المسلمون والحج
هل كان الرسول صلى الله عليه وسلم والمسلمون يؤدون شعائر الحج والعمرة خلال الفترة المكية وفي السنة الأولى من الهجرة؟
قد يكون من المفيد قبل أن نحاول الإجابة عن هذا السؤال، أن نشرح ما هو الحج وما هي العمرة في الإسلام.
الحج هو مجموعة من الشعائر تؤدى في تاريخ محدد من الشهر الثاني عشر من السنة القمرية، إحياءً لذكرى إبراهيم عليه السلام. وقبل أن يصل الحاج إلى مكة، يلبس ملابس الإحرام ويحترم بعض القواعد السلوكية المعينة. وحين يصل إلى مكة يطوف بالكعبة سبع مرات ويسعى سبع مرات بين الصفا والمروة وهما مكانان مرتفعان. ثم يذهب إلى جبل عرفة على مسافة من مكة. وتتحصل شعائر الحج الحقيقي في وقوف جماعي في وادٍ صحراوي أمام هذا الجبل بين الظهر وغروب الشمس يوم 9 من شهر ذي الحجة، ثم في وقفة مسائية في مكان يقع على مسافة من عرفة يسمى بالمزدلفة. وفي المدة من 10 إلى 12 من الشهر، يقيم الحجاج في منى وهي مكان يقع على مسافة سبعة كيلومترات من مكة، ويذبحون الهدي ويرمون الجمرات، ويتخلل ذلك عودة إلى مكة حيث تؤدى فيها بعض الشعائر، قبل أن ينهي الحاج إحرامه بقص شعره أو بقطع شعرات منه.
أما العمرة فهي صورة مصغرة من الحج يمكن أداؤها في أي وقت من السنة بصورة منفردة. وشعائرها تشبه الجزء الأول من الحج، الذي يؤدى في مكة، أي الطواف بالكعبة والسعي بين الصفا والمروة.(13)
وكانت شعائر الحج والعمرة تؤدى، مع بعض الاختلافات، منذ عهد ضارب في القِدم في الجاهلية؛ وقد ألغى الإسلام بعض الممارسات التي كانت تجرى فيها.
ولا تحدد "السيرة" التاريخ الذي بدأ المسلمون فيه تأدية شعائر الحج والعمرة، ولكنها تخبرنا ضمناً أنهم كانوا يحجون خلال الفترة المكية، فإن الرجال الثلاثة والسبعين ومعهم امرأتان، الذين عقدوا بيعة الحرب مع الرسول صلى الله عليه وسلم كانوا قد جاءوا إلى مكة في رفقة حجاج المدينة المشركين. وفي موسم الحج السابق حضر إلى مكة اثنا عشر من حجاج المدينة المسلمين وعقدوا معه صلى الله عليه وسلم بيعة العقبة الأولى.
ولكن "السيرة" لا تصوِّر لنا الرسول ولا واحداً من أصحابه المكيين، في أي لحظة في سنوات الفترة المكية الثلاث عشرة، وهم يؤدون الحج أو العمرة. كذلك فإن أياً من أحكام القرآن الكريم التي نـزلت في الفترة المكية لا يذكر هذا الفرض. وأخيراً فإن عدة آيات مدنية مثل: "يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَن سَبِيلِ اللّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِندَ اللّهِ …" ﴿217﴾ [البقرة] تتحدث عن إخراج من المسجد الحرام. وهذا الإخراج يشير بطبيعة الحال إلى إجراءات حظرت بها قريش على المسلمين الدخول إلى المسجد الحرام لتأدية عباداتهم من صلاة أو حج. لذلك يحق للمرء أن يشك في صحة ما جاء في "السيرة" عن وصول الاثني عشر ثم الثلاثة والسبعين حاجاً مسلماً من المدينة الذين يُدَّعَى أنهم عقدوا مع الرسول صلى الله عليه وسلم بيعتي العقبة المزعومتين.
ولو أن النص ذكر أن مجموعتي مسلمي المدينة المذكورتين جاءتا إلى مكة لزيارة الرسول صلى الله عليه وسلم لكان ذلك أقرب إلى التصديق. لقد كان من الطبيعي جداً أن يأتي بعض من دخلوا في الإسلام خارج مكة إلى هذه البلدة خلال موسم الحج أو خارجه لرؤية الرسول صلى الله عليه وسلم أو لرؤيته من جديد، هذا الرسول الذي يحبه المسلم أكثر من حبه أولاده، ويقوم بتقديم هدايا له، وللصلاة خلفه، ولحفظ ما جدَّ له من آي الذكر الحكيم، ولالتماس بركته، ولتوجيه أسئلة إليه عن الدين أو عما يحسن عمله لخدمته، ولإحاطته علماً بالجهود المبذولة لنشره، وبحالات النجاح وحالات الإخفاق في ذلك، وبالصعوبات التي تثور في صدد إبلاغ الدعوة للناس، وللتعرف على الإخوان في الدين من مسلمي مكة أو المسلمين الوافدين إليها من خارجها، ولحضور بعض الاجتماعات التي يعقدها الرسول صلى الله عليه وسلم معهم أو مع الكفار. وهذه اللقاءات مع الرسول كانت تتيح للرسول صلى الله عليه وسلم كذلك الفرصة، في بعض الحالات، لإيفاد بعض صحبه لتفقيه مسلمي الجزيرة في الدين.
