العلمانية بين الاسلام والأديان الأرضية

آحمد صبحي منصور في السبت ١١ - ديسمبر - ٢٠١٠ ١٢:٠٠ صباحاً

أوّلا :

1 ـ تخرج فى كلية الطب فى القاهرة فى عام النكسة 1967 ، ومات أبوه فى نفس العام ، وفى الشعور باليأس العام قرر الهجرة لأمريكا تاركا بيتهم الفخم فى القرية و قطعة أرض زراعية ضخمة فى حوزة أبناء عمه، إذ كان وحيد أبويه و فقد الأم والأب فلم يعد لديه ما يبكى عليه .

 

2 ـ فى أمريكا وجد مجال المنافسة مفتوحا فاقتحمه وتفوق ، وأصبح جراحا ماهرا ، وكوّن ثروة ضخمة  ، وانشغل بها مؤقتا عن مصر وقريته وعائلته وأسرته . ثم استيقظ عندما وصل سن المعاش فأصبح لديه فراغ من الوقت است&UEcirc;عاد به الماضى ، فعاوده الحنين الى مصر وقريته وأسرته ، وفكّر فى العودة ليمضى ما تبقى من عمر هناك ، واستشار بعض أصدقائه المصريين المغتربين الذى لم ينقطعوا ـ مثله ـ عن زيارة مصر ، فنصحوه جميعا ألا يفكر فى العودة والاستقرار فى مصر لأن مصر لم تعد مصر ولأن الناس هناك تغيرت أخلاقهم ، وعاشوا يعذبون أنفسهم بأنفسهم ،فإن تكاسلوا عن ذلك قام النظام البوليسى بالمهمة بكل إقتدار . ولكن حنينه صحا داخله بقوة فعادوا ينصحونه ، ثم إقتنع فى النهاية أن يقوم برحلة استكشافية ، ثم يقرر بعدها هل يستقر أو لا يستمر .

3 ـ فى الطائرة الى مصر ظل يحلم بما سيفعله لقريته وأهله وأسرته . قرر أن يبدأ ببناء نادى للشباب ومدرسة للبنات ، ثم بعدها يلبى مطالب اهل البلد .

4 ـ فى بلده أصيب بصدمة قاسية ،إتضح له فيها أن قريته القديمة التى ظلت عالقة بذهنه قد انتهت ، وأنه يرى على أطلالها شيئا مختلفا لا هو بالقرية ولا بالمدينة ، الشوارع القديمة ضاقت مساحتها فقد أقيمت على الجانبين بيوت حجرية بأدوار عليا أكلت من مساحة الشارع ، والترعة الصافية تشبعت بمياه المجارى ، ومشروع توصيل المياه النقية للريف الذى أدخله عبد الناصر أصبح يدخل للبيوت مياه المجارى مع مياه النيل ، والمدرسة الابتدائية توسعت وتطورت وأصبحت تضم الاعدادى والثانوى ولكن بدون حوش او ملاعب او حجرات للدراسة تكفى التلاميذ .

أهله ـ أهل القرية ـ وفى مقدمتهم أبناء عمومته لم يعد من بقى منهم على قيد الحياة على نفس الشاكلة الأولى التى كانوا عليها فى الستينيات ؛ زالت القناعة والعفة وحلّ محلها الطمع والجشع والأنانية والبخل .

حين رأوه التفوا حوله يتقربون اليه بأن يطعن بعضهم فى بعض حتى ينالوا رضاه وعطاياه ، وبسرعة عرف فضائح هذا وذاك ، فبعد تمحيص ما يسمع يتأكد أن معظم الاتهامات صحيحة ، وأنها تطول الجميع لا فرق بين أقاربه وأهله وبين أصدقاء الطفولة والشباب . كلهم يتماثلون فى سوء الأخلاق ، وكلهم يخفى سوء الخلق بمظاهر التدين والتنافس بأن يكون أكثر تدينا فى مظهره ومنطقه وملبسه ، أى بطول اللحية للرجال والخمار و النقاب للنساء .

