" لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ"" البقرة 114 " .
القرآن الكريم لغة الحياة ، وما يقوله القرآن عن البشر يتجسد واقعا في حياة الناس ولا تملك إلا أن تقول ، صدق الله العظيم
أولا :
1 ـ العادة في هذه السلسلة من المقالات أن نستشهد بروايات التاريخ الماضى على صدق الواقع القرآني وانطباقه على تاريخ المسلمين بعد نزول القرآن الكريم .ولكن الأحداث التي يعيشها المسلمون في العصر الراهن تؤكد أيضاً صدق القرآن . وبالتحديد في iacute; التحول الديمقراطي تونس ومصر والذي اطاح بزين العابدين بن علي والآن يواجه مبارك في مصر نفس المحنة ..
فيما يخص موضوعنا نختار حالة " الخزي " التي يعيشها المستبد في محنته ، إذ كان يتصرف كأنه إله مقدس يأمر ويطاع ، ويمنح ويمنع ويقتل ويعذب ويمنح الملايين وينهب البلايين ، ثم فجأة يأتيه الأنفجار من الداخل فيعيش في خزي ورعب إلى أن تنتهي حياته ..
2 ـ " الخزي " هو نوع من العذاب النفسي ينتظر الظالمين في الدنيا والآخرة ، وهو مقترن بعذاب مادي سنخصص له حلقة في القاموس القرآني . ولكن نركز هنا على حالة واحدة فقط هى الخزي في الدنيا والذي يلحق بأعداء الله جل وعلا الذين فقط لا يعتدون على حقوق العباد ، ولكن يعتدون أيضاً على حقوق رب العباد جلا وعلا ..
3 ـ هناك مستبد يقصر استبداده على البشر فقط أي يسلبهم حقوقهم السياسية والأقتصادية دون تدخل في حريتهم الدينية ، ومهما بلغ استبداده ومهما بلغ عدد ضحاياه ـ مثل هتلر ـ يظل من الناحية النوعية مستبدا من الدرجة الثانية .
لكن هناك مستبد يبالغ في استبداده ، ولا يقتصر على مصادرة حقوق الشعب السياسية والاقتصادية ولكن يتطرف فيتدخل بالمصادرة والمنع في حريتهم الدينية. فقد شاء الله جل وعلا ان يكون البشر أحرارا فى الدين ، ومنع جل وعلا الاكراه فى الدين ، وقرن هذا التشريع بدعوة لهم أن يعبدوا الله جل وعلا مخلصين له الدين ، بلا تقديس لبشر أو حجر . وهم أحرار فى الطاعة و العصيان والايمان أو الكفر ، وهم مساءلون عن اختيارهم الدينى يوم الدين .
وبالتالى يحرم أن يقوم مستبد متسلط بفرض دينه على الناس أو أن يضطهد من يخالفه في الدين والمذهب .
4 ـ قريش ـ وقت نزول القرآن الكريم ـ كانت لهم مساجد في مكة يؤدون فيها الصلاة لله تعالى ويؤدون أيضاً الآذان والتقديس للأولياء وقبورهم المقدسة داخل تلك المساجد ، وحين قام خاتم النبيين يدعوهم إلى أن تكون المساجد خالصة لله تعالى وحده دون تقديس لبشر في الآذان والصلاة تكالبوا عليه وصادروا حريته فى الاعلان عن رأيه ، حسبما جاء في قوله جلا وعلا (وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا ، وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا ،قُلْ إِنَّمَا أَدْعُو رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِهِ أَحَدًا) "الجن 18 :20 " ..
وسورة الجن نزلت في مكة ، وبعدها هاجر النبي محمد عليه السلام إلى المدينة وظلت مساجد مكة على حالها في عبادة الله تعالى وتقديس الأولياء ، ولكن جذوة الهداية ظلت مشتعلة في مكة بعد هجرة النبي والمؤمنين إلى المدينة ، وتكاثر الدخول في الإسلام ، وشعرت قريش والأمويون بهذا فكانوا يمنعون المؤمنين من دخول المساجد التي يتحكمون فيها ، وهي أصلاً مساجد لله جل وعلا : يقول تعالى" وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن مَّنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَن يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا أُوْلَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَن يَدْخُلُوهَا إِلاَّ خَائِفِينَ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ " "البقرة 114 " .
5 ـ ونفهم من الآية الكريمة أن أشد الناس ظلما هم الذين يتحكمون فى المساجد ، ويستخدمون سلطتهم على تلك المساجد وخارجها فى اضطهاد وتخويف من يعارضهم . ولا يرتكب جريمة الاكراه فى الدين سوى أصحاب الديانات الأرضية، ومن خصالهم السيئة أنهم الذين يتحكمون في مساجد الله جلا وعلا .
