امتلأت الأدبيات الدينية منذ أواخر القرن الحادي عشر الميلادي، وبدء الحملات الصليبية على المشرق (تسع حملات)(1096-1291م) بالعداء المطلق للغرب والتكفير لهذا الغرب، الذي رُمي بالكفر والمعصية، وإنكار الأديان، وعدائه لها. وقد تابعت هذه الأدبيات موقفها من الغرب عامة، بعد انتهاء الحملات الصليبية. ومنذ أن قامت الإمبراطورية العثمانية وبدأت الاستيلاء على العالم الإسلامي 1517م بقيادة السلطان سليم الأول، الذي هزم المماليك ف& في "مرج دابق" وقتل سلطانهم (قانصوه الغوري)، ودخل حلب، مبتدءاً زحفه نحو بلاد الشام ومصر والعراق، بدأت موجة جديدة من العداء للغرب، وذلك بإقامة ستار حديدي أشبه بالستار الحديدي الذي أقامه الاتحاد السوفيتي المنهار حول نفسه، لعزله عن الغرب الرأسمالي. فأقام العثمانيون ستاراً حديدياً حول العالم الإسلامي لعزله عن الغرب "الكافر" عزلاً تاماً، إلى درجة أن أحداً في العالم الإسلامي، لم يسمع بقيام الثورة الفرنسية 1789، وامتنع السلاطين العثمانيون عن زيارة الغرب، أو تبادل التمثيل الدبلوماسي معه. وكان أول سلطان عثماني زار الغرب، هو السلطان عبد العزيز الأول(1830-1876م) الذي قام بزيارة فرنسا، وحضر معرضاً صناعياً وتجارياً فيها، بدعوة من نابليون الثالث. ولكن، ما أن عاد السلطان إلى الآستانة، حتى قامت الانكشارية بعزله، ثم قتله فيما بعد، عام 1876م.
-2-
وظل العداء بين العالم الإسلامي وبين الغرب، قائماً منذ ذلك الحين، وحتى عصرنا هذا. ولكن الملاحظ، أن هذا العداء كان سياسياً منذ البدء وحتى الآن، قبل أن يكون دينياً، أو أخلاقياً. ولو قرأنا التاريخ جيداً، ودققنا في حقائقه، لوجدنا أن الغرب لم يكن كله منكراً للدين – ما عدا فرنسا - ولا للوحدانية الإلهية، كإنكار أوروبا الشرقية لها، وخاصة روسيا عندما كانت ضمن ما كان يُعرف بالمنظومة السوفيتية، وقبل أن تسترد الكنيسة الأرثوذكسية سلطتها الدينية، بعد سقوط الاتحاد السوفيتي 1989 .
-3-
الباحثة الأمريكية غيرترود هيملفارب Himmelfarb أستاذة التاريخ الفخرية، في كلية الدراسات العليا في جامعة نيويورك، وزميل الأكاديمية البريطانية والجمعية الفلسفية الأمريكية، ومؤلفة كتاب "التفسير الأخلاقي للمجتمع"، و "الفقر والشفقة"، و "التاريخ القديم والجديد"، و "عن الحرية والليبرالية"، ثم هذا الكتاب الذي نقدم فصلاً من فصوله اليوم، وهو "الطرق إلى الحداثة"، الذي يبحث في تاريخ التنوير البريطاني، والفرنسي، والأمريكي. وهي الطرق الثلاثة التي قادت إلى الحداثة في الغرب. وربما واجه الغرب العداء من جرائها، من قبل العالم الآخر، كالعالم العربي، والعالم الإسلامي، والاتحاد السوفيتي السابق، والدول التي ما زالت تدين بالنظام الشيوعي حتى الآن، ككوبا، وكوريا الشمالية. وكذلك اليسار الصيني والفنزويلي.. الخ. وهذه – بما فيها العالم العربي والإسلامي – لا تعادي الغرب - وخاصة أمريكا - للاختلاف مع ديانته، ولكنها تعاديه لاختلافها مع سياسته الخارجية، وخوفها من الهيمنة العسكرية والاقتصادية (العولمة) والصناعية والعلمية والمعلوماتية الأمريكية خاصةً. وعندما اختلط الدين بالسياسة عند العرب اختلاطاً قوياً، في أواخر القرن العشرين، واختلطت السياسة بالدين، وظهرت الجماعات والأحزاب السياسية/الدينية بشكل واضح وبارز على الساحة السياسية العربية، باغتيال الرئيس السادات 1981، ثم ظهرت على الساحة الدولية وبانتشار كبير على إثر كارثة تفجيرات نيويورك 2001، وغزو أفغانستان، ثم العراق 2003.
-4-
الباحثة هيملفارب تؤكد في كتابها، بأن أمريكا - مثلاً - غير مكروهة من قبل العالم الآخر، لدينها وأخلاقها، بقدر ما هي مكروهة لقوتها، وثرائها، وسطوتها العسكرية، وعلمها، وشهرة جامعاتها ومعاهدها.
