تعرضت كثيرٌمن الحقائق، التي كانت موجودة على أرض الواقع للنكران، على مدار التاريخ البشري. وكانت أسباب هذا النكران كثيرة، منها أسباب سياسية، ومنها اجتماعية، ومنها ثقافية، ومنها تاريخية، وجغرافية كذلك. وقد قرأنا – فيما قرأنا – في تاريخنا العربي والإسلامي، كيف أنكرت قريش دعوة الإسلام، رغم أن هذه الدعوة كانت حقيقة على أرض الواقع المكي والمديني. وحتى بعد "فتح مكة"، في 11/1/630م، كان ما زال هناك منكرون للدعوة الإسلامية، لأسباب تجارية، وقبلية، وسياسية،iexcl; واقتصادية. وسبق أن عرضنا بعضاً منها في كتابنا "المال والهلال"، وكذلك في كتابنا الآخر "لو لم يظهر الإسلام .. ما حال العرب الآن؟".
-2-
كذلك فقد قرأنا – فيما قرأنا – كيف أنكر الأمويون خلافة علي بن أبي طالب، التي دامت خمس سنوات (656-661م) وأنشأت عاصمة الخلافة الجديدة في الكوفة، وكانت حقيقة على أرض الواقع. وكيف حاربوه، وقتلوا أبناءه الشهداء. ثم جاء العباسيون، وأنكروا على الأمويين الخلافة، بعد حكم دام أكثر من ثمانين عاماً (662-750م). ثم أنكروا على صقر قريش (عبد الرحمن الداخل) (756-788م) الحكم الأموي في الأندلس.
والشواهد لإنكار حقائق قائمة وراسخة في الأرض لا تنتهي، وليست جديدة على القارئ المتبصر.
-3-
وما زلنا في العصر الحديث، نمارس النكران الساذج، لحقائق قائمة على أرض الواقع. وما زال في الغرب كذلك، من ينكر حقائق كثيرة، وقعت في التاريخ، كتلك التي وقعت في تاريخنا.
فالمنكرون في التاريخ أكثر من المعترفين.
والجاحدون للحق وللحقائق في التاريخ، رغم نور الحقيقة الذي يُعشي الأبصار، أكثر من الناعمين المعترفين بالنور والضياء.
-4-
في الآونة الأخيرة، خرجت أصوات من الكهوف السلفية والأصولية، تنكر وجود ليبرالية سعودية، وقبلها خرجت أصوات مماثلة في فترات مختلفة، وأماكن متعددة، في العالم العربي، تتساءل:
أين هو التيار الليبرالي؟
وهذه الأصوات ليست بالضرورة أن تكون سلفية وأصولية دينية. فالأصولية ليست قاصرة فقط على رجال الدين. فهناك أصوليون سياسيون، وهناك أصوليون اقتصاديون، وهناك أصوليون اجتماعيون، وهناك أصوليون شعريون أيضاً، ما زالوا يتمسكون بعامود الشعر الكلاسيكي، ويحرصون على القافية والموسيقا الخارجية للقصيدة، ويهاجمون معترضين على قصيدة النثر، والاتجاهات الحديثة في الشعر.
وهناك الأصوليون المثقفون، أو من يدّعون الثقافة، ويكتبون في إشكالاتها، وإشكاليات الحداثة كذلك، ولكنهم يتنازلون في كثير من الأحيان عن قناعاتهم لكي يرضوا الأصولية الدينية المتشددة نحوهم، ويليّنوا جانبها الفظ تجاهها. وهذا ما تمَّ في الفترة الأخيرة، حين انتشرت في مواقع الأصوليين على الانترنت الأفراح، وعلَت الزغاريد، وأُطلقت نار الابتهاج من البنادق، وذُبحت الخراف فداءً، ودُبجت المقالات التبجيلية والترحيبية بما قيل من ذم ونكران لليبرالية، من قبل حداثيي الماضي، الذين وجدوا أنفسهم "متخلفين" وراء الليبراليين الجُدد بمسافات كبيرة، ومعزولين، ومحصورين داخل جدران الأكاديمية التقليدية، فأرادوا (عزوة) الأصولية، وسندها، ومرجعيتها، لكي يشعروا بالأمن الاجتماعي، الذي هُددوا به تهديداً قوياً وقاسياً في الثمانينات والتسعينات من القرن الماضي.