المؤمنون بالاسلام الحق يرون أن المساجد ينبغى أن تكون لله تعالى وحده ، لا يذكر فيها بالتعظيم والتقديس والعبادة سوى رب العزة جلا وعلا وحده ، ولكنهم لا يفرضون عقائدهم على غيرهم ، خوف الوقوع فى جريمة الاكراه فى الدين ، لذا يلتزمون بالدعوة لاخلاص العقيدة و العبادة لله جل وعلا وحده ، وبالحكمة و الموعظة الحسنة ، فإذا صمم أحدهم على الرفض يكون شعارهم : إعملوا على مكانتكم إنا عاملون وانتظروا إنا منتظرون .
أما أولئك الظالمون المسيطرون على مساجد الله سبحانه وتعالى فيمنعون المؤمنين من دخولها ويسعون في خرابها باستخدام مساجد الله في نشر الأكاذيب المفتراه المنسوبة لله تعالى ، وفي نفس الوقت يشيعون جواً من الإرهاب يجعل المؤمنين في وجل وخوف وهم يرتادون تلك المساجد . أولئك الظالمون مصيرهم الخزي في الحياة الدنيا ثم ينتظرهم في الآخرة عذاب عظيم طبقا لقوله جل وعلا: (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن مَّنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَن يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا أُوْلَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَن يَدْخُلُوهَا إِلاَّ خَائِفِينَ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ)
6 ـ والملاحظ هنا ان الله جل وعلا جعله حكماً عاماً يسري فوق الزمان والمكان ، وفى كل زمان ومكان وليس مقصوراً على حادثة معينة محددة بالزمان والمكان . وعلى سبيل المثال فنفس الجزاء وهو (لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ)جاء أيضاً في حادثة محددة عن أناس بعينهم عاشوا في عصر النبوة ونزل فيهم قوله جل وعلا يخاطب خاتم المرسلين : (يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لاَ يَحْزُنكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُواْ آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِن قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هَادُواْ سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِن بَعْدِ مَوَاضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِن لَّمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُواْ وَمَن يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَن تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَن يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ "المائدة41 " الكلام هنا محددبالزمان والمكان والأشخاص ، وليس مثل الآية 114 من سورة البقرة التى تنطبق على كل زمان ومكان .
ثانيا :
1 ـ الآية الكريمة: (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن مَّنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ ...)(البقرة 114 ) تنطبق على رئيس تونس السابق ، الذي أرهب من يدخل المساجد ، وسلط شرطته السرية تراقب من يدخل المساجد ، بل تفتش المصلّين امعاناً في أرهابهم ،وظل متحكماً في حياة التونسيين إلى ان ثار عليه التونسيون فحاول التراجع ، ثم انتهى به الأمر إلى الهرب ، وحقت عليه لعنة الخزي قبيل الهرب وبعده ، وسيظل يعيش في خزي وعار إلى أن يموت ، وفي الآخرة ينتظره عذاب عظيم مصداقاً لقوله جل وعلا " لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ ".
2 ـ الآية الكريمة " وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن مَّنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَن يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا أُوْلَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَن يَدْخُلُوهَا إِلاَّ خَائِفِينَ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ " البقرة 114 " تنطبق على حسني مبارك " ونحن أهل القرآن على ذلك شهود .
قضيتنا تثير العجب ، لماذا كان مبارك يصمم على إضطهادنا عبر اربع موجات من الأعتقال والسجن " 1987 ، 2000 ، 2001 ، 2007 ، 2009 " مع ان عملنا السلمي التنويري موجه أساساً إلى الإصلاح الديني ومواجهة فكر التطرف من خلال الإسلام والقرآن الكريم . المتعجبون يرون في عملنا التنويري خدمة لنظام مبارك نفسه في مواجهة أعدائه الداعين لقلب نظام حكمه،وبالتالي فالمنتظر ان يساعدنا أو على أقل تقدير ان يتركنا في حالنا . ولكن مبارك قام بتسليط كل اجهزته ضدنا ، من الأمن والاعلام والأزهر والدعاة في المساجد . ولأنه يصعب توصيف اتهام قانوني لنا فقد اكتفى بالتلفيق واتهامنا بازدراء الدين بعد أن تبين ان أنكار سنة البخارى ليست تهمة في القانون المصري ..
بل يتطرف مبارك فيتعامل معنا بقانون الطوارئ والحبس الأحتياطي والتعذيب .وتحت التعذيب في مقرات أمن الدولة في شبرا الخيمة ومدينة نصر يستجوب زبانية مبارك أهل القرآن يسألونهم عن كيفية الصلاة ، ورأيهم في الزكاة والحج ،وعما كان يقوله لهم أحمد صبحي منصور في التسعينيات ، وماذا يقولونه لبعضهم في بيوتهم وفى اجتماعاتهم العائلية ، حيث كان معظم المعتقلين من عائلة واحدة كبيرة.