وكان أكثرهم سوءا هم أقرب الناس اليه من بنى عمومته الذين استولوا على بيته الفخم ، وقسموه فيما بينهم بعد نهب محتوياته ومنها أشياء تذكارية فى البيت كان هو يعتزّ بالحفاظ عليه من ىثار أبيه وأمه ، ثم التفتوا الى أرضه الزراعية فقسموها بينهم ، وفق عقود ملكية مزورة . كان ذلك أول الأنباء سوءا ـ وتوالت بعدها الأنباء السيئة وهو مضطر لأن يبيت فى حجرة قذرة من بيته الذى كان فخما من قبل ، ويعايش شبابا من اهله قد تعلموا تعليما فاسدا ، لذا يرونه محتاجا للتقويم والهداية بعد أن أفسدته أمريكا .!!

ومع أن أبناء عمومته إعتذروا له عن استيلائهم على أمواله وأملاكه ، ومع أنه تقبل اعتذارهم بقبول حسن مؤكدا لهم تنازله لهم عن كل شىء ، فقد قرر ـ بينه وبين نفسه ـ  العودة لأمريكا مكتفيا بما جرى . و مع ذلك فإن الجيل التالى من أبناء عمومته ـ  من ذلك الشباب الجديد المتجهم الذين ولدوا فى غيابه وغربته ـ  قد حرص على أن يجعله يفهم بكل وضوح أنه لا حق له أصلا فى تلك الممتلكات لأنه أمريكى غريب ينتمى الى المعسكر الآخر فلا يستحق شيئا من املاك المسلمين ، وبالتالى فلا يستحق الشكر والعرفان.

5 ـ ومع أنه قرر أن تكون زيارته الأخيرة ، وأن يعود الى وطنه الحقيقى ؛ أمريكا ، إلا إنه صمم على أن يفعل شيئا مفيدا لقريته قبل ان يتركها نهائيا . قرر أن ينفذ رغبته ويقيم ناديا للشباب لعل وعسى يصلح حالهم . وكانت القاصمة .

6 ـ زاره إمام المسجد عاتبا بل ثائرا .  إنطلق شيخ المسجد فى خطبة طويلة يذم فيها الانحلال وأصحاب الانحلال ، وكيف أن النادى المزمع إنشاؤه سينشر الفسق والفجور فى القرية ، وأن الأولى له أن يتبرع لبيت الله ، مسجد القرية فهو الثواب الدائم ، وختم خطبته العصماء بالحديث القائل : من بنى لله مسجدا ولو كمفحص قطاة بنى الله له قصرا فى الجنة .

كان صاحبنا يسمع للشيخ فى هدوء مبتسما وهو يرى الحاضرين يهزون رءوسهم موافقين ، وهم الذين  سمع منهم من أيام فضائح ذلك الشيخ ، وكيف يلتهم التبرعات التى تأتى للمسجد ، ومنها بنى بيتا بثلاثة طوابق واشترى أطيانا زراعية وشقة فى المدينة المجاورة ، وشارك فى مزرعة دواجن . وتذكر صباه وشبابه حين كان ذلك الشيخ شابا واعظا وإماما فى المسجد يعيش فى غرفة بالايجار يدفع ايجارها والد بطل القصة ، وتذكر كيف كان مسجد القرية وقتها متواضعا بسيطا قليل الروّاد من المصلّين ، وقد اختلف الحال اليوم بالمسجد إذ تكاثر روّاده وأعيد بناؤه وارتفع الى ثلاثة طوابق ، وقد تخصص الدور الأول للصلاة بينما يستغل الشيخ الدورين العلويين لحسابه؛ عيادة شعبية وحجرات للدروس الخصوصية.  وتأكّد  لصاحبنا أن الشيخ  قد وصل الى مرحلة من الطمع والشّرة بحيث يريد ابتلاع المزيد من السحت والمال الحرام مستخدما اسم الله وبيت الله .!.

7 ـ سكت الشيخ وقد انتهى من خطبته وانتظر الحاضرون الرد من الدكتور الجراح ، وابتسم الشيخ يمنّى نفسه بدولارات آتية لا محالة مكافأة على فصاحته . ظل الدكتور محتفظا بابتسامته الودودة وهو يسأل الشيخ : إننى أتذكر يوم كنت أصلى خلفك يا فضيلة الشيخ منذ أكثر من ثلاثين عاما ، وهنيئا لك أنك تعظ الناس طيلة هذه المدة ، ولا ريب أنك قاسيت الكثير فى الدعوة ، فهل أنت راض عن أخلاق الناس فى البلد بعد كل هذا التعب فى إصلاح أخلاقهم ؟

رأى الشيخ فى السؤال فرصة كبرى ليزكى نفسه ويلعن الزمن الأغبر ليزيد من عدد الدولارات ، فانطلق يلعن أخلاق الناس التى ساءت ، ويترحم على الجيل الماضى ؛ جيل الشهامة والكرم والقيم ، جيل والد الدكتور الذى كان كريما عفيف اليد واللسان ، أما الآن فقد انتشر الطمع ،وأصبحت قيمة الانسان بقدر ما يملك من مال مهما بلغ به سوء الخلق ، وانتقل المرض الى الشباب فاستعصى الأمر على العلاج .