وهذه اللقاءات ذات الطابع الديني لم تكن، مع ذلك، الغرض الوحيد للمسلمين الذين كانوا يقدمون إلى مكة للزيارة. لقد كانوا يقضون جانباً من وقتهم كذلك في التردد على السوق. وكانوا أحياناً يبيعون فيه الجمال والدواب والخراف التي جاءوا بها معهم. وكان هذا شيئاً يسيراً إذ أن الحجاج كانوا في حاجة إلى بعض هذه الدواب لنحرها في منى. وكان الوافدون يبيعون كذلك سلعاً أخرى كالخيل والجلود والأصواف والبُسُط والخيام والتمر وأنواع الجبن والبيض واللحوم المجففة، وغير ذلك، مما هو ضروري لطعام الحجاج. وكان بعض هذه البضاعة مخصصاً للاستهلاك المحلي، ولكن بعضها الآخر كان يشتريه تجار مكة لتصديره إلى سوريا أو اليمن أو إلى أسواق خارجية أخرى. وكانت حصيلة البيع تستخدم جزئياً لدفع نفقات الحج، كشراء الذبائح، ونفقات الإقامة في "النُزُل"، والطعام، والولائم التي يُدعى إليها الأصدقاء، الخ. وبالباقي كان الحجاج يشترون تموينهم من البضائع التي يحملونها معهم عند عودتهم لاستهلاك الأسرة أو القبيلة لمدد طويلة من الحبوب والملابس والأسلحة والدواب، أو لتجارة الداخل إذا كان الحاج هو نفسه من التجار، كما كان يحدث كثيراً. وكان موسم الحج أيضاً فرصة لبيع وشراء الرقيق. وباختصار، كان مسلمو الجزيرة، شأنهم في ذلك شأن الحجاج المشركين، ينتهزون فرصة الحج والعمرة للقيام في مكة بأنواع شتى من النشاط التجاري والاجتماعي. وكانت إقامتهم في مكة للحج وللعمرة - بالأمس، كما هو الحال اليوم - لا تقتصر على الوقت اللازم لتأدية الشعائر، بل كانت تمتد أحياناً إلى أسابيع، لاسيما بالنسبة للقادمين من بعيد.
والسؤال الآن هو: هل كان هؤلاء المسلمون القادمون إلى مكة كثيرين أم كانوا يمثلون حالات منفردة؟
لقد ذكر ابن إسحاق، في حديث الفترة المكية، حالة الطفيل بن عمرو الدَّوْسي، الذي دخل في الإسلام ثم عمل على نشره بين أعضاء قبيلته. وقد تردد على مكة مرتين ليشرح للرسول صلى الله عليه وسلم الصعوبات التي لقيها ويلتمس دعواته، واستطاع خلال سنوات قليلة أن يهدي إلى الإسلام سبعين أو ثمانين بيتاً من قبيلته. ولكن "السيرة" لا تتحدث إلا عن هذه الحالة. وهذا جزء من استراتيجية مؤلفنا الذي جعله تَحَزُّبه الشديد لأهل المدينة يصور المدينة على أنها ملاذ الإسلام الوحيد، ويصور الجزيرة العربية كلها، ومكة بوجه خاص، على أنها رفضت الإسلام. وهذا قول صعب التصديق، والمؤلف لم يشرح الأسباب التي من أجلها كانت أنحاء شبه الجزيرة أقل تقبلاً للإسلام من المدينة، ولا تلك التي جعلت المدينة أكثر حفاوة بالدين الجديد. والواقع، في رأينا، أن الإسلام إذا كان قد نجح في القرون التالية نجاحاً كاسحاً لدى شعوب في أفريقيا وآسيا لا تعرف العربية، لابد - لأنه كان يروق للناس - قد حظي بنجاح مماثل في الجزيرة العربية، في الفترة المكية، أثناء حياة الرسول صلى الله عليه وسلم. وبفضل انتشار الإسلام في بلاد العرب، كانت أعداد متزايدة ممن اعتنقوه تفد إلى مكة للنهل من منابعه الروحية، ولعقد صفقات تجارية. وكانوا، بطبيعة الحال، يفضِّلون، عقد هذه الصفقات، مع بني دينهم، وكان ذلك يخفف إلى حدٍ ما من وطأة المقاطعة التي فرضتها قريش ضدهم (لا ضد بني عبد المطلب، كما يدعي النص). وكانوا يجدون في لقاء الرسول صلى الله عليه وسلم من الغبطة ما يجعل بعضهم يكثر من الذهاب إلى مكة لرؤيته.
هذا، فيما نرى، هو الحال الذي كان سائداً خلال الفترة المكية. أما بعد الهجرة، فقد تغيرت الأمور. لا بالنسبة لمشركي الجزيرة، فقد استمر هؤلاء في الذهاب إلى مكة للحج والعمرة، وإنما بالنسبة لمسلميها، الذين أصبحوا يذهبون إلى المدينة لزيارة الرسول صلى الله عليه وسلم.
وينبغي التفريق، بالنسبة لهؤلاء، بين مرحلتين: المرحلة التي تمتد من الهجرة إلى فرض الحج كواحدة من العبادات في الإسلام، والمرحلة التي تلي هذا الحدث.
وفي المرحلة الأولى كانت إقامة المسلمين الوافدين إلى المدينة تسير على المنوال ذاته الذي كانت تسير عليه في مكة قبل الهجرة. أما بعد أن فرض القرآن حج البيت على المسلمين، فقد قصرت فترة إقامتهم في المدينة وأصبحت مجرد إضافة للحج الشرعي. وترتب على ذلك أن أصبح ما ينفقونه من مال في المدينة أقل من ذي قبل.
كيف إذاً، وفي أي تاريخ، فُرض الحج كواجب ديني على المسلمين في الفترة المدنية ؟
لقد فُرض بمجموعة من الآيات شرحت أصله وقررته وحددت شعائره. وفيما يلي أهم الأحكام القرآنية التي نـزلت بصدده.
