فى التصوف اعتقاداً زائدا ولم تؤثر نكبة خضر فى هذا الاعتقاد بشئ ..وإذا عرفنا أن الظاهر بيبرس ظل من سنة659 إلى 671 يسمع لخضر العدوي ويطيع ، ويستشيره ويستصحبه فى أسفاره لأدركنا أن محاولات بيبرس الخفية لكشف غموض البدوى ودعوته ذهب هباءاً .. حتى إذا حدثت نكبة خضر وانحصرت فيه وحده كان بيبرس قد تيقن تماماً – كما أرادوا له – من أن البدوي مجرد صوفي مجذوب ..وكان البدوي – من ناحيته – قد أيقن ان آماله مستحيلة فى وجود حاكم شديد التحرز والدهاء كالظاهر بيبرس كثير الشكوك والارتياب ، ميال للعنف والانتقام – وبعد ذلك كله فهو شديد الاعتقاد فى التصوف ،إذن فتظل راية التصوف مرفوعة ولتتجمد الحركة السرية إلى حين .

وهذا ما حدث وموعدنا الان مع تفصيل لذلك

 

الظاهر بيبرس والبدوي :

فى أعقاب حركة الكوراني الفاشلة جاءت الأنباء للظاهر بيبرس باكتشاف شيخ صوفي مجهول فى طنطا تحيطه الأساطير والألغاز ومع تستره وغموضه فأتباعه منتشرون فيما بين القاهرة والاسكندرية والدلتا ، ولا شك أن ذلك الاكتشاف لم يأت دفعة واحدة فجائية ، ولم يتعرف أعوان الظاهر بيبرس على أتباع البدوي الموزعين فى الأمصار من أول نظرة ..وإنما تم ذلك على دفعات ومراحل يمكن أن نرصدها من محاولات بيبرس المتصاعدة لكشف هذا اللغز . وقد بدأت الأخبار ترد عن البدوي كداعية صوفى مجهول فى طنطا ..ولتخوف بيبرس من هذا الصنف فإنه أولا كلف القاضي تقى الدين بن دقيق العيد بأن يتحرى أمر البدوي ، ولما كانت السلطات لا تعرف الصلة بين البدوي والدريني فقد عهد ابن دقيق العيد للدريني بالذهاب للبدوي والكشف عن حاله ....ومن الطبيعي أن يرتب عبد العزيز الدريني الأمر مع البدوي ليقتنع ابن دقيق العيد ببراءة موقف البدوي ..

وقد رددت المصادر الصوفية تكليف الدريني من لدن ابن دقيق العيد بتحرى أمر البدوي فقالت (أن الشيخ تقى الدين بن دقيق العيد أرسل إلى سيدى عبد العزيز الدريني وقال له امتحن هذا الرجل الذى اشتغل – الناس بأمره ).أو ( أن الشيخ تقى الدين قاضي القضاة لما سمع بسيدي أحمد البدوي واشتهر أمره أرسل اليه سيدي عبد العزيز الدريني ليخبره عن حاله ) ،أو أن قاضى القضاة ابن دقيق العيد ( كان ينكر على الشيخ أحمد البدوي فأرسل كتابا إلى الشيخ عبد العزيز الدريني يقول له .توجه إلى الشيخ أحمد البدوي واسأله عن العلم فإن أجابك فأساله الدعاء وعرفني بجميع أحواله فتوجه الشيخ عبد العزيز إلى ناحية طندتا وكان المتولي بها القاضي علاء الدين ،فلما وصل  الشيخ إلى طندتا قصد القاضى علاء الدين وأعلمه بأن قاضى القضاة أرسل كتابا يسمى كتاب الشجرة وفيه أحاديث وفقه وأضمر فى نفسه أن الشيخ احمد البدوي إن قرأ هذا الكتاب وأخبر بما فيه فأنا أعتقده وأرد الجواب عنه إلى قاضي القضاة فقيل له : هو فى بيت الشيخ ركين مقيم على سطح البيت فتمشى الشيخ عبد العزيز حتى وصل إلى بيت الشيخ ركين واستأذن الشيخ عبد العال فأذن له فسلم على الشيخ فرد عليه السلام وقال يا عبد العزيز من وصل إلى مقام التسليم فاز برياض النعيم جئت تسأل عن العلم وفى كمك كتاب الشجرة ..إلخ [25])