8 ـ وبكل هدوء سأل الدكتور الشيخ : فضيلتك تخطب وتعظ  فى هذا المسجد من ثلاثين عاما ، وكانت النتيجة أن إزداد الحال سوءا وانتشر الفساد وفسدت الأخلاق فى الوقت الذى إزدهر فيه المسجد فى العمران وفى عدد الرواد . وهذا يعنى أن المسجد ووعظك فيه هما السبب فى الفساد ،أو على الأقل لم يفلح المسجد فى الاصلاح ، فكيف تريدنى أن أتبرع لمشروع ثبت فشله بعد أن أخذ فرصة تزيد على ثلاثين عاما ؟ ألا ترى أن من الأفضل ومن العدل أن نجرب طريقة أخرى للاصلاح هى النادى الرياضى الاجتماعى بمكتبة وملعب وقاعة للمحاضرات ومسرح للتمثيل فربما تنجح فى الرقى بالشباب أفضل من المسجد الذى فشل فى الاصلاح بل أفسد الناس ؟

خيّم هدوء ثقيل على الجميع لفترة ، إنتقلت بعدها العيون للشيخ تنتظر منه الرد ..

إبتلع الشيخ ريقه وتلون وجهه من اصفرار الى إحمرار ، ثم هبّ واقفا يلعن دعاة الانحلال القادمين من أمريكا ويتهمهم بالكفر والخروج عن الملة وانهم من الذين يحبون ان تشيع الفاحشة فى الذين آمنوا ، وأفتى ـ وقدماه تبحثان فى عجلة عن الحذاء ـ  بأن الدكتور علمانى ملحد ومأواه جهنم وبئس المصير ..

أخيرا :

هذه قصة من الخيال ، ولكنه الخيال المستمد من حقائق الواقع المعاش ، بحيث يتكرر حدوثها أو حدوث بعض جوانبها كل يوم فى مصرنا المعاصرة للجيل الذى يعيش فى نفس الفترة ( 1967 : 2010 ).

هذه القصة الخيالية الواقعية مقصود منها تحليل مبسط  لموقع العلمانية (ألمؤمنة ) بين الاسلام والأديان الأرضية . فهذا الدكتور العلمانى يعبر عن جوهر الاسلام فى التعامل مع الناس ، وهذا الشيخ ومجتمع قريته وجيلها الجديد الملتحى المتنقب يعبرون عن حقيقة الأديان الأرضية حين تتحكم فى  الناس  .

وهذا يستلزم توضيحا .

1 ـ  فى عصر عبد الناصر وقبله سادت ـ فى الأغلب ـ العلمانية المؤمنة ، فكان التدين اختيارا فرديا لا دخل للسلطة به ، فظلت العلاقة بين الفرد المؤمن وربه إختيارا فرديا ، لا دخل ـ فى الأغلب ـ للمجتمع به ، ولا يحاول الفرد المؤمن ـ فى اغلب الأحوال ـ أن يستثمر تدينه فى الحصول على جاه دنيوى . وحتى مع وجود مؤسسة دينية تعليمية ووعظية هى ( الأزهر ) فقد كانت تحافظ على جوهر وجودها كمؤسسة مدنية غير كهنوتية يعمل أربابها موظفين لدى الدولة . وبرغم ذيوع نفوذ التصوف وشهرة أوليائه الأحياء والموتى وشهرة الموالد الصوفية إلا إن جهدهم كان مجرد عادات دينية اجتماعية متوارثة لا تتدخل فى السياسة ، ولا تحاول السيطرة على المجتمع وكبت الرأى المخالف ، بل كان نقد الصوفية مباحا ، وزاد فيه قيام التصوف على الليبرالية والتعدد والانقسام والتنوع و ( الطرق الصوفية ) و ( كل شيخ وله طريقة ).