ورد تاريخ المسجد الحرام في الآيات التالية من سورة البقرة:
– وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيم ُ ﴿127﴾ رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَآ إِنَّكَ أَنتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ﴿128﴾
– وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِّلنَّاسِ وَأَمْناً وَاتَّخِذُواْ مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَن طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ ﴿125﴾
وعن فريضة الحج، وما هو محظور وما هو مباح، نجد الآيات التالية:
– وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ ﴿27﴾ [الحج]
– وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً ﴿97﴾ [آل عمران]
– الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ ﴿197﴾ [البقرة]
لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَبْتَغُواْ فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ ﴿198﴾ [البقرة]
وتقرر الآيات التالية بعض المحظورات وشعائر الحج:
– غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنتُمْ حُرُمٌ ﴿1﴾ [المائدة]
لاَ تُحِلُّواْ شَعَائِرَ اللّهِ وَلاَ الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلاَ الْهَدْيَ وَلاَ الْقَلائِدَ وَلا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّن رَّبِّهِمْ وَرِضْوَانًا ﴿2﴾ [المائدة]
وَإِذَا حَلَلْتُـمْ فَاصْطَادُواْ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُـمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَن صَـدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَـرَامِ أَن تَعْتَدُواْ ﴿2﴾ [المائدة]
– إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِن شَعاَئِرِ اللّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ ﴿158﴾ [البقرة]
هذه الآيات، التي وردت في سور مدنية، متى نـزلت؟ إن نص ابن إسحاق لا يوضح ذلك. ولما كنا نجهل التاريخ الذي بدأ فيه المسلمون يحجون إلى مكة بعد نـزول الآيات المذكورة، فإننا نجهل طول الفترة التي أصبحت فيها المدينة بمثابة مكة الجديدة لمسلمي مكة وشبه الجزيرة، وابتداءً من أي لحظة أصبحت زيارتهم للمدينة، نتيجة لفرض الحج إلى مكة، أقصر أمداً مما كانت منذ الهجرة.
وعلى النقيض، فإن في "السيرة" بياناً يسمح، بالمقارنة وبصورة تقريبية، بمعرفة الوقت الذي فُرض فيه الحج. إنها تخبرنا أن صرف القبلة (من القدس إلى الكعبة) تم على رأس ثمانية عشر شهراً من مقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة (ص 606). وقد تقرر هذا التغيير بالآية (144) من سورة البقرة في قوله تعالى: "قَدْ نرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاء فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوِهَكُمْ شَطْرَهُ" ولهذا السبب ولأن أهمية الكعبة بالنسبة لشعائر الحج لا تقل عن أهميتها كقبلة للصلاة، يجوز للمرء أن يستنتج أن صرف القبلة كان مقدمة لفرض الحج، وأن الآيات المتعلقة بهذه الفريضة نـزلت بعد صرف القبلة بوقت قصير. أي بعبارة أخرى أن المدينة أصبحت مقصد مسلمي الخارج لفترة عام ونصف على الأقل. وكانوا يفدون إليها بأعداد متزايدة. وكان فريق منهم يأتون من مختلف أرجاء الجزيرة بعد أيام أو أسابيع من السفر. ولكن فريقاً آخر كانوا يأتون من مكة. ولما كان ابن إسحاق قد أكد، خلافاً لما هو بديهي، أن جميع مسلمي مكة غير المحبوسين هاجروا إلى المدينة، فإن سيرته لا تتحدث أبداً عن أي وجود للمسلمين بمكة بعد الهجرة على اعتبار أن الإسلام استؤصل منها تماماً ولم يعد إليها إلا عند الفتح بعد ثماني سنوات من الهجرة. وهذا خطأ كما أوضحنا. ومن شبه المقطوع به أن نفراً من المسلمين الذين بقوا في مكة كانوا يسافرون إلى المدينة لرؤية الرسول صلى الله عليه وسلم ورؤية أقاربهم وكانوا يبقون معهم فترة من الوقت. ثم إنه كان هناك أيضاً من بين الوافدين إلى المدينة فئة لا ينبغي أن ننساها. فئة لم يكن قدومها بغرض الزيارة ولكن للبقاء كمهاجرين جدد. أشخاص من شبه الجزيرة أو من مكة كانوا يستجيبون لدعوة القرآن الكريم في آيات مثل:
– وَمَن يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللّهِ يَجِدْ فِي الأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلى اللّهِ وَكَانَ اللّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا ﴿100﴾ [النساء]
كل هؤلاء المسلمين، بالإضافة إلى أولئك الذين كانت قبائلهم تخرجهم، كانوا يتوافدون إلى المدينة، ونشأ عن توافدهم، في هذه البلدة - الواحة، وضع غير مسبوق فيها. لقد كان الأمر يقتضي إسكانهم، وإطعامهم، وتقديم الخدمات لهم. وكما هو الحال بالنسبة للحجاج الذين كانوا يصلون إلى مكة، كان هؤلاء المسلمون كثيراً ما يُحضرون معهم من الأموال والسلع ما يكفي لدفع نفقات إقامتهم. ومتى انتهى لقاؤهم مع الرسول صلى الله عليه وسلم، كانوا يسعون لإجراء عمليات بيع وشراء وتجارة. كان لابد إذاً من بناء بيوت لإسكانهم، وإنشاء أسواق لمعاملاتهم ومرافق لخدمتهم. وكانت الوسائل البشرية والمالية اللازمة لمواجهة هذا الوضع الجديد متوافرة محلياً، فقد كان من بين مهاجري مكة تجار و"مقاولون" ورجال أعمال لهم باع طويل في هذه الأنشطة، فقد كانت "الفندقة" والتجارة وتقديم الخدمات فنوناً مارسوها وورثوها أباً عن جد. وكان الزوار يعرفون بعضهم ويتعاملون معهم في مكة. وفيما يتعلق ببناء المنازل وتقديم الخدمات كانت المدينة غاصة بيد عاملة رخيصة تبحث عن عمل. أما الأموال اللازمة لكل هذه المشروعات فكانت موجودة. لقد استطاع بعض التجار المهاجرين أن ينقذوا أموالهم من المصادرة في مكة، وأحضروها معهم. واقترض آخرون أموالاً من إخوانهم أهل المدينة أو أشركوهم في مشروعاتهم التجارية. وما أن وصل المهاجرون إلى المدينة حتى اشتروا جمالاً، وكوَّنوا قوافل أرسلوها إلى داخل الجزيرة لشراء المنتجات المحلية، ثم إلى سوريا والعراق لبيع هذه المنتجات وشراء بضائع أخرى يبيعونها في المدينة لعملائهم الجدد.