ومع أن المصادر الصوفية تتجاهل الصلة المعروفة بين الدريني تلميذ أبى الفتح الواسطي والبدوي خليفة أبى الفتح الواسطى ومع أنها حوّلت الموضوع إلى اختبار لعلم البدوي بالغيب – ولا يعلم الغيب إلا الله – وأنهم جعلوا من البدوي فائزا فى هذا الاختبار .. مع ذلك كله فإن رائحة الأتفاق المسبق بين البدوي والدريني تبدو من خلال السطور وتنبئ عن أن ذلك اللقاء الذى تم بحضور القاضي المحلى كان مرتبا معدا له من قبل ليخدع قاضى القضاة ابن دقيق العيد وممثله علاء الدين فى الناحية ،واقتنع ابن دقيق العيد مؤقتا . ولكن الظاهر بيبرس كثير الشكوك لم يقتنع فقد جاءته أخبار عن أتباع آخرين للبدوي فكلف ابن دقيق العيد بأن يذهب بنفسه لاختبار البدوي ..وكان البدوي مستعدا للقائه ، وتم اللقاء وخرج منه ابن دقيق العيد وقد سلم للبدوي بحاله .

    وتختلف المصادر فى إظهار الصورة التى قابل بها البدوي ابن دقيق العيد ، يقول الشيخ مصطفى عبد الرازق (نزح ابن دقيق العيد إلى طندتا ،واجتمع بالسيد البدوي فوجده رجلاً عالماً فاضلاً ولم يجد لما نقل إليهم عنه من الضلالات أثراً ولم يشم رائحة الدعوة السياسية لأن البدوى وصحبه كانوا أهل حذق ومهارة وحيطة فعاد ابن دقيق العيد إلى الملك مثنيا على الرجل وكانت هذه الزيارة من أكبر أسباب ترويج الدعوة الأحمدية البدوية [26]) أى أن البدوي ظهر له بمظهر العالم الورع .

    ولكن كتب المناقب تظهر صورة أخرى للبدوي ، صورة المجذوب تارك الصلاة ، يقول عبد الصمد عن كرامات البدوي (ومما وقع لسيدي أحمد البدوي من الكرامات أن الشيخ تقي الدين ابن دقيق العيد وكان قاضي القضاة بالديار المصرية سمع بالشيخ وأحواله فنزل إليه واجتمع به بناحية طندتا وقال له : يا أحمد هذا الحال الذى أنت فيه ما هو مشكور فإنه مخالف للشرع الشريف فإنك لا تصلي ولا تحضر الجماعة وما هذه طريقة الصالحين [27]) .

وقد يبدو هناك تناقض بين الصورتين ،صورة العالم وصورة المجذوب . وقد يدفع هذا التناقض البعض لتصديق رواية دون أخرى، ولكننا نرى أن الصورتين معا تعبران عن شخص واحد بالغ الدهاء ، فهو مجذوب حين يريد وعالم صوفي حين يرغب فى ذلك ، وقد ظهر بالصورتين معا للفقيه المسكين ابن دقيق العيد فسلّم له بحاله حين يكون عالماً وحين تأخذه الجذبة فينقلب إلى النقيض تماما ، وترك البدوى ابن دقيق العيد وقد انشغل عن القضية الأساسية وهى الشكوك فى الدعوة السرية إلى محاولة الحكم على البدوي وشخصيته المتناقضة بين العلم والجذب ، وبينما أثنى على علمه وحديثه عاتبه برفق على جذبته وتركه الصلاة .وعلى الرغم من أن تقى الدين كان قاضيا للقضاة ومنتظرا منه كفقيه ألا يسامح فى ترك الصلاة فإنه ترفق بحال البدوي وجذبته المزعومة فلم يشتد فى الإنكار عليه فى هذه التهمة الخطيرة التى كان شاهدها الأول.ومعنى ذلك أن البدوي قد نجح تماماً مع ابن دقيق العيد فقد جذب انتباهه إلى قضية جديدة لم تكن تدور فى خلده وترك البدوي وقد اقتنع تماماً بسلامة موقفه من الناحية السياسية السرية .

