أولا :
1 ـ دخلت الشعوب العربية مع بداية العقد الثانى من هذا القرن الحادى والعشرين موجة التحول الديمقراطى.
بعد أن إجتازت مرحلة التحرر من الاستعمار قامت فيها أنظمة استبدادية بأيدلوجيات مختلفة قومية و دينية ومذهبية ، وأثبت تلك النظم الاستبدادية عتوها وفسادها ودناءتها وحقارتها واحتقارها لشعوبها الى درجة لا مثيل لها . احتكرت تلك النظم القوة العسكرية و البوليسية و استخدمتها فى قمع الشعوب وتعذيبهم ، وتحت شعارات مختلفة من مواجهة أمريكا واسراÆئيل أو مواجهة ايران أو الارهاب ظهر أن أولئك الزعماء قاموا بنهب منظم لثروات الشعوب فى الوقت الذى ينبطحون فيه أمام أمريكا واسرائيل ، أو يرتعدون من أيران أو يتمدد ويستفحل بسياستهم وتدبيرهم خطر الارهاب.
الاستبداد العربى خلق من المستبدين نماذج بشرية مشوهة ، وصل بها المستبد الى الحضيض . مبارك كان كلبه البرنس يأكل الطعام المستورد بالطائرات من باريس فى الوقت الذى يتقاتل فيه المصريون فى طوابير الخبز ـ قتالا حقيقيا يسفر عن ضحايا . كان يتنقل بين استراحاته ومنتجعاته وقصوره بالطائرة ويعطى أراضى الخريجيين بثمن بخس لأذنابه بينما يعيش المصريون الفقراء فى المقابر و العشوائيات . وعندما هبت ثورة اللوتس بشباب مصرى ينادى ( سلمية سلمية ) ذهب مبارك الى رئاسة أركان الجيش كما لو كان يدخل حربا ضد اسرائيل ، وأمر بتدخل دبابات وطائرات الجيش لسحق المتظاهرين .
هذه نظرة المستبد لشعبه . لا يختلف فى ذلك مبارك الهادىء البليد عن أراجوز ليبيا الذى حقن أطفال ليبيا بفيروس الايدز ليلفق قضية الممرضات البلغاريات ويتخذ منها مادة إعلامية تتيح له الظهور الاعلامى ، وكى يكسب منها تعويضا . وعندما تدخل الغرب ليضربه فى معقله وجدنا القذافى يفرّ هاربا بعد أن حشد أطفال ليبيا ليكونوا درعا بشريا ورهائن يمنع التحالف من ضرب قصره .
هذا الانحطاط للمستبد العربى لم يكن يضاهيه سوى تحكمه فى الشعب ، حتى وصل التحكم الى العقائد والأفكار والآراء .
وأدث ثورة المعلومات والاتصالات الى تحرير الفرد العربى فلم يعد بوسع المستبد سجنه خلف سور حديدى . أراد المواطن العربى المقهور أن يثور فواجهته مشكلة ضعفه أمام جيوش المستبد و عتو أجهزته البوليسية . أدرك المواطن العربى أن ضعفه هو سرّ قوته لو قام بتغيير نفسه و استعذب الموت فى سبيل حياة كريمة ، فهو لا يطلب سوى أن يتمتع بحقوقه الانسانية و السياسية شأن أى فرد آخر فى العالم الحرّ.
من هنا بدأ هدير الثورات العربية ـ ليست ثورات ايدلوجية أو ساعية الى الحكم ، ولكنها تريد الحرية و العدل والكرامة للجميع . وواجهت بصدورها العارية جيوش البوليس ، وسقط الضحايا .. وفى النهاية نجحت فى تونس ومصر فى عزل بن على و مبارك . وعلى نفس الطريق ـ وبدرجات مختلفة تسير ثورات أخرى فى اليمن و ليبيا والاردن والعراق والجزائر و المغرب .. ثم سوريا .
2 ـ السيناريو واحد ..يتصرف المستبد بالفجور و العنف يقتل المتظاهرين وتتصاعد الاحتجاجات العالمية ، ويؤدى قتل الشهداء الى تضاعف الثورة فيرتعب المستبد و يستخدم قدرا أكبر من القوة ، ويسقط المزيد من الضحايا و يصل المستبد الى منطقة الصفر ، هل يستمر فى الحرب ويعرّض بلده لخطر الحرب الأهلية والتدخل الاجنبى العسكرى ، أم يخضع للضغوط ويترك الحكم كارها ، فيبقى أو يهرب . وفى كل الحالات يتعين عليه مواجهة مصير مجهول ، لأنه بمجرد أن أمر بفتح النار على المتظاهرين فقد أدخل نفسه الى هذه النهاية ، فلن يكون أمامه سوى المحاكمة الجنائية الدولية أو المحلية ، علاوة على كشف وفضح كل ملفات سرقاته وجرائمه ومخازيه ، ومطالبته بدفع الثمن فى محكمة العدالة .
3 ـ . المستبد العربى قد يكون ملكا يعتمد على نسبه المزعوم لآل البيت ( الاردن ) ( المغرب ) أو على مذهب سنى وسلالة حاكمة توارثت الحكم ( السعودية و دول الخليج ) ، أو حكم عسكرى من بقايا عصر الثورات ( تونس والجزائر و ليبيا ومصر و اليمن ) أو ممثلا لا يدلوجية عربية وطائفية معتمدة على الجيش ( سوريا والعراق ).