لقد كان وصول الزوار إلى هذه المدينة خيراً عميماً من كل وجهات النظر، فقد سمح بتنمية اقتصادها عن طريق إضافة قطاعات نشاط جديدة إلى أنشطتها التقليدية. وبفضل مهارة المهاجرين التجارية ومعرفتهم التامة بالأسواق الداخلية والخارجية، استطاعوا، في وقت قصير، أن يحققوا لأنفسهم استقلالاً اقتصادياً يرفع عبئهم عمن استضافوهم من أهل المدينة، كما استطاعوا أن يخلقوا فرص عمل لكثير من المهاجرين ولبعض أهل المدينة الفقراء. وقد تحسنت نتيجة لهذا النشاط كل أحوال الناس المعيشية وظهرت بوادر الانتعاش في كل مكان. وكانت آفاق المستقبل في المجال الاقتصادي طيبة، كما أن كثيراً من المشكلات التي تمخضت عن الهجرة تم حلها بمرور الوقت أو كانت في سبيلها إلى الحل.
كذلك فإن الأمور، على المستوى الديني، كانت تجري بصورة مُرضية. واستطاع الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وقد تخففوا من المشاغل المادية، أن يكرسوا ما يلزم من الوقت والاهتمام لنشاط الدعوة. وخلَق الانتعاش الذي نتج عن تقاطر الزوار على المدينة، وسلوك المهاجرين النموذجي، والمثل الذي كان يضربه المسلمون القادمون من بعيد لرؤية رسولهم والتمتع بقربه، مناخاً ملائماً لنشر الإسلام. وكانت أعداد متزايدة من أهل المدينة تدخل في الإسلام. على أن هذا لم يكن، بطبيعة الحال، من بواعث السرور لجميع الناس.
إن غير المسلمين من أهل المدينة ذاتها كانوا ولا شك يتحدثون عن شيء كالاحتلال: هؤلاء المسلمون، ونبيهم، الذين وصلوا إلى بلدتهم كلاجئين فقراء، أصبحوا، أو هم بسبيل أن يصبحوا، قوة تضر بمؤسساتهم، وتحالفاتهم، وتقاليدهم، وحتى نمط حياتهم. صحيح أنهم جاءوا للمدينة بشيء من الرخاء، ولكنهم أول المستفيدين منه. أما التجار المحليون فقد أُضيروا بمنافستهم. ورؤساء القبائل والعشائر، لم يعد لهم على أعضائها السلطة التي تخولها لهم صفتهم، وقد هجر عديد من هؤلاء الأعضاء انتماءاتهم القبلية. لقد أحدث محمد وقرآنه خراباً كثيراً في مجتمعهم. ومع السيل الذي لا يتوقف من زائري مكة وسائر الأنحاء لم يعد أهل البلد الأصليون يشعرون أنهم في بلدهم.
كذلك فإن أوساط اليهود في المدينة كانت بدورها تتابع تطور الأحداث بقلق: هذا الرجل الذي يدعي أنه نبي والذي يحاول بقرآنه أن يقوِّض الدعائم الاجتماعية- الدينية للنظام القبلي الذي مرت عليه آلاف السنين في المدينة، والذي جاء بالثورة إلى عالمهم، ومنظر المسجد وهو يُبنى، والموجات المتلاحقة من الزائرين الأجانب التي تتوالى على المدينة، وقلب الموازين الديموغرافية لطوائف البلد وتوزيع الأدوار في المجال الاقتصادي بينهم وبين غيرهم من الأهالي، وإقبال هؤلاء المتزايد على الإسلام، ومنافسة التجار المهاجرين لليهود باجتذابهم للزبائن المسلمين المحليين والأجانب .. كل هذا جعل الخصومة الدينية بين اليهود والمسلمين تقترن، منذ السنة الأولى للهجرة، بتنافس تجاري قوي.
ومكة، من جانبها، كانت تتوجس من هذا التطور. لقد كانت تشعر بأنه يهدد مصالحها باعتبارها العاصمة الدينية والتجارية لجزيرة العرب بأكملها. وكانت منافسة المجتمع الإسلامي لها في المدينة خطراً على مستقبلها. إن جزءاً غير قليل من زبائنها التقليديين الذين كانوا يفدون إليها للحج والتجارة انصرفوا عنها إلى محمد. والأدهى من ذلك أن بعض أبنائها من المسلمين كانوا يذهبون إلى المدينة وينفقون فيها من مالهم. أي فضيحة لمكانة مكة، وأي خسارة لتجارتها!
كانت السنة الأولى للهجرة إذاً السنة التي ظهر خلالها في المدينة كيان إسلامي قائم بذاته. لقد استوعبت فيها صدمة الهجرة. ونشأ عن الزيارات والهجرات الجديدة ازدهار اقتصادي شجَّع على اتساع الإسلام وسمح بحل أو بتخفيف مشكلات الجماعة الإسلامية. ولكنها كانت في الوقت ذاته السنة التي زاد فيها العداء للإسلام لدى مشركي المدينة، ولدى القبائل اليهودية، ولدى قريش. وكان من الطبيعي أن يضم خصوم الإسلام صفوفهم وأن يُعْمِلوا الفكر في الوسائل التي يمكن بواسطتها احتواء صعود الإسلام في المدينة. ولابد أن مشركي هذه المدينة ويهودها قالوا لأصدقائهم المكيين إنهم بذلوا كل ما في وسعهم للحدِّ من نفوذ محمد، لكن الحيَل أعيتهم. لابد من عمل عسكري لمنع تدفق الموجة الإسلامية. وكان بودهم أن يتولوا هم مثل هذا العمل ولكنهم يكرهون أن يقتلوا أبناء وإخوة حلفائهم المكيين. قريش هي التي عليها أن تقوم باللازم.
إن ردود الفعل التي من هذا النوع شيء مألوف. والأمثلة لا تحصى في التاريخ القديم والحديث للحالات التي أدت فيها اعتبارات المصالح الاقتصادية، وحدها أو بالإضافة إلى الاعتبارات الدينية أو الأيديولوجية، إلى نـزاعات عسكرية. وإذا كانت مكة، بعد ثمانية عشر شهراً من الهجرة، قد سيَّرت جيشاً ضد محمد في المدينة، فقد كان ذلك، في رأينا، للأسباب التي شرحناها لا - كما يدعي ابن إسحاق في حديث غزوة بدر - لأن الرسول صلى الله عليه وسلم أراد أن يستولي على قافلة لقريش جاءت من الشام في طريقها إلى مكة.
