يحدث الآن في مصر

كمال غبريال في الأربعاء ٠٩ - فبراير - ٢٠١١ ١٢:٠٠ صباحاً


أزعم أن ما يظهر على السطح، من استيقاظ المارد المصري ممثلاً في الشباب، الذي هب ينادي بالحرية والكرامة، ساعياً لإسقاط النظام وطاغيته، هو أشبه بما اعتدنا أن نراه في الجزء الطافي من جبل الجليد. . ما يظهر هو ألسنة نيران الثورة المقدسة، وهي تتراقص أمام عيوننا، لتدهشنا جميعاً نحن المصريين، وليس فقط المراقبين الخارجيين، الذي يرون الراقدين منذ دهور تحت تراب الاستكانة، يهبون فجأة وبلا مقدمات ذات قيمة، ليطيحوا بأعتى النظم قوة، وسيطرة مركزية ربما لا مث&ml;يل لها في العالم كله.
مصر الآن صارت بوتقة، يجري فيها تشكيل الشعب من جديد، وقد انصهر في نيران الثورة. . الشعب السلبي القانع الراضي كما نقول بالقسمة والنصيب، أو المكتفي بالتذمر أو النقمة السلبية على أحواله المعيشية. . الشعب الذي تتغلغل في دماه الثقافة الأبوية، التي ترى الحاكم صورة أو ظل الله على الأرض، وأنه لا حيله له إلا الرضوخ لقضاء الله وقدرة، وبالأقصى الدعاء لأن "يولي الله من يصلح". . الشعب الذي اختطفته تيارات التلاعب بالدين، وذهب مسلموه وراء الشعارات الجوفاء الظلامية لجماعه الإخوان المسلمين، بينما هرب الأقباط إلى ما تحت عباءة الكهنة ورئيسهم صاحب القداسة والعظمة، وصدقوا خطابهم التغييبي المنافق والانعزالي، فراح محسوبون على الإسلام ينشرون دعاوى الكراهية والقتل والإجرام بين أبناء الوطن الواحد، بينما استمرأ الأقباط دور الشهيد والمجني عليه، يرفعون صراخهم وعويلهم في مازوكية، بأكثر مما يستهدفون تغيير الأحوال جدياً، ليبدو الوطن الواحد والشعب الواحد عبر آلاف ممتدة من السنين، وقد نجح مبارك وسلفه السادات في ضربه في مقتل، فتشقق وتصدع إلى شذرات متطاحنة متقاتلة. . هذا الشعب الذي التحف بالسلبية والفهلوة والنفاق، كإسلوب يستعين به على البقاء حياً، وسط المستنقع العشوائي المصري، الذي تفوح منه روائح الفساد في جميع مجالات الحياة. . هذا الشعب الذي كان يبيع صوته في الانتخابات بعشرين أو بخمسين أو حتى مائتي جنيه، وهو موقن أنه يقوم بصفقة رابحة، إذ يبيع صوتاً لا يقدم ولا يؤخر في حالة بلاده السياسية والاقتصادية، مدركاً أن من يسوقونه سوق النعاج ماضون بإصرار في طريقهم، سواء أعطى صوته لهذا المنافق والمحتال أم ذاك. . الكل سواء في نظر الشعب الذي اصطنع الغباء وصدقه حكامه، ولن يزيد جمال مبارك ولن يقل سوءً عن أبيه، كما لم يزد ولم يقل أبيه سوءً عن سلفه، وإن كانت الأحوال تسير باستمرار نحو المزيد من التفاقم، حتى "بلغ السيل الزبى" كما يقولون!!
هذا الشعب كله قد قام الآن، ولم يعد الأمر من الآن فصاعداً مجرد ثورة شباب. . نعم الشباب هو من أشعل نيران الثورة، لكن لهيب تلك النيران قد أيقظتنا جميعاً، نحن الجيل الخانع الذي كان قد تجمد أو تعفن، حتى فاحت رائحة تحلله وفساده ونفاقه، وصارت تزكم أنوف العالم كله. .خلف هذا الشباب الآن آباء وأمهات يشارك بعضهم الآن في التظاهرات، لكن أغلبهم يقف خلف أولاده فرحاً مشجعاً. . يقف صامداً ومستعداً لتحمل نفقات تلك الثورة المقدسة، سواء كانت تلك النفقات دماء أم معاناة اقتصادية ومعيشية، وهنا بالتحديد يظهر معدن هذا الشعب، الذي كان أول من علم العالم الحضارة، وإن صار في آخر الزمان أضحوكة للعالمين!!