والواقع أن اختيار تقى الدين ابن دقيق العيد بالذات لفحص حالة البدوى كان بمشورة خضر العدوى مستشار الظاهر بيبرس وأمينه على أسراره ، وقد كان اختياراً موفقاً من جميع النواحى ، فلابن دقيق العيد جهد سابق فى حرب الشيعة بالصعيد ومن هذه الناحيه فترشيحه للظاهر بيبرس لاغبار عليه إطلاقاً ..ومن الناحية الأخرى كان ابن دقيق العيد من الفقهاء الميالين للتصوف المؤمنين برجاله ومن هنا يمكن خداعه والتمويه عليه وخداع الظاهر بيبرس من خلاله، وكانت لإبن دقيق العيد صلات بالصوفية المتورطين فى الدعوة الشيعية بدليل أنه لجأ أولا للدريني جاهلاً بالصلة بينه وبين البدوى.

وقد أوسع له الصوفية اللاحقون مكانا فى التراجم الصوفية وعدوه من ضمن الصوفية لارتباطه بقصة البدوي وعلاقته بالدريني .

والجدير بالذكر أنه فى ذلك الوقت كان المقدم من بين القضاة هو تاج الدين ابن بنت الأعز ، وكان منتظرا أن يقوم بالمهمة دون ابن دقيق العيد الذى انحسرت عنه الأضواء لولا أن خضر العدوى كان فى عداء مستمر مع ابن بنت الأعز كما تدل على ذلك المراسلات بينهما [28].

ومع ذلك فإن بعثة ابن دقيق لم تفلح فى إزالة الشكوك عند بيبرس ،تلك الشكوك التى أكدتها اكتشافات متتالية عن أتباع للبدوي منتشرين فى الأسكندرية وطنطا والقاهرة وما حولها ، ولكى يقطع بيبرس الشك باليقين عزم على التحقق من الأمر بنفسه وبطريقة التخفى أو التنكر التى اشتهر بها .وبدأت عين الظاهر بيبرس تتركز على الأسكندرية مهبط أبى الفتح الواسطى ومدرسته والشاذلى وصديقه عز الدين بن عبد السلام ،وحيث أعدم حصن الدين والسرسناوى ،وفى 661 زار الأسكندرية (فأصلح من شأنها وعامل أهلها بلطف ) وهى نفس السياسة التى سار عليها مع القاهرة فى أعقاب حركة الكوراني ..ولم يكن إصلاح الحال فى الاسكندرية هو الهدف الوحيد للظاهر بيبرس فقد قابل الصوفي أبا القاسم القباري ثم مضى لزيارة الشيخ الشاطبي وعين لدنه قاضياً للثغر وصف بالتصوف والزهد [29]. والملاحظ أن الشاطبي والقباري لم ينتميا إلى مدرسة التشيع الصوفي المستتر ، والمنتظر أن بيبرس فى لقائه الغامض بهما قد حصل على معلومات هامة عن التحرك الصوفى فى الأسكندرية وما حولها وسمع الشئ الكثير عن البدوى فعزم على التوجه إليه بنفسه سرا.

    ويقول المقريزى فى حوادث السنة التالية سنة 662(وفيه سار السلطان إلى أوسيم ومضى إلى الغربية فصار يسير منفردا فى خفية ويسأل عن والى الغربية الأمير ابن الهمام وعن سيرة نوابه وغلمانه ومباشريه فذكرت عنه سيرة سيئة فقبض عليه وأدبه وأقام غيره ...)[30]. أى أن بيبرس خص منطقة الغربية – حيث البدوى وطنطا – بزيارته متخفيا وتصرف بحزم مع واليها وعزله وأقام واليا جديدا ينفذ السياسة الجديدة التى ارتآها فى رحلته السرية ..

    ويقول المقريزى فى حوادث السنة التالية سنة 663 أن السلطان طاف بالقاهرة متنكرا ليعرف أحوال الناس [31]. ثم يذكر المقريزى ما يفيد أن الظاهر بيبرس مر على البدوى فى السنة التالية سنة 664 عند ما خرج إلى  الإسكندرية لمباشرة حفر خليجها[32]. فمن المحتمل ألا يكون حفر الخليج هو السبب الأهم فى حضور بيبرس بنفسه مع كثرة مشاغله وأسفاره وأن يكون مجرد ساتر لغرض أهم ، خاصة وأنه عاد للقاهرة عن طريق أبيار (وطنطا تقع على الطريق بين أبيار والقاهرة )[33].