المسلمون والحج
هل كان الرسول صلى الله عليه وسلم والمسلمون يؤدون شعائر الحج والعمرة خلال الفترة المكية وفي السنة الأولى من الهجرة؟
قد يكون من المفيد قبل أن نحاول الإجابة عن هذا السؤال، أن نشرح ما هو الحج وما هي العمرة في الإسلام.
الحج هو مجموعة من الشعائر تؤدى في تاريخ محدد من الشهر الثاني عشر من السنة القمرية، إحياءً لذكرى إبراهيم عليه السلام. وقبل أن يصل الحاج إلى مكة، يلبس ملابس الإحرام ويحترم بعض القواعد السلوكية المعينة. وحين يصل إلى مكة يطوف بالكعبة سبع مرات ويسعى سبع مرات بين الصفا والمروة وهما مكانان مرتفعان. ثم يذهب إلى جبل عرفة على مسافة من مكة. وتتحصل شعائر الحج الحقيقي في وقوف جماعي في وادٍ صحراوي أمام هذا الجبل بين الظهر وغروب الشمس يوم 9 من شهر ذي الحجة، ثم في وقفة مسائية في مكان يقع على مسافة من عرفة يسمى بالمزدلفة. وفي المدة من 10 إلى 12 من الشهر، يقيم الحجاج في منى وهي مكان يقع على مسافة سبعة كيلومترات من مكة، ويذبحون الهدي ويرمون الجمرات، ويتخلل ذلك عودة إلى مكة حيث تؤدى فيها بعض الشعائر، قبل أن ينهي الحاج إحرامه بقص شعره أو بقطع شعرات منه.
أما العمرة فهي صورة مصغرة من الحج يمكن أداؤها في أي وقت من السنة بصورة منفردة. وشعائرها تشبه الجزء الأول من الحج، الذي يؤدى في مكة، أي الطواف بالكعبة والسعي بين الصفا والمروة.(13)
وكانت شعائر الحج والعمرة تؤدى، مع بعض الاختلافات، منذ عهد ضارب في القِدم في الجاهلية؛ وقد ألغى الإسلام بعض الممارسات التي كانت تجرى فيها.
ولا تحدد "السيرة" التاريخ الذي بدأ المسلمون فيه تأدية شعائر الحج والعمرة، ولكنها تخبرنا ضمناً أنهم كانوا يحجون خلال الفترة المكية، فإن الرجال الثلاثة والسبعين ومعهم امرأتان، الذين عقدوا بيعة الحرب مع الرسول صلى الله عليه وسلم كانوا قد جاءوا إلى مكة في رفقة حجاج المدينة المشركين. وفي موسم الحج السابق حضر إلى مكة اثنا عشر من حجاج المدينة المسلمين وعقدوا معه صلى الله عليه وسلم بيعة العقبة الأولى.
ولكن "السيرة" لا تصوِّر لنا الرسول ولا واحداً من أصحابه المكيين، في أي لحظة في سنوات الفترة المكية الثلاث عشرة، وهم يؤدون الحج أو العمرة. كذلك فإن أياً من أحكام القرآن الكريم التي نـزلت في الفترة المكية لا يذكر هذا الفرض. وأخيراً فإن عدة آيات مدنية مثل: "يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَن سَبِيلِ اللّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِندَ اللّهِ …" ﴿217﴾ [البقرة] تتحدث عن إخراج من المسجد الحرام. وهذا الإخراج يشير بطبيعة الحال إلى إجراءات حظرت بها قريش على المسلمين الدخول إلى المسجد الحرام لتأدية عباداتهم من صلاة أو حج. لذلك يحق للمرء أن يشك في صحة ما جاء في "السيرة" عن وصول الاثني عشر ثم الثلاثة والسبعين حاجاً مسلماً من المدينة الذين يُدَّعَى أنهم عقدوا مع الرسول صلى الله عليه وسلم بيعتي العقبة المزعومتين.
ولو أن النص ذكر أن مجموعتي مسلمي المدينة المذكورتين جاءتا إلى مكة لزيارة الرسول صلى الله عليه وسلم لكان ذلك أقرب إلى التصديق. لقد كان من الطبيعي جداً أن يأتي بعض من دخلوا في الإسلام خارج مكة إلى هذه البلدة خلال موسم الحج أو خارجه لرؤية الرسول صلى الله عليه وسلم أو لرؤيته من جديد، هذا الرسول الذي يحبه المسلم أكثر من حبه أولاده، ويقوم بتقديم هدايا له، وللصلاة خلفه، ولحفظ ما جدَّ له من آي الذكر الحكيم، ولالتماس بركته، ولتوجيه أسئلة إليه عن الدين أو عما يحسن عمله لخدمته، ولإحاطته علماً بالجهود المبذولة لنشره، وبحالات النجاح وحالات الإخفاق في ذلك، وبالصعوبات التي تثور في صدد إبلاغ الدعوة للناس، وللتعرف على الإخوان في الدين من مسلمي مكة أو المسلمين الوافدين إليها من خارجها، ولحضور بعض الاجتماعات التي يعقدها الرسول صلى الله عليه وسلم معهم أو مع الكفار. وهذه اللقاءات مع الرسول كانت تتيح للرسول صلى الله عليه وسلم كذلك الفرصة، في بعض الحالات، لإيفاد بعض صحبه لتفقيه مسلمي الجزيرة في الدين.