اختلف الوضع منذ انقلاب السادات وتحالفه مع الوهابية السعودية والاخوان المسلمين ، وفتحه الأبواب للنفوذ السلفى فى التعليم والاعلام والأزهر والمساجد على حساب المعالم الأساس للدولة المدنية المصرية وليبراليتها المتوارثة منذ عصر محمد على ، والتى حافظ على ملامحها عبد الناصر بنظامه العسكرى ، ولكن السادات ( الرئيس المؤمن ـ خليفة عمر بن الخطاب حسبما قال ) أدخل مصر فى نفق التدين السلفى ، ولم تخرج منه حتى الآن . بل وصلت فيه الى الدرك الأسفل .

 

2 ـ وفى هذا الدرك الأسفل تميزت بوضوح معالم الدين الأرضى حين يتحكم ويسود هابطا بالمجتمع الى الدرك الأسفل من الأخلاق والتحضر.

وهو موضوع شرحه يطول ، ولكن نكتفى فيه برصد الآتى :

2 / 1 : كل المباحات تتآكل لصالح التشريع السّنى الوهابى القائم على الحظر والمنع خلافا للتشريع الاسلامى القرآنى ، وكل تفصيلة من تفصيلات الحياة الدنيا ـ إجتماعيا وعلميا وإقتصاديا وسياسيا ـ أصبحت محتاجة لفتوى  ، وأصبحت المرجعية ليس لأهل الاختصاص الحقيقيين فى مجالاتهم المتفرغين لها ولكن أصبحت المرجعية لرجال ( الدين ) .

وليس مهما عجزهم عن الاجتهاد الدينى بما ينفع الناس ، وليس مهما أختلافهم المستمر فى كل رأى وكل فتوى ، وليس مهما تخلفهم العقلى واعتمادهم على خرافات الدين السّنى وأحاديثه وفتاويه المضحكة مثل رضاعة الكبير والتبرك ببول النبى والتداوى ببول الابل و حديث الذبابة ، وليس مهما عجزهم عن مواكبة العصر ـ عصر ثورة المعلومات والاتصالات ـ ورجوعهم الى تراث التخلف فى العصور الوسطى ، وليس مهما عجزهم عن الدفاع بالحجة والبرهان عن تراثهم ودينهم الأرضى ، وليس مهما نجاحهم فى نشر ثقافة التطرف والارهاب الدموى والتزمت العقلى ، وليس مهما فضائحهم الخلقية وفسادهم ..كل ذلك ليس مهما بل قد يكون ضروريا لأن المهم هو خدمتهم للمستبد العسكرى ـ كما فى مصر ـ  أو المستبد القبلى ـ نسبة للقبيلة ـ كما فى المملكة السعودية.

2 / 2 أصبح المهم أيضا شغل الناس بالتفاهات وتحويل الشكليات المظهرية الى جوهر أساس لدينهم الأرضى ، فالقضايا الكبرى ليس منها قتل المسلمين بمئات الألوف بأيديهم وأيدى غيرهم فى الصومال والعراق وأفغانستان وفلسطين .. وليس الفساد والاستبداد والتعذيب وقهر الأغلبية الساحقة وتجويعها لصالح أقلية ضئيلة من المترفين ، ولكن القضية الكبرى هى الحجاب والنقاب طبقا لطبيعة الدين الأرضى القائم على التدين السطحى و الاحتراف الدينى .

 

3 ـ وخلافا للاسلام ورسالاته السماوية التى نزلت جميعا ليقوم الناس بالقسط والعدل فإن الأديان الأرضية تؤسس الظلم وتدافع عنه .

وخلافا للاسلام الذى يجعل العبادات كلها وسيلة للتقوى فإن الدين الأرضى يقوم على الشكل والمظهر فهناك زى دينى ولحية و حجاب ونقاب و زبيبة صلاة فى الجبهة يتم صنعها رياءا ونفاقا مع انتشار الفساد فى الأخلاق والمعاملات على حساب التقوى الاسلامية التىى تعنى إخلاص العقيدة والعبادة لله جل وعلا وحده والسمو الخلقى فى التعامل مع الناس.