الآن يا سادة تسقط في مصر ثوابت كثيرة، وسوف يسقط أكثر وأكثر، كلما اشتدت سخونة البوتقة المصرية، لتحرق كل ما علق بنا من شوائب، ليظهر المعدن المصري الأصيل بصورة حداثية، نتوقع أن تكون مثلاً يحتذى في قدرة الشعوب، ليس فقط على إسقاط قادتها الفاسدين الطغاة، ولكن أيضاً على تغيير نفسها بنفسها. . تسقط الآن أيضاً الأصنام واحدة فواحدة، فبعد أو مع سقوط الصنم الأكبر الحاكم الديكتاتور، وخروج أعوانه يتسولون بقاءه لشهور، بدعوى أنه أب لنا وليس مجرد موظف لدينا بدرجة رئيس جمهورية، أو باستدعاء بطولة له يقال أنه قد قام بها منذ ما يقرب من أربعين عاماً. . مع هذا السقوط المزري للنظام وقائده، تسقط الفزاعة التي استخدمها لنقبله به ويقبله العالم الحر كل هذه السنوات. . جماعة الإخوان المسلمين التي كان خطابها الديني المخادع والظلامي هو فقط ما يجذب الجماهير ويثير اهتمامها ويجلب تعاطفها، نجد كوادرها الآن في كافة المدن المصرية لكي تتواجد وسط خضم الثورة الجماهيري الهائل، تضطر للتخلي عن ذلك الخطاب، وتهتف للحرية والكرامة وللوحدة الوطنية ولعناق الهلال مع الصليب!!. . لا يهمنا هنا إن كانت تفعل ذلك كعادتها من قبيل التقية، أم أن هناك تغييرات حقيقية تحدث في فكر أعضاء الجماعة بفعل نيران الثورة، وهو ما يحدث بالفعل. . ما يهمنا هو أن استيقاظ المارد المصري قد قلب المعادلة المصرية تماماً، فلم تعد معادلة من مركبين، حكم مستبد أمام جماعة ظلامية، فقد احتل أغلب المساحة الآن الإنسان المصري البسيط، الذي قام يطلب الحرية والكرامة والعدالة والتقدم. . هو بحر هادر يسعى للطفو على سطحه بقايا ما قبل 25 يناير 2011، سواء منافقي الديكتاتورية وزبانيتهم، أو جماعة الإخوان التي صارت الآن كقطرة في بحر جماهيري هادر، أو المتثاقفون من فلول الناصرية والاشتراكية والعروبة الشمطاء، والذين يسيطرون على أحزاب كرتونية، ووسائل إعلام كان سقوطها في التعامل مع الثورة مدوياً ومخجلاً لكل منتسب لها.
التخوف والاحتراس جائز من الفلول البائدة باختلاف صنوفها، لكن الرعب السابق منها غير مبرر بالتأكيد، ليس فقط لأنه يضللنا ويمكن أن يفشل مسيرتنا، ولكن أيضاً لأن هذا الرعب منها يدل على أننا نفشل في قراءة ما يحدث في مصر الآن، ونستهين بقدرة وقدرات الشعب المصري، الذي يقف العالم بحق لينظر الآن كيف يبني قواعد المجد وحده. . سوف يتغير الجميع عبر التفاعلات المصرية الجارية، وإن بدرجات تتفاوت بالطبع بين شخص أو تيار وآخر، لكن لا أحداً منا سينجو بصورة مطلقة من هذا التغيير. . الشبان والشابات في الأحياء المصرية الراقية والشعبية على السواء يقومون بجمع القمامة وكنس الشوارع، ويجمعون أموالاً لترميم ما تهدم من مدنهم أثناء الأحداث، في ذات الوقت الذي مازالت فيه ثورتهم قائمة، وفي أوج تحديها لسدنة الطغيان. . أنصح الجميع بأن لا يحكموا على مصر وفقاً لتصوارتهم وأولياتهم القديمة، فالزلزال المصري أطاح ويطيح بالقديم، ليخلق واقعاً جديداً جد مختلف، لكنه بالطبع سيتسغرق وقتاً ليأخذ مداه، وليتغلغل في كل مناحي حياتنا، كما قد يواجه مقاومة ويكلفنا تضحيات، قد لا تقل عما دفعنا وندفع في خلع الطاغية وبطانته. . لكن الأكيد أنه ليس من قبيل التمنيات أو فرط التفاؤل أن نقول، أن فجر الحداثة المصري قد أشرقت أنواره بالفعل على وادي النيل، وأن الشمس لن تلبث أن تسطع بنورها في كل مناحي حياتنا.

 

اجمالي القراءات 10102