وهذه اللقاءات ذات الطابع الديني لم تكن، مع ذلك، الغرض الوحيد للمسلمين الذين كانوا يقدمون إلى مكة للزيارة. لقد كانوا يقضون جانباً من وقتهم كذلك في التردد على السوق. وكانوا أحياناً يبيعون فيه الجمال والدواب والخراف التي جاءوا بها معهم. وكان هذا شيئاً يسيراً إذ أن الحجاج كانوا في حاجة إلى بعض هذه الدواب لنحرها في منى. وكان الوافدون يبيعون كذلك سلعاً أخرى كالخيل والجلود والأصواف والبُسُط والخيام والتمر وأنواع الجبن والبيض واللحوم المجففة، وغير ذلك، مما هو ضروري لطعام الحجاج. وكان بعض هذه البضاعة مخصصاً للاستهلاك المحلي، ولكن بعضها الآخر كان يشتريه تجار مكة لتصديره إلى سوريا أو اليمن أو إلى أسواق خارجية أخرى. وكانت حصيلة البيع تستخدم جزئياً لدفع نفقات الحج، كشراء الذبائح، ونفقات الإقامة في "النُزُل"، والطعام، والولائم التي يُدعى إليها الأصدقاء، الخ. وبالباقي كان الحجاج يشترون تموينهم من البضائع التي يحملونها معهم عند عودتهم لاستهلاك الأسرة أو القبيلة لمدد طويلة من الحبوب والملابس والأسلحة والدواب، أو لتجارة الداخل إذا كان الحاج هو نفسه من التجار، كما كان يحدث كثيراً. وكان موسم الحج أيضاً فرصة لبيع وشراء الرقيق. وباختصار، كان مسلمو الجزيرة، شأنهم في ذلك شأن الحجاج المشركين، ينتهزون فرصة الحج والعمرة للقيام في مكة بأنواع شتى من النشاط التجاري والاجتماعي. وكانت إقامتهم في مكة للحج وللعمرة - بالأمس، كما هو الحال اليوم - لا تقتصر على الوقت اللازم لتأدية الشعائر، بل كانت تمتد أحياناً إلى أسابيع، لاسيما بالنسبة للقادمين من بعيد.
والسؤال الآن هو: هل كان هؤلاء المسلمون القادمون إلى مكة كثيرين أم كانوا يمثلون حالات منفردة؟
لقد ذكر ابن إسحاق، في حديث الفترة المكية، حالة الطفيل بن عمرو الدَّوْسي، الذي دخل في الإسلام ثم عمل على نشره بين أعضاء قبيلته. وقد تردد على مكة مرتين ليشرح للرسول صلى الله عليه وسلم الصعوبات التي لقيها ويلتمس دعواته، واستطاع خلال سنوات قليلة أن يهدي إلى الإسلام سبعين أو ثمانين بيتاً من قبيلته. ولكن "السيرة" لا تتحدث إلا عن هذه الحالة. وهذا جزء من استراتيجية مؤلفنا الذي جعله تَحَزُّبه الشديد لأهل المدينة يصور المدينة على أنها ملاذ الإسلام الوحيد، ويصور الجزيرة العربية كلها، ومكة بوجه خاص، على أنها رفضت الإسلام. وهذا قول صعب التصديق، والمؤلف لم يشرح الأسباب التي من أجلها كانت أنحاء شبه الجزيرة أقل تقبلاً للإسلام من المدينة، ولا تلك التي جعلت المدينة أكثر حفاوة بالدين الجديد. والواقع، في رأينا، أن الإسلام إذا كان قد نجح في القرون التالية نجاحاً كاسحاً لدى شعوب في أفريقيا وآسيا لا تعرف العربية، لابد - لأنه كان يروق للناس - قد حظي بنجاح مماثل في الجزيرة العربية، في الفترة المكية، أثناء حياة الرسول صلى الله عليه وسلم. وبفضل انتشار الإسلام في بلاد العرب، كانت أعداد متزايدة ممن اعتنقوه تفد إلى مكة للنهل من منابعه الروحية، ولعقد صفقات تجارية. وكانوا، بطبيعة الحال، يفضِّلون، عقد هذه الصفقات، مع بني دينهم، وكان ذلك يخفف إلى حدٍ ما من وطأة المقاطعة التي فرضتها قريش ضدهم (لا ضد بني عبد المطلب، كما يدعي النص). وكانوا يجدون في لقاء الرسول صلى الله عليه وسلم من الغبطة ما يجعل بعضهم يكثر من الذهاب إلى مكة لرؤيته.
هذا، فيما نرى، هو الحال الذي كان سائداً خلال الفترة المكية. أما بعد الهجرة، فقد تغيرت الأمور. لا بالنسبة لمشركي الجزيرة، فقد استمر هؤلاء في الذهاب إلى مكة للحج والعمرة، وإنما بالنسبة لمسلميها، الذين أصبحوا يذهبون إلى المدينة لزيارة الرسول صلى الله عليه وسلم.
وينبغي التفريق، بالنسبة لهؤلاء، بين مرحلتين: المرحلة التي تمتد من الهجرة إلى فرض الحج كواحدة من العبادات في الإسلام، والمرحلة التي تلي هذا الحدث.
وفي المرحلة الأولى كانت إقامة المسلمين الوافدين إلى المدينة تسير على المنوال ذاته الذي كانت تسير عليه في مكة قبل الهجرة. أما بعد أن فرض القرآن حج البيت على المسلمين، فقد قصرت فترة إقامتهم في المدينة وأصبحت مجرد إضافة للحج الشرعي. وترتب على ذلك أن أصبح ما ينفقونه من مال في المدينة أقل من ذي قبل.
كيف إذاً، وفي أي تاريخ، فُرض الحج كواجب ديني على المسلمين في الفترة المدنية ؟
لقد فُرض بمجموعة من الآيات شرحت أصله وقررته وحددت شعائره. وفيما يلي أهم الأحكام القرآنية التي نـزلت بصدده.
