إن الجهاز الأمنى كان ولا يزال هو الذراع الطولى والأكثر بطشاً لأى نظام مُستبد فى أى مجتمع، قديماً وحديثاًًًًً. وليست الحالة المصرية المُعاصرة استثناءً من هذه القاعدة، فى أواخر القرن العشرين ومطلع القرن الحادى والعشرين. وجاءت الانتخابات البرلمانية المصرية الأخيرة (٢٨ نوفمبر، ٥ ديسمبر ٢٠١٠) نموذجاً صارخاً على تطور غير مسبوق فى دور هذا الجهاز.
فبدلاً من أن يكوute;كون هذا الجهاز أداة ضبط وقهر وترويع لصالح الفرعون وأسرته، وحاشيته، وكهنته، كما جرت العادة إلى أواخر القرن العشرين، أصبح أقطاب هذا الجهاز، من لواءات الأمن يستعدون ويقفزون من مواقعهم المؤثرة فى السُلطة التنفيذية، إلى مواقع موازية، وأكثر دواماً وتأثيراً فى السُلطة التشريعية، مُمثلة بمجلسى الشعب والشورى. ولا أدل على ذلك من فوز أربعين لواء سابقاً من لواءات الشرطة بمقاعد عن الحزب الوطنى الحاكم فى الانتخابات البرلمانية الأخيرة. ويمثل هذا العدد عُشر (١/١٠) أعضاء مجلس الشعب. وهذه ظاهرة غير مسبوقة فى تاريخ البرلمانات المصرية، منذ أولها فى أواخر القرن التاسع عشر (١٨٦٦) إلى آخرها فى مطلع القرن الحادى والعشرين وبذلك نكون أصبحنا بصدد دولة «أمنية»، أو دولة «بوليسية» بامتياز.
فحتى حينما كتب عالم الاجتماع المصرى القدير، د. أنور عبدالملك، كتابه الأشهر «مصر مجتمع يحكمه العسكريون»، كان الرجل يُشير إلى عدة مواقع فى قمة السُلطة التنفيذية حول الرئيس الراحل جمال عبدالناصر. فلم يكن العسكريون قد تغلغلوا بعد فى مواقع السُلطة التشريعية. والجدير بالذكر، أن هذا العدد هو أربعة أمثال ما كان عليه منذ عشر سنوات، أى أنه يتضاعف مع كل دورة برلمانية. فإذا استمرت الأمور على هذا المنوال، فلنا أن نتوقع أن يكون عدد لواءات أو (عُمداء) الشرطة فى المجلس المقبل (٢٠١٥) ثمانين عضواً.
ولأن جهاز الشرطة الأمنى هو جهاز شبه عسكرى، فهو يتصف «بالانضباط والمُحافظة». و«السيطرة» هى القيمة الأساسية فى تنشئة ضباط الشرطة، أى أننا لا نتوقع من هذه الكتلة البرلمانية الأمنية أن تكون «قوة تغيير» أو «إبداع» لا فى الحياة البرلمانية خصوصاً، ولا فى الحياة السياسية عموماً.
فبدعوى أو حجة «الاستقرار»، يتم الحجر على مُبادرات التغيير والإبداع. وهذه هى سمة النظام السياسى عموماً فى عهد الرئيس مُبارك. فرئيس مجلس الشعب هو هو منذ عقدين، ووزير الداخلية مستمر فى موقعه كأطول وزير داخلية فى تاريخ مصر الحديث «نوفمبر ١٩٩٧/٢٠١٠» وتكتمل ملامح الجمود هذه فى أن نفس الوجوه العشرة تقريباً التى من حق رئيس الجمهورية أن يُعيّنهم فى مجلس الشعب، ظلوا هم هم باستثناء اثنين منهم أو ثلاثة.
ولأن مُعدلات التغيير فى دماء القيادات السياسية بطيئة أو معدومة للغاية، فكذلك مستوى كفاءة هذه القيادات. وقد أصبح النظام السياسى المصرى أقرب فى جوهره، إلى جانب مظهره، إلى النظام السوفيتى.
وحينما سقط هذا الأخير، فى العقد الأخير من القرن الماضى، بادرت مراكز الأبحاث السياسية الغربية عموماً والأمريكية خصوصاً، بتحليل عوامل وأسباب هذا الانهيار. واستخدمت فى هذا التحليل الشهادات الواقعية للقيادات الأمنية فى بُلدان الكتلة الشرقية، وفى مقدمتها جهاز الكى جى بى (K.G.B). وجاء ضمن شهادة أحد هذه القيادات الأمنية، أنه لإبقاء سيطرة الأجهزة الأمنية على النظام السياسى فى بُلدانها، كان يتم إعداد التقارير الأمنية المطلوبة لتعيين أى وزير أو مسؤول فى موقع مهم أو حساس.
وطبقاً لشهادات هؤلاء المسؤولين الأمنيين السابقين، كانوا يعتمدون أن يكون لدى المُرشح إما ملفاً بالفساد المالى أو الإدارى، أو ملفاً مُلفقاً بشبهة أو تهمة التخابر مع جهة أمنية أجنبية. ويتم الاحتفاظ بهذه الملفات تحت الطلب، للتهديد والابتزاز.
ولأن جيلاً من العاملين بالأجهزة الأمنية المصرية تدرّب فى الخمسينيات والستينيات على يد مثيلاتها فى الاتحاد السوفيتى والبُلدان التى كانت تدور فى فلكه، فيمكن أن يكونوا قد نقلوا عنها نفس العقلية، ونفس المُمارسات، وبمرور السنين عششت وتجذرت هذه المُمارسات فى الأجهزة الأمنية المصرية. وتظل هذه العقلية وتلك المُمارسات تصبغ أصحابها إلى يوم الدين!
ولذلك أرجو من بعض الباحثين فى العلوم الاجتماعية والسياسية أن يرصدوا حركة وسلوكيات هؤلاء الأربعين لواء من البرلمانيين خلال الدورة المقبلة لمجلس الشعب بما فى ذلك اللجان التى يختارون عضويتها، ومشاريع القوانين التى يتقدمون بها، أو يُشاركون فى عرضها، ونمط تصويتهم فى مجلس الشعب، ومُمارساتهم فى دوائرهم، وسلوكياتهم فى الحياة العامة.
طبعاً، لا تعنى هذه المُلاحظات حول تغلغل رجال الأمن السابقين فى مؤسسات الدولة موقفاً عدائياً مُسبقاً، فمنهم من تعاملت معهم ووجدتهم على خُلق عظيم، وثقافة رفيعة مثل اللواء إبراهيم الفحام، واللواء محمد خضير، واللواء عاصم عبدالمجيد، واللواء حسام إبراهيم. كما كان بعضهم غاية فى التمدن واحترام حقوق الإنسان، ممن صادفتهم فى أثناء الفترات التى قضيتها فى المحابس والسجون.
فأرجو أن تكون شكوكى فى الكتلة البرلمانية للواءات الشرطة فى غير محلها، وأن يكون تكتلهم لا لزيادة السيطرة والسطوة، ولكن لتحسين الخدمات الأمنية، وتغيير الصورة السلبية لجهاز الأمن، وأن يجعلوا الشرطة حقيقة فى خدمة الشعب. بل إن لم يحققوا خلال الدورة البرلمانية إلا ترجمة هذا الشعار إلى حقيقة، فإنهم سيدخلون قلوب الناس، وبالتالى سيدخلون الجنة.
وعلى الله قصد السبيل