فأمريكا تأسست في البداية على أسس دينية توحيدية. فصحيح أن الحرية – كما تقول الباحثة – كانت قوة التنوير الأمريكي الدافعة، ولكن هذه الحرية بُنيت على أسس دينية أيضاً. وكما قال بنيامين رش Rush (رائد حركة الإصلاح في أمريكا) فإن "الحرية من دون فضيلة، لن تكون نعمة بالنسبة إلينا." كما يرى بنيامين رش "أن التربية وليست الحكومة، هي الأداة الملائمة لانتشار الفضيلة. وهي تربية تمتد بجذورها في الدين. وأن الأساس الوحيد لتربية مفيدة ونافعة يجب أن يُدَّخر في الدين. فمن دون الدين لا يمكن أن تكون هناك فضيلة. ومن دون فضيلة لا يمكن أن تكون هناك حرية." فالآباء المؤسسون لأمريكا، لم ينظروا إلى ما يمكن أن يحققوه من أجل زمانهم وجيلهم. ولكنهم نظروا إلى مستقبل لا حدود له، وإلى عدد لا يُحصى من الأجيال المستقبلية. مما يعني أن إقامة الوحدة الأمريكية تمت بعد تفكير عميق، وطويل، وبنَّاء، استطاع – كما أثبت الزمن حتى الآن – أن يقاوم كل التقلبات السياسية الدولية الداخلية منها، والخارجية.
-5-
يعتبر بنيامين فرانكلين (1706-1790) من أهم وأبرز مؤسسي الولايات المتحدة الأمريكية. وكان عالماً، ومخترعاً، ورجل دولة، ودبلوماسياً كذلك. ولكن الأهم من ذلك، أنه كان من جيل المؤسسين، الذين أسسوا أمريكا على أُسس الدين والتقوى. فهو المؤسس الذي أراد أن يُذكر الله (عز وجل) في الدستور الأمريكي. وهو الذي اقترح أن تبدأ أعمال الكونجرس في كل مرة بصلاة سابقة، رغم أنه كان أقل المؤسسين تديناً. وهذا نموذج واضح للأساس الديني الذي بُنيت عليه هذه الإمبراطورية القوية الآن.
-6-
ويقول الفيلسوف السياسي الفرنسي ألكسي دو توكفيلTocqueville (1805- 1859) صاحب الكتاب الشهير (الديمقراطية الأمريكية 1835-1840) عن ظاهرة الدين والتدين الأمريكي، قياساً على موجات الإلحاد المتتابعة في فرنسا، والتي قامت العَلْمانية الفرنسية على أساسها، على عكس العَلْمانية الأمريكية التي تفصل الدين عن الدولة، ولكنها لا تفصل الدين عن المجتمع. وقال توكفيل "إن فلاسفة فرنسا، اعتقدوا أن الحماسة الدينية ستخمد، عندما تزيد الحرية، ويزداد التنوير." وشرح توكفيل هذه المسألة بصرامة أكثر في خطابه إلى صديقه كيرغورلاي حيث يقول كما جاء في كتابه (الديمقراطية الأمريكية) من أن "الحرية السياسية بوصفها مبدأ عاماً تزيد الشعور الديني بدلاً من أن تجعله يتضاءل وينقص."(ص282).
وكان ذهول توكفيل كبيراً عند وصوله إلى أمريكا وعندما أيقن طبيعة أمريكا الدينية، حيث يقول في كتابه المذكور: "لقد رأيت في فرنسا روح الدين وروح الحرية، تتحركان باستمرار باتجاهين متعارضين في أغلب الأحيان. أما في أمريكا فقد وجدت هاتين الروحين متحدتين كل منهما مع الأخرى بقوة. ففي البلد الذي يكون فيه الدين مؤثراً، وذا نفوذ كبير، يكون ذاك هو البلد المستنير، والأكثر حرية." (278).
وتقول الباحثة هيمل فارب في كتابها "إن أمريكا شهدت ثورتين: الأولى روحية، جعلت من أمريكا مجتمعاً ديني النزعة. والثورة الثانية سياسية، جعلت من أمريكا مجتمعاً ديمقراطياً."
ومن يرى أمريكا من الداخل، ويراقب مصبَّات التبرعات السنوية، التي يقوم بها القطاع الأهلي، يرى أن أكثر من 14% من هذه التبرعات (وهي أعلى نسبة) تذهب إلى المؤسسات الدينية. مما أمكن أمريكا من أن تكون نموذجاً للتدين، والتنوير، والحرية، دون أن يطغي أي عنصر من هذه العناصر على الآخر. وهو ما لم تستطع بريطانيا، أو فرنسا، أو أية دولة أوروبية أخرى، أن تحققه بامتياز.