حكومة الخبراء
برتراندرسل والحكومة العالميةالعلمية..
اليوم نناقش في هذا الجزء الثاني من موضوع الحكومة العالمية كما وصّفها برتراندرسل مفاهيم عديدة منها تعريف معنى الحكومة العلمية قبل مناقشة الموضوع الأساسي وهو الحكومة العالميةute;مية.
فالحكومة العلمية : ليست مجرد حكومة تتكون من رجال العلم. فقد كان هناك الكثير من رجال العلم في حكومة نابليون على سبيل المثال وكان من رجال هذه الحكومة العالم لابلاس ، ولكنه أثبت من عدم الكفاءة مما ادى إلى طرده بعد وقت قصير جدا.
متى تكون الحكومة علمية
رسل يحدد نصيب الحكومة من العلمية بنسبة قدرتها على إحداث نتائج مقصودة. وكلما زاد عدد النتائج التي تستطيع هذه الحكومة القصد إليها وإحداثها كلما زادت علميتها.
عندما حافظ واضعوا أسس الدستور الأمريكي على الثروة الفردية كانوا علميين ، ولم يكونوا كذلك في محاولتهم إدخال نظام الانتخاب غير المباشر للرئاسة.
والحكومات التي دبرت الحرب العالمية الأولى كانت غير علمية ، لأنها جميعاً سقطت في خلال هذا الحرب . ولا يستثنى من هذه الحكومات غير واحدة ، هى حكومة الصرب ، فقد كانت كاملة العلمية ، لأن نتيجة الحرب كانت هى بالضبط ما كانت تنتويه بالضبط تلك الحكومة الصربية التي كانت في الحكم حين اغتيالات سراييفو.
والسؤال الآن : وفقاً لتعريف الحكومة العلمية هل يمكن أن نعتبر حكومات الأنظمة العربية المستبدة حكومات علمية في حال كونها زات من عدد النتائج السلبية والمدمرة لمقدرات شعوبها وإحداث نتائج مقصودة سيئة وفاسدة من إهدار ثروات الشعوب والعمل على إفقار شعوبها وتخلفها والقهر المنظم طوال قرون وعقود وتجهيل مواطنيها وتهميشهم؟
للإجابة على هذا يمكن فتح حوار ونقاش .
وبفضل زيادة المعرفة تستطيع الحكومات الان أن تحدث من النتائج المقصودة ما يزيد كثيراً عما كان يُستطاع في الأزمنة الماضية ، فمحو الفقر محواً تاماً مثلاً هو في الوقت الحاضر ممكن من الوجهة التكنولوجية ، أي أن طرقا معروفة من طرق الانتاج لو نظمت تنظيما حكيماً لكفت لإنتاج سلعاً تكفل لكل سكان العالم أن يعيشوا في راحة معقولة.
ولكن هذا رغم إمكانه من الوجهة التكنولوجية ، فهو لم يصبح بعد ممكناً من الوجهة النفسية . إذ يقف في طريق محو الفقر موحوا تاماً العوامل التالية : 1- التنافس الدولي 2- صراع الطبقات . 3- والنظام الفوضوي للحرية الفردية. وليس رفع هذه العوائق من هيِّن الأمور.
في الظروف الحديثة يُطْلب إلى العاملين في حقل العلم ، شئ أكثر من مجرد توسيع آفاق المعرفة. فهم لم يعودوا يستطيعون القناعة بأن يسمحوا لغيرخم بأخذ نتائج إكتشافاتهم واستخدامها دون إرشاد.
فالعاملون في العلم ، يجب أن يقبلوا مسئولية الاشراف على القوى التي كشف عنها بحثهم. وبدون مساعدتهم ، يستحيل قيام إدارة قادرة ، أو سياسة متنورة.
إن من أصعب المشاكل التي تواجه الديمقراطية مشكلة إقامة علاقة صحيحة بين العلم والسياسة ، وبين المعرفة والسلطة ، أو بتعبير أدق بين العاملين في حقل العلم ، والعاملين في إدارة حياة المجتمع .