ورد تاريخ المسجد الحرام في الآيات التالية من سورة البقرة:
– وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيم ُ ﴿127﴾ رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَآ إِنَّكَ أَنتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ﴿128﴾
– وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِّلنَّاسِ وَأَمْناً وَاتَّخِذُواْ مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَن طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ ﴿125﴾
وعن فريضة الحج، وما هو محظور وما هو مباح، نجد الآيات التالية:
– وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ ﴿27﴾ [الحج]
– وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً ﴿97﴾ [آل عمران]
– الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ ﴿197﴾ [البقرة]
لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَبْتَغُواْ فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ ﴿198﴾ [البقرة]
وتقرر الآيات التالية بعض المحظورات وشعائر الحج:
– غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنتُمْ حُرُمٌ ﴿1﴾ [المائدة]
لاَ تُحِلُّواْ شَعَائِرَ اللّهِ وَلاَ الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلاَ الْهَدْيَ وَلاَ الْقَلائِدَ وَلا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّن رَّبِّهِمْ وَرِضْوَانًا ﴿2﴾ [المائدة]
وَإِذَا حَلَلْتُـمْ فَاصْطَادُواْ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُـمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَن صَـدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَـرَامِ أَن تَعْتَدُواْ ﴿2﴾ [المائدة]
– إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِن شَعاَئِرِ اللّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ ﴿158﴾ [البقرة]
هذه الآيات، التي وردت في سور مدنية، متى نـزلت؟ إن نص ابن إسحاق لا يوضح ذلك. ولما كنا نجهل التاريخ الذي بدأ فيه المسلمون يحجون إلى مكة بعد نـزول الآيات المذكورة، فإننا نجهل طول الفترة التي أصبحت فيها المدينة بمثابة مكة الجديدة لمسلمي مكة وشبه الجزيرة، وابتداءً من أي لحظة أصبحت زيارتهم للمدينة، نتيجة لفرض الحج إلى مكة، أقصر أمداً مما كانت منذ الهجرة.
وعلى النقيض، فإن في "السيرة" بياناً يسمح، بالمقارنة وبصورة تقريبية، بمعرفة الوقت الذي فُرض فيه الحج. إنها تخبرنا أن صرف القبلة (من القدس إلى الكعبة) تم على رأس ثمانية عشر شهراً من مقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة (ص 606). وقد تقرر هذا التغيير بالآية (144) من سورة البقرة في قوله تعالى: "قَدْ نرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاء فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوِهَكُمْ شَطْرَهُ" ولهذا السبب ولأن أهمية الكعبة بالنسبة لشعائر الحج لا تقل عن أهميتها كقبلة للصلاة، يجوز للمرء أن يستنتج أن صرف القبلة كان مقدمة لفرض الحج، وأن الآيات المتعلقة بهذه الفريضة نـزلت بعد صرف القبلة بوقت قصير. أي بعبارة أخرى أن المدينة أصبحت مقصد مسلمي الخارج لفترة عام ونصف على الأقل. وكانوا يفدون إليها بأعداد متزايدة. وكان فريق منهم يأتون من مختلف أرجاء الجزيرة بعد أيام أو أسابيع من السفر. ولكن فريقاً آخر كانوا يأتون من مكة. ولما كان ابن إسحاق قد أكد، خلافاً لما هو بديهي، أن جميع مسلمي مكة غير المحبوسين هاجروا إلى المدينة، فإن سيرته لا تتحدث أبداً عن أي وجود للمسلمين بمكة بعد الهجرة على اعتبار أن الإسلام استؤصل منها تماماً ولم يعد إليها إلا عند الفتح بعد ثماني سنوات من الهجرة. وهذا خطأ كما أوضحنا. ومن شبه المقطوع به أن نفراً من المسلمين الذين بقوا في مكة كانوا يسافرون إلى المدينة لرؤية الرسول صلى الله عليه وسلم ورؤية أقاربهم وكانوا يبقون معهم فترة من الوقت. ثم إنه كان هناك أيضاً من بين الوافدين إلى المدينة فئة لا ينبغي أن ننساها. فئة لم يكن قدومها بغرض الزيارة ولكن للبقاء كمهاجرين جدد. أشخاص من شبه الجزيرة أو من مكة كانوا يستجيبون لدعوة القرآن الكريم في آيات مثل:
– وَمَن يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللّهِ يَجِدْ فِي الأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلى اللّهِ وَكَانَ اللّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا ﴿100﴾ [النساء]
كل هؤلاء المسلمين، بالإضافة إلى أولئك الذين كانت قبائلهم تخرجهم، كانوا يتوافدون إلى المدينة، ونشأ عن توافدهم، في هذه البلدة - الواحة، وضع غير مسبوق فيها. لقد كان الأمر يقتضي إسكانهم، وإطعامهم، وتقديم الخدمات لهم. وكما هو الحال بالنسبة للحجاج الذين كانوا يصلون إلى مكة، كان هؤلاء المسلمون كثيراً ما يُحضرون معهم من الأموال والسلع ما يكفي لدفع نفقات إقامتهم. ومتى انتهى لقاؤهم مع الرسول صلى الله عليه وسلم، كانوا يسعون لإجراء عمليات بيع وشراء وتجارة. كان لابد إذاً من بناء بيوت لإسكانهم، وإنشاء أسواق لمعاملاتهم ومرافق لخدمتهم. وكانت الوسائل البشرية والمالية اللازمة لمواجهة هذا الوضع الجديد متوافرة محلياً، فقد كان من بين مهاجري مكة تجار و"مقاولون" ورجال أعمال لهم باع طويل في هذه الأنشطة، فقد كانت "الفندقة" والتجارة وتقديم الخدمات فنوناً مارسوها وورثوها أباً عن جد. وكان الزوار يعرفون بعضهم ويتعاملون معهم في مكة. وفيما يتعلق ببناء المنازل وتقديم الخدمات كانت المدينة غاصة بيد عاملة رخيصة تبحث عن عمل. أما الأموال اللازمة لكل هذه المشروعات فكانت موجودة. لقد استطاع بعض التجار المهاجرين أن ينقذوا أموالهم من المصادرة في مكة، وأحضروها معهم. واقترض آخرون أموالاً من إخوانهم أهل المدينة أو أشركوهم في مشروعاتهم التجارية. وما أن وصل المهاجرون إلى المدينة حتى اشتروا جمالاً، وكوَّنوا قوافل أرسلوها إلى داخل الجزيرة لشراء المنتجات المحلية، ثم إلى سوريا والعراق لبيع هذه المنتجات وشراء بضائع أخرى يبيعونها في المدينة لعملائهم الجدد.