وإذا كان المؤرخون المعاصرون لم يذكروا عن رحلات بيبرس السابقة إلا للغرض المعلن فقط فلم يكن منتظرا منهم أكثر من ذلك وهم يؤرخون لسلطان داهية بارع فى التخفى والتنكر والتعمية ،ثم إن طنطا فى ذلك العهد ورجلها القائم فيها لم يستحوذا بعد على أى انتباه للمؤرخين المشغوفين بالمدن الكبرى والرجال الظاهرين من الأمراء والقضاه ومشاهير الصوفية والعلماء. ولذلك اكتفوا بتعليل سفره إلى طنطا بأنه لمعاقبة أمير الغربية ،وعودته إلى الأسكندرية بأنه لمباشرة حفر خليجها وهو ما يعلنه السلطان الداهية..

   ويذكر الشعراني أن الظاهر بيبرس اجتمع بالبدوي يقول (وكان الملك الظاهر بيبرس أبو الفتوحات يعتقد فى سيدي أحمد اعتقاداً عظيما وكان ينزل إلى زيارته [34])، ومن المرجح أن يكون ذلك قد تم أثناء مروره على طنطا متخفياً وانتشر ذلك وردده المريدون الأحمدية حتى وجد طريقه لكتاب الشعراني .

  ومع الأسف فان كتب المناقب – وطبقات الشعراني إحداها – لم تسعفنا بأخبار تلك المقابلة على الرغم من أنها المصدر الوحيد وكنا نأمل أن نعرف بأي صورة تبدى البدوي بها للظاهر بيبرس.

   ولكننا نكتفي بالقول بأن الظاهر بيبرس لم يقتنع تماما ولم تهدأ شكوكه إذ يبدو أن مصادره السرية أوضحت له أن مكة هي النقطة الأساسية للدعوة ومنها أتى البدوي مبعوثا ، وربما أتت للظاهر بعض المعلومات عن التحركات الشيعية الصوفية في الشام حيث كان يقيم عز الدين الصياد، والظاهر بيبرس كان كما نعرف طوافا بين الشام وحلب والحجاز ومصر، ومع أن رحلاته للحجاز كانت شيئا عاديا لا يثير الريبة لأنها تابعة له ، إلا أنه في سنه 667 قام بزيارة سرية مفاجئة لمكة أعد لها إعدادآ خاصا، ونصطحب المقريزي ليحدثنا عن هذه الرحلة فيقول عن بيبرس وكان في الشام وقتها : ( وصل للسلطان عيسى بن مهنا فأوهمه السلطان أنه يريد الحركة للعراق ،وكان السلطان في الباطن إنما يريد بحركته الحجاز ثم تحرك بهم للكرك كأنه يتصيد ولم يخبر أحد أن يتحدث بأنه متوجه للحجاز وذلك لأن الأمير جمال الدين بن الداية الحاجب كتب للسلطان (إني أشتهي أن أتوجه في صحبة السلطان الى الحجاز) فأمر بقطع لسانه فما تفوه أحد بعدها بذلك، ووصل إلى الكرك (ألأردن ) وكان قد دبر أموره خفية من غير أن يطلع أحد على ذلك فنزل الشوبك ورسم بإخفاء خبره  ووصل إلى المدينة المنورة ورحل منها فدخل مكة وأعطى خواصه من المال ليفرقوها سرا  وفرق كساوى على أهل الحرمين وصار كواحد من الناس لايحجبه أحد،وهو منفرد ،وتردد إلى من بالحرمين من الصالحين وأحسن إلى أميري مكة وينبع وقضى مناسك الحج ثم عاد للكرك ولم يعلم أحد بوصوله)[35].  