ومما له بالغ الأثر أنه برغم العجز النسبي لرجال العلم في الشئون القومية، فإنه توجد في الميدان العالمي ( لجان استشلرية من الخبراء) حققت أثراً ملحوظاً ناجحاً حتى حين تتجرد من كل سلطة تشريعية.
والحق أن العاملين في حقل العلم ، يحتلون مكانا ممتازا في المجتمع والصناعة. وهناك مؤشرات طيبة تشير إلى أن رجال العلم انفسهم قد تعرفوا على ذلك ، فالأغلبيات المتغيرة في الحكومات غير قادرة على تقدير السياسات الكبرى ، إلا وفق توجهات الصناعة المنظمة ، إن توثيق الصلة بين العلم والصناعة ، هو طريق الوصول إلى السلطة السياسية .!!
فحماية مدينة معينة من نيران المدافع عن طريق أبحاث العلماء هو دليل على أن العلماء يقبلون مسئولية الزعامة في أمور السلامة الاجتماعية والصناعية .
خير طريق لخدمة الانسانية هو دعوة رجال العلم إلى قبول تلك المسئوليات الواسعة، مسئوليات الزعامة في المجتمع والصناعة على السواء،فقد حتم إلقاءها عليهم ما قد بذلوا من جهود.
يتبين مما سبق أن رجال العلم قد أخذوا يدركون ما تفرضه عليهم معرفتهم من مسئولية نحو المجتمع ، واخذوا يشعرون بان من واجبهم أن يشاركوا في توجيه الأمور العامة على نحو يزيد عن مشاركتهم فيه حتى الآن. وهناك عقبات تمنع من من وجود عالم منظم علميا في واقع حقيقي منها 1- القصور الذاتي 2- العادة : فالناس يبغون أن يظل سلوكهم كما كان دائماً وأن يعيشوا كما عاشوا دائماً (الاستقرار) ، وهناك عقبة المصلحة الذاتية ( المنتفعين) . فالنظام الاقتصادي الموروث عن الأزمنة الاقطاعية يعطي مزايا لقوم لم يفعلوا شيئاً ليستحقوها ، وهؤلاء القوم نظرا لثروتهم وسطوتهم ( المترفين) يستطيعون وضع عقبات شديدة في سبيل التغيير الأساسي. 4- فضلاً عن هذه العقبات توجد أيضاً (المثل العليا المعادية) فالأخلاق المسيحية من بعض الوجوه الأسياسية مع الأخلاق العلمية ، التي يطرد نموها بالتدريج. فهى تمقت التضحية برجل برئ من أجل مستقبل الغالبية . وفي اوجز عبارة ( المسيحية غير سياسية) ,
وهذا ينطبق أيضا على جميع الأصوليات الدينية ذات المرجعية البشرية !!
مثل المذاهب السنية من سلفيين وإخوان ووهابيين وشيعة ومتصوفة. لأن مثل هذا المثل العليا لهذه الأصوليات قد نمت بين قوم مجردين من السلطة السياسية في بادئ تاريخهم الإيديولوجي.
أما الأخلاق العلمية الجديدة ، الآخذة في النمو التدريجي مع نمو المنهج العلمي ، فستكون عنايتها بالمجتمع أكثر من عنايتها بالفرد . وهى لن تعول على خُلُق الخطيئة والعقاب،بل ستكون على استعداد لجعل الأفراد يقاسون من أجل الصالح العام، دون اختراع مُبِررات لتثبت انهم يستحقون ما يقاسون.
ومن هذه الوجهة لن تقبل هذه الأخلاق أية معاضة لها ، وستكون منافية للأخلاق التقليدية ، ولكن التغير سيكون قد تحقق بطريق طبيعي بفضل التعود على النظر إلى المجتمع من حيث هو كُلٌ ، لا من حيث هو مجوعة من الأفراد.