لقد كان وصول الزوار إلى هذه المدينة خيراً عميماً من كل وجهات النظر، فقد سمح بتنمية اقتصادها عن طريق إضافة قطاعات نشاط جديدة إلى أنشطتها التقليدية. وبفضل مهارة المهاجرين التجارية ومعرفتهم التامة بالأسواق الداخلية والخارجية، استطاعوا، في وقت قصير، أن يحققوا لأنفسهم استقلالاً اقتصادياً يرفع عبئهم عمن استضافوهم من أهل المدينة، كما استطاعوا أن يخلقوا فرص عمل لكثير من المهاجرين ولبعض أهل المدينة الفقراء. وقد تحسنت نتيجة لهذا النشاط كل أحوال الناس المعيشية وظهرت بوادر الانتعاش في كل مكان. وكانت آفاق المستقبل في المجال الاقتصادي طيبة، كما أن كثيراً من المشكلات التي تمخضت عن الهجرة تم حلها بمرور الوقت أو كانت في سبيلها إلى الحل.
كذلك فإن الأمور، على المستوى الديني، كانت تجري بصورة مُرضية. واستطاع الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وقد تخففوا من المشاغل المادية، أن يكرسوا ما يلزم من الوقت والاهتمام لنشاط الدعوة. وخلَق الانتعاش الذي نتج عن تقاطر الزوار على المدينة، وسلوك المهاجرين النموذجي، والمثل الذي كان يضربه المسلمون القادمون من بعيد لرؤية رسولهم والتمتع بقربه، مناخاً ملائماً لنشر الإسلام. وكانت أعداد متزايدة من أهل المدينة تدخل في الإسلام. على أن هذا لم يكن، بطبيعة الحال، من بواعث السرور لجميع الناس.
إن غير المسلمين من أهل المدينة ذاتها كانوا ولا شك يتحدثون عن شيء كالاحتلال: هؤلاء المسلمون، ونبيهم، الذين وصلوا إلى بلدتهم كلاجئين فقراء، أصبحوا، أو هم بسبيل أن يصبحوا، قوة تضر بمؤسساتهم، وتحالفاتهم، وتقاليدهم، وحتى نمط حياتهم. صحيح أنهم جاءوا للمدينة بشيء من الرخاء، ولكنهم أول المستفيدين منه. أما التجار المحليون فقد أُضيروا بمنافستهم. ورؤساء القبائل والعشائر، لم يعد لهم على أعضائها السلطة التي تخولها لهم صفتهم، وقد هجر عديد من هؤلاء الأعضاء انتماءاتهم القبلية. لقد أحدث محمد وقرآنه خراباً كثيراً في مجتمعهم. ومع السيل الذي لا يتوقف من زائري مكة وسائر الأنحاء لم يعد أهل البلد الأصليون يشعرون أنهم في بلدهم.
كذلك فإن أوساط اليهود في المدينة كانت بدورها تتابع تطور الأحداث بقلق: هذا الرجل الذي يدعي أنه نبي والذي يحاول بقرآنه أن يقوِّض الدعائم الاجتماعية- الدينية للنظام القبلي الذي مرت عليه آلاف السنين في المدينة، والذي جاء بالثورة إلى عالمهم، ومنظر المسجد وهو يُبنى، والموجات المتلاحقة من الزائرين الأجانب التي تتوالى على المدينة، وقلب الموازين الديموغرافية لطوائف البلد وتوزيع الأدوار في المجال الاقتصادي بينهم وبين غيرهم من الأهالي، وإقبال هؤلاء المتزايد على الإسلام، ومنافسة التجار المهاجرين لليهود باجتذابهم للزبائن المسلمين المحليين والأجانب .. كل هذا جعل الخصومة الدينية بين اليهود والمسلمين تقترن، منذ السنة الأولى للهجرة، بتنافس تجاري قوي.
ومكة، من جانبها، كانت تتوجس من هذا التطور. لقد كانت تشعر بأنه يهدد مصالحها باعتبارها العاصمة الدينية والتجارية لجزيرة العرب بأكملها. وكانت منافسة المجتمع الإسلامي لها في المدينة خطراً على مستقبلها. إن جزءاً غير قليل من زبائنها التقليديين الذين كانوا يفدون إليها للحج والتجارة انصرفوا عنها إلى محمد. والأدهى من ذلك أن بعض أبنائها من المسلمين كانوا يذهبون إلى المدينة وينفقون فيها من مالهم. أي فضيحة لمكانة مكة، وأي خسارة لتجارتها!
كانت السنة الأولى للهجرة إذاً السنة التي ظهر خلالها في المدينة كيان إسلامي قائم بذاته. لقد استوعبت فيها صدمة الهجرة. ونشأ عن الزيارات والهجرات الجديدة ازدهار اقتصادي شجَّع على اتساع الإسلام وسمح بحل أو بتخفيف مشكلات الجماعة الإسلامية. ولكنها كانت في الوقت ذاته السنة التي زاد فيها العداء للإسلام لدى مشركي المدينة، ولدى القبائل اليهودية، ولدى قريش. وكان من الطبيعي أن يضم خصوم الإسلام صفوفهم وأن يُعْمِلوا الفكر في الوسائل التي يمكن بواسطتها احتواء صعود الإسلام في المدينة. ولابد أن مشركي هذه المدينة ويهودها قالوا لأصدقائهم المكيين إنهم بذلوا كل ما في وسعهم للحدِّ من نفوذ محمد، لكن الحيَل أعيتهم. لابد من عمل عسكري لمنع تدفق الموجة الإسلامية. وكان بودهم أن يتولوا هم مثل هذا العمل ولكنهم يكرهون أن يقتلوا أبناء وإخوة حلفائهم المكيين. قريش هي التي عليها أن تقوم باللازم.
إن ردود الفعل التي من هذا النوع شيء مألوف. والأمثلة لا تحصى في التاريخ القديم والحديث للحالات التي أدت فيها اعتبارات المصالح الاقتصادية، وحدها أو بالإضافة إلى الاعتبارات الدينية أو الأيديولوجية، إلى نـزاعات عسكرية. وإذا كانت مكة، بعد ثمانية عشر شهراً من الهجرة، قد سيَّرت جيشاً ضد محمد في المدينة، فقد كان ذلك، في رأينا، للأسباب التي شرحناها لا - كما يدعي ابن إسحاق في حديث غزوة بدر - لأن الرسول صلى الله عليه وسلم أراد أن يستولي على قافلة لقريش جاءت من الشام في طريقها إلى مكة.