ومن الحمق أن يقال أن الحج كان السبب الوحيد الذى حمل بيبرس على كل هذا التخفى والتحرز إلى درجة أنه يقطع لسان حاجبه حين صرح برغبته فى أن يصحب السلطان فى تلك الرحلة السرية ،والمعقول أن تخفيه فى هذه الرحلة لسبب يتصل بقضية تشغل باله حين زار الأسكندرية ثم الغربية متخفيا. فأسلوبه واحد فى تلك الرحلات .الأحسان للعامة ومقابلة الصالحين والأهتمام بأمر الحكام المحليين ، ثم الغموض الزائد والتعمية عن كل تلك المقابلات بالحج أو حفر الخليح أو تتبع حاكم ظالم وعزله .    

وقد ورد فى كتاب المناقب أن الظاهر بيبرس ورد مكة متخفيا فقابل شقيق البدوى ، يروى عنه عبد الصمد (فبينما نتحدث وإذا برجل راكب على هجين وهو متنكر فى زى بدوى وهو ملثم فقلت للعبيد : على بهذا الرجل الراكب على الهجين فجاءوا به فسلمت عليه وقلت له فى أذنه .أهلا وسهلآومرحبا بالملك الظاهر بيبرس فكاشفته بأمارات مخفية بينى وبينه فتبسم ضاحكا وقال : نعم أنا الملك الظاهر بيبرس[36]) وقد أورد عبد الصمد هذا النص بعد حديثه عن الحسن وهو يتتبع أخبار شقيقه البدوي فى مصر . ويبدو أن الظاهر بيبرس تحقق فى هذه الرحلة السرية من صدق تصوف البدوي وتيقن من أنه لا يخفي هدفاً سياسياً سرياً فكتب المناقب تفيض بما ينم عن اعتقاد الظاهر بيبرس فى البدوي وأخيه الحسن إلى درجة الحفاوة والكرم المتبادل بينهما.

   لقد استغل الشيعة المتصوفة نقطة الضعف عند الظاهر بيبرس ألا وهى اعتقاده فى التصوف ورجاله فظهروا له بالوجه الصوفي وتوقفوا عن دعوتهم السرية خوفا من جواسيسه ودهائه وعقابه.   وقد سبقت لهم الأمثلة فى الكوراني وحصن الدين والسرسناوي ،ثم زاد الأمر حين اكتشف بيبرس أن شيخه خضر ليس بالمخلص له وكانت نكبته سنة 671 وكانت أيضا النهاية لأحلام البدوي وشركائه .         



[1]
 السلوك 1/540 ، 565

[2]السلوك 1/540 ، 565

 

[3])نفس المرجع السابق 1 / 567 : 574

[4]     السلوك 1/ 583 ، 584

[5]السلوك 1/ 583 ، 584

[6]نفس المرجع السابق 637/1

[7]السلوك 1/442 ،452

[8]الكتبى :عيون التواريخ : مخطوط مصور 2/256 :257 

[9]السلوك 1/440،420

[10]السلوك 1/440

[11]ابن حجر الهيثمى .تاريخ الخلفاء مخطوطورقه126ب

[12]النويرى .نهاية الأرب .مخطوط 38/28

[13]الكتبى.عيون من التاريخ 256/2 مخطوط

[14]السلوك 1/420

[15]) ابن حجر .رفع الاصر 351 ،352 ،اليافعى مرآه الجنان 1/153 :154

[16]السلوك 1/416

[17]) الطبقات الكبرى 1/15.

[18])مجلة السياسة 11

[19]الطبقات الكبرى للشعرانى1/140،2/3

[20])المختصر فى أخبار البشر 3/200

 

[21]حسن المحاضرة 1/521. تحقيق محمد أبو الفضل ابراهيم

[22]الطبقات الكبرى ’2/2

 

[23]نهاية الأرب مخطوط 28/42:41 119 :120            

[24]تاريخ ابن كثير 13/278

[25]عبد الصمد الجواهر 11 :15 ،والنفحات الأحمدية للخفاجى 236،والنصيحة العلوية للحلبى 29مخطوط

[26] مجلة السياسة 11

[27]الجواهر السنية 42 النفحات الاحمدية 237 النصيحة العلوية 300

[28] النويرى .نهاية الأرب 28/119

[29]السلوك1/499:500

[30]نفس المرجع 1/505              

[31]نفس المرجع 1540        

[32]نفس المرجع 1543 

[33]نور الدين .البدوى100

[34]) الطبقات الكبرى 1160

[35]السلوك 1580: 582      

[36]الجواهر السنية 61

 

اجمالي القراءات 16898