4 ـ الملك عبد الله السعودى تعود طبقا للسياسة السعودية أن يحل المشاكل بالرشوة المالية ، عندما أحسّ بالخطر بادر بتوزيع المليارات على الشعب كأنه إكتشف مؤخرا معاناة شعب المملكة . ولكن الرشوة لن تحل مشاكل مزمنة من القهر و الفساد المزمن و المرتبط بأسرة استحوذت على الثروة و السلطة وتنظر للشعب على أنه ملكية خاصة لها. لا بد أن تعود القلاقل داخل المملكة متشجعة بأسباب كثيرة محلية و اقليمية وعالمية ، إذ لا يمكن أن يرضى أحرار الجزيرة العربية بالقعود وهم يشهدون نجاح الثورات حولهم بينما لا يزالون مستعبدين للاسرة السعودية . كما إن تمسك الحكم السعودى بمميزات الأمراء وتغاضيه عن فسادهم وامتلاء سجون المملكة بسجناء الرأى وانتشار التعذيب وسطوة المتخلفين من علماء الوهابية واستمرار مظالم الشيعة فى المنطقة الشرقية واستمرار تهميش المناطق الجنوبية ـ كل ذلك مع الأصابع الايرانية داخل المملكة و فى الخليج والعراق سيسارع بانفجار الوضع فى السعودية إن آجلا أو عاجلا . وعندها لن يجدى تدخل السعودية لانقاذ ( ملك البحرين ) باللعب على الطائفية والخطر الايرانى و التعامى عن فساد الحكم الملكى فى البحرين .
5 ـ فى سوريا وتحت شعارات القومية وتحت لواء حزب البعث تمكن زعماء طائفة شيعية مقهورة ـ هى الشيعة العلوية النصيرية ـ من الوصول للحكم و الاستمرار فيه من خلال الأسد الأب والابن .عانت الطائفة الشيعية العلوية النصيرية من اضطهاد الأغلبية السّنية ، خصوصا بعد انتشار الوهابية بين السنيين و ظهور حركة الاخوان المسلمين . وجاءت فرصة الشيعة العلوية النصيرية للانتقام بعد وصولهم للحكم . ولم يقتصر انتقامهم على السنيين والاخوان المسلمين ـ وهم الأغلبية فى سوريا بل تعدى انتقامهم الى الأكراد السوريين . فهناك أقلية إثنية سورية هى الأكراد السوريين تماثل عدد الشيعة العلويين النصيريين ، يتعرضون للتمييز العرقى تحت شعار القومية العربية من جانب نظام حافظ ثم بشار الأسد . سار الابن بشار على خطى أبيه غير مدرك لمتغيرات العصر. وحتى الآن يتصرف بنفس طريقة بن على ومبارك ، وسيصل به الحال ـ بعد أن أقدم على قتل المتظاهرين فى درعا الى اتساع الثورة ووصوله الى ميدان نقطة الصفر إما أن تكون حربا أهلية أو تدخلا أجنبيا ، وفى كل الأحوال هو الخاسر بعون الله جل وعلا.
6 ـ ومع وجود حزب البعث فى العراق ووصوله الى الحكم فقد كان العداء هائلا بين حزبى البعث السورى (الأسد ) والبعث الصدامى العراقى ، والسبب الأهم هو أن المسكوت عنه هو الانتماء الطائفى لكل منهما ، فالبعث السورى شيعى محب لايران ، و البعث العراقى خصم لايران و الشيعة . الطائفية هى الأقوى ، والقومية العربية ليست سوى وسيلة للوصول للحكم .
7 ـ و لبنان بتركيبتها الطائفية العرقية و الدينية و المذهبية هى ساحة الصراع من كل لون محليا و اقليميا و دوليا ، بما يظهر معه أن ديمقراطيتها المزعومة ليست سوى واجهة زائفة تخفى خلفها تبعية كل جمهور لقائد يحتكر السلطة و الثروة دون قومه وعشيرته على سنة المستبد العربى .
8 ـ وقد فهمت جماهير العراق هذه الخديعة ، فالزعماء الشيعة و السنة يتنافسون فى السرقة و النهب والفساد بينما يجوع الملايين من العراقيين و يعيشون فى الخارج فى حالة يرثى لها . وبدأت ثورة العراقيين تنبذ الشعارات الطائفية وتنادى بالعدل ومحاربة الفساد وحصولهم على حقوقهم فىالثروة و المشاركة فى السلطة . ويبقى أن تدخل جماهير لبنان لتتحرر من ربقة حكام الطوائف ومخازيهم وصغارهم .
أخيرا :
1 ـ لتذهب الى الجحيم كل الشعارات الطائفية والقومية الايدلوجية ومواجهة الاستعمار والصهيونية ، فقد إتّضح أنها وسائل للمستبد لكى يقهر الشعب وينهب ثروة الوطن .
2 ـ الفريضة الغائبة الآن هى حقوق الانسان وحق الفرد العربى فى الثروة و السلطة ، وأن يكون نظام الحكم فى خدمة الفرد وليس فى حكم الفرد ، وأن يكون الوطن ليس مجرد جغرافيا ومساحة من الأرض ، ولكن أن يكون الوطن فى الأساس هم الناس ، وأن ينقسم الوطن بالمساواة المطلقة على جميع المواطنين بغض النظر عن اللون و الجنس و الدين والمذهب . هنا تكون الوطنية وهنا يكون العدل ، وبهذا يجب أن تتمسك الثورات العربية .