إننا ننظر إلى الجسم البشري على أنه كل ، وإذا لزم بتر أحد الأعضاء مثلاً، لم نجد من الضروري أن نثبت أن العضو شرير. بل محم نعتبر ان صالح الجسم كله دليل فيه كل الكفاية. وكذلك شأن الرجل الذي يفكر في المجتمع من حيث هو كل فهو يضحي بعضو من المجتمع لصالح المجموع ، دون كبير اعتداد بمصلحة هذا الفرد.
وهذا ما يتبع دائما في الحرب،لأن الحرب مشروع جماعي. فالجنود يتعرضون لخطر الموت للصالح العام،دون ان يظن أحد أنهم يستحقون الموت.... ولكن الناس حتى الآن لم ينظروا بنفس الاهتمام إلى الدواعي الإجتماعية غير الحربية التي تستدعي التضحية ببعض الأفراد لصالح المجتمع.
الناس يجفلون ( يخافون) من بذل التضحيات التي قد تكون غير عادلة.
أما المثاليين العلميين اليوم قد تحرروا من هذا التحرج لا في زمن الحرب فقط ،بل وفي زمن السلم أيضاً . فإذا تغلبوا على المعارضة التي تواجههم من قوى المجتمع المختلفة، وجدوا أنفسهم قد انتظموا في تعاظمية فكرية.
إن من السهل أن نتخيل طرقاً تؤدي إلى قيام حكومة علمية، كتلك التي نفترض قيامها ، فمن الواضح أنه بعد انتهاء الحرب الباردة بين القطبين الكبيرين وبتفكيك الاتحاد السوفيتي ، فإن السيادة العالمية قد أعطيت للولايات المتحدة .
وعلى هذا النحو أتت الحكومة العالمية، يتحتم فيها على من بيدهم السلطة أن يعهدوا بقدر كبير من سلطتهم إلى الخبراء من شتى الأنواع .
وبمضي الزمن سيكون الحكام العامون قد تعودوا نعومة العيش ،واستمرءوا الكسل فيتركون سلطاتهم يغتصبها الخبراء الأقل منهم نعومة ، ويصير هؤلاء الخبراء تدريجاًً (هم الحكومة الحقيقة للعالم) !! وسوف يكون بينهم ارتباطا وثيقا منظما ـ بعض التنظيم ـ على أساس الرأي ما بقيت حكومتهم مهددة. ولكنهم سيختارون فيما بعد عن طريق الامتحانات واختبارات الذكاء واختبارات قوة الإرادة.
وجماعة الخبراء يمكن أن تضم كل الرجال البارزين في العلم، عدا قليلاً من المنحرفي العقل، الملتوين الفوضويين. ويكون لديها الأسلحة الحديثة الوحيدة، ويكون لديها السر المكنون لكل جديد في فنون الحرب، لذلك فلن تقوم حرب ، لأن المقاومة من جانب غير العلميين مقضيٌّ عليها لا محالة.
وستسيطر جمعية الخبراء على الدعاية والتعليم ! ستُعلم الولاء للحكومة العالمية ، وتُعد الوطنية خيانة عظمى !! ونظراً لأن الحكومة تعاظمية فستبُث الخضوع والاستستلام في الغالبية العظمى من السكان، وتقصر الابتكار وتعود السطوة على أعضائها أنفسهم.
والحكومة العالمية العلمية ( حكومة الخبراء) سوف تخترع وسائل بارعة لإخفاء سلطتها ،، فتترك التشكيلات الديمقراطية على حالها، وتدع الأغنياء والسياسيين يتصورون أنهم يديرون هذه التشكيلات بمهارة. ولكن حين يرين (يترسب) الغباء تدريجاً على الغنياء بسبب الكسل، فإنهم سيفقدون ثرواتهم،لأنها ستتسرب شيئاً فشيئاً للملكية العامة التي تسيطر عليها حكومة الخبراء .