ثم يعمّ الإضطهاد كل اهل القرآن ، يطاردونهم إذا صلوا الجمعة في بيوتهم ، ويخيفونهم إذا صلوا في المساجد ، وهى تحت تحكم أمن الدولة وعملائهم من المتطرفين الذين يهيجون العوام على أهل القرآن يتهمونهم بالكفر والخيانة والعمالة لأمريكا ،فأصبح دخول القرآنيين للمساجد محفوفا بالمخاطر ، ينطبق عليهم التعبير القرآنى : (أُوْلَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَن يَدْخُلُوهَا إِلاَّ خَائِفِينَ )..
ظل هذا سارياً وسائداً إلى أن هبت الثورة الشعبية المصرية المباركة يوم 25 يناير الماضى، فهوى مبارك من عليائه وسقط من تجبره ودخل في مرحلة الخزي،ثم ينتظره بعون الله جل وعلا عذاب عظيم :( أُوْلَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَن يَدْخُلُوهَا إِلاَّ خَائِفِينَ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ ).
3 ـ الخزي الذي عايشه بن علي قبل هربه يعايشه مبارك الآن قبيل نهايته المحتومة. الخزى هنا هو التناقض بين حالة شخص كان أقرب الى الاله لا يستطيع أقرب أتباعه أن يحملق فيه بل يغض الطرف أمامه فى خشوع وخنوع و انحناء وانكسار، ثم يأتى الوقت الذى يتحول فيه هذا الطاغية المتجبر الى فأر مذعور يستجدى الحماية من كلاب حراسته . مبارك الآن لا يستطيع أن يرفع عينيه خزياً في مواجهة اصدقائه ومعارفه من المستبدين العرب ومن السياسيين الغربيين في اوربا وأمريكا وحتى آسيا وأفريقيا .مبارك الآن لا يستطيع أن يرفع عينيه خزياً في مواجهة المصريين وهم يسبونه ويلعنونه ، مبارك الآن لا يستطيع أن يرفع عينيه خزياً في مواجهة خدمه من الجنرالات ، كان من قبل آمراً لهم فتحول إلى تابع مدين لهم بحياته ومصيره،إذ فقد شرعيته وينتظره حكم الإعدام،ولولا أطماعهم تفرض عدم انفضاضهم عنه لانتهى أمره إلى القتل .مبارك لا يستطيع أن يرفع عينيه خزياً أمام الرأي العام الدولي ، فقد شاهد ويشاهد العالم جرائم بوليس مبارك ضد أحرار المصريين منذ أن ثاروا عليه فى 25 يناير 2011 . وشاهد ويشاهد العالم فضائح مبارك تتوالى من أرصدته التي نهبها وهربها للخارج ومن الكشف عن بقية جرائمه وسرقات أعمدة حكمه ، بحيث يضطر نظام مبارك بنفسه إلى محاكمة بعضهم وتقديمهم كبش فداء لأنقاذ مبارك وجنرالاته. مبارك في خزيه قد يضطر إلى الهرب إلى الخارج ، حيث يعايش الخزي وهو يتعامل مع من أعطاه أماناً إذا وجد من يعطيه مأمناً ..
4 ـ العجيب في الأمر أن عناد مبارك هو الذي يطيل وقت خزيه وفضائحه امام أعين الناس ، فكل ساعة تمر تؤكد أنه مجرد حرامى و سارق وقاتل ومتآمر على المصريين وخائن لهم . سقط أمام أعين من كان يحترمه من قادة العالم وزعمائه فى العالم الحرّ. وعناده هو السبب فى إطالة محنته .يمتاز مبارك عن بقية المستبدين العرب بإنه يكره المصريين أكثر مما يكرهه المصريون ، وبإنه مستبد عنيد .. لذلك كان معروفاً انه إذا تمتع مسئول مصري بإعجاب الناس يبادر بعزله عن منصبه ، وإذا اشتكى الناس من مسئول ظالم وطالبوا بعزله فإن مبارك يعاند ويحيط ذلك المسئول برعايته، كل ذلك عنادا ، وله كلمة مأثورة حين طالب بعض أساتذة الجامعات ببعض حقوقهم ، فقال عنهم : (إذا كانت معهم دكتوراه فى العلم فعندى دكتوراه فى العند ) .. الآن مبارك لا يزال على عناده ،وهذا منتظر ، لإن الإنسان بعد الستين فاكثر لا يستطيع تغيير طباعه ، فما بالك إذا تجاوز الثمانين قضى منها ثلاثين عاماً يحترف الإستبداد والفساد والعناد .أصبح مبارك الآن أسير عناده ، وأصبح عناده هو سبيله للبقاء قبيل إجباره على الرحيل .. وأصبح عناده أحد أهم السبل في خزيه ..
الخاتمة : ـ
حكام آل سعود هم المرشحون للخزي القادم،لأنه ينطبق عليهم قوله جل وعلا " وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن مَّنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَن يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا أُوْلَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَن يَدْخُلُوهَا إِلاَّ خَائِفِينَ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ " البقرة 114 " واسألوا سجلهم المخزي في حقوق الإنسان وحرية العقيدة وحرية الدين ..