وهذا أمر معروف في السياسة والسياسيين، ولكنه مستهجن في الثقافة والمثقفين.
فسقراط دفع ثمن قناعاته حياته، ورفض الرضوخ لأفكار الأصوليين في أثينا. وكذلك فعل كثيرٌ من المثقفين والفلاسفة في التاريخ العربي والغربي.
ولن ننسى في تاريخنا ابن المقفع، والمعري، والرازي، والجاحظ، وغيلان الدمشقي، ومفكري المعتزلة، والسهروردي، ومن ذكرهم ودرسهم دومينيك أورفوا في كتابه (المفكرون الأحرار في الإسلام الكلاسيكي). وكذلك طه حسين، وعلي عبد الرازق، وفرج فودة، وحسين مروة، ومهدي عامل، ومحمود طه، ومصطفى وهبي التل، وغالب هلسا، وأحمد البغدادي، وسعيد السريحي، ومحمد العلي، ونصر حامد أبو زيد، ونجيب محفوظ، ومحمد الشرفي، وعبد الرزاق عيد، وغيرهم، في العصر الحديث.
-5-
لا نحتاج إلى كثير من البحث والتفكير في أهداف مثل هذه الأصوات، التي تنطلق بين حين وآخر، منكرةً وجود تيار ليبرالي في العالم العربي، وفي السعودية بالذات.
فهذا يعني – بكل بساطة - أننا ننكر، أن الشمس تشرق صباح كل يوم على الرياض، كحقيقة كونية.
وننكر، أن جدة تقع على ساحل البحر الأحمر.
وننكر، أن الإسلام أشرق من مكة المكرمة.
وننكر، أن في السعودية أكبر مخزون عالمي من البترول.
وننكر، هذا الكم الكبير من المقالات والأفكار الليبرالية التي تنشرها الصحافة السعودية صباح كل يوم، وتنال من الأصولية الدينية التسفيه، والإنكار، والاحتقار.
-6-
كان بودنا، أن لا يتم إنكار حقيقة واقعة على الأرض، بقدر ما كان يهمنا مناقشة هذه الحقيقة الواقعة تاريخياً، واجتماعياً، وثقافياً. فقد جرت الأصولية الدينية على مثل هذا الإنكار، ومثل هذا التسفيه لليبرالية، خوفاً وخشية منها، والشعور بالعزلة نتيجة لها. والشعور بالعزلة، جزء كبير من سبب الهجوم على الليبرالية، وإنكار وجودها، وجحود حقيقتها على أرض الواقع. وما سبب العزلة هذه، غير المعزولين أنفسهم. فهم الذين عزلوا أنفسهم بأنفسهم، داخل الأكاديميات، والإطارات الفكرية المحددة، والمتصلبة، دون النظر إلى ما يجري على أرض الواقع من تغيرات وتطورات متسارعة، في عصر فرضت معطياته الثورية المعلوماتية والاتصالية والعولميّة، هذه التغيرات والتطورات. ولم يعد أحدٌ قادراً على العيش في ظلام الكهوف. فنور الشمس الساطع لهذا العصر، كفيل بتبديد كل ظلام نهاري.
-7-
لا نود في هذا المقال، أن نعرض دفاعنا عن حقيقة وجود الليبرالية السعودية، لكي لا نكرر أنفسنا ومقولاتنا، ولكننا نلفت النظر- مرة أخرى- إلى إن كتبنا "العرب بين الليبرالية والأصولية الدينية"، و "الليبرالية السعودية بين الوهم والحقيقة"، و "الحداثة والليبرالية.. معاً على الطريق – السعودية أنموذجاً" الصادرة حديثاً في الشهرين الماضيين" عن "المؤسسة العربية للدراسات والنشر"، في بيروت وعمّان، قد شرحتُ بالتفصيل، وقدمتُ الدليل تلو الدليل، على أن الليبرالية السعودية، لم تعد خيالاً في رؤوس المتخيلين، ولا سراباً يركض خلفه العطشى في الصحراء، وإنما أصبحت حقيقة على أرض الواقع، شأنها شأن أي مظهر كوني وفضائي آخر.