وخلافا للاسلام القائم على أخلاص الدين لله جل وعلا وحده وبدون مراعاة لرأى الناس أو ابتغاء مرضاتهم بل ابتغاء مرضاة الله جل وعلا وحده فإن الدين الأرضى يقوم ليس فقط على النفاق والرياء ومظاهر التدين الشكلى السطحى . بل تتم المزايدات طلبا للمزيد من المغانم فتطول اللحى و يتحول الحجاب الى نقاب ويتفاخر المفسدون فى الأرض بعدد مرات الحج للبيت الحرام و( الروضة الشريفة )

 

4 ـ والحديث يطول ، ولكن نختصر فنتوقف مع أسس التناقض بين الاسلام ( العلمانى ) والدين الأرضى.

 

4 / 1 :ـ فالاسلام يؤكد على أنه لا تزر وازرة وزر أخرى ولا يحمل برىء ذنب مجرم لأن المسئولية شخصية ، وأنه ليس من وظيفة الدولة إدخال الناس الى الجنة بل خدمة المجتمع والأفراد وتأمين حقوقهم فى الحرية والعدل والأمن والثروة و السلطة  ، وأنه يجعل الهداية ودخول الجنة اختيارا شخصيا فرديا ، فمن اهتدى فإنما يهتدى لنفسه ومن ضل فإنما يضلّ على نفسه ، وأنك لا تهدى من أحببت ولكن الله جل وعلا يهدى من الناس من يشاء منهم الهداية ، وأنه من يشاء الايمان فليؤمن ومن يشاء الكفر فليكفر ، وليست لبشر سلطة فى الدين لأن الدين كله ملك لله جل وعلا وحده يحكم فيه بين الناس (يوم الدين ) ، فالحساب مؤجل عند لقاء الله جل وعلا يوم القيامة ، وبالتالى لا إكراه فى الدين ولا وجود لرجال الدين أو الكهنوت أو الواسطة بين الناس ورب الناس ، بل يوجد علماء متخصصون فى تفصيلات الدين يعبرون عن وجهة نظرهم ومدى اجتهادهم فى رؤى بشرية غير معصومة من الخطأ وليست ملزمة لأحد .

خلافا للاسلام فى هذه الناحية تجد الدين الأرضى  برجاله وأئمته ومؤسساته الكهنوتية يفرض رؤيته الدينية والعقيدية على المخالفين له فى المذهب وفى الدين فيضطهدهم ، كما يحدث للمسيحيين فى مصر والعراق و للشيعة فى مصر و السعودية وللسنيين فى ايران الشيعية.

4 / 2 : والعمل الصالح فى الاسلام قائم على التطوع من الجميع ، وليس الاحتراف أو الارتزاق وطلب الأجر من الناس شأن الدين الأرضى القائم على الاحتراف الدينى حيث يوجد شيوخ وأئمة يشترون بآيات الله ثمنا قليلا ، وحيث يستغل الدين القائم من يريد الوصول للسلطة أو الاحتفاظ بها ، وحيث يتم اللعب بورقة الدين فى الحياة السياسية و التنافس السياسى وخلط الدين بالسياسة وامتهان الدين وركوبه للوصول الى حطام دنيوى وثمن قليل هزيل .

4 / 3 : فى الاسلام يكون العمل الصالح فى المجتمع شاملا العبادات و العمل الصالح النافع للمجتمع المفيد للناس مثل توفير حقوق الفقراء واليتامى والمساكين والغرباء وأبناء السبيل ، وتلك الحقوق يمكن ترجمتها فى عصرنا بصور شتى مثل إنشاء المدارس والمستشفيات ومراكز التأهيل للحرف والمهن ، ودور رعاية الأيتام وأطفال الشوارع والأرامل وبناء مساكن بسيطة للشباب العاجز عن السكن والذى أصبح فى عصرنا ممثلا لأبناء السبيل الغرباء مع أنهم أبناء البلد ومواطنيه ، مع عدم إهمال حقوق أبناء السبيل ، ويمثلهم الغرباء حتى من كان منهم غنيا كالسياح الأجانب.

فى الدين الأرضى يتوجه العمل ( الصالح ) الى إنشاء مساجد ايدلوجية مذهبية تقوم بتكفير الآخر فى المذهب والدين ، وتشرّع وتسوّغ اضطهاده وملاحقته . وبهذه المساجد تتم صناعة الاحتراف ، وغسيل مخ الشباب وتدمير طاقتهم الابداعية بالرجوع للخلف وتقديس الخرافة ، وبها تتعاظم ثروات القائمين على تلك المساجد ، ويكرر اللاحقون ما كان يرتكبه السابقون فى استغلال المساجد ضد الدين الحق وفى نشر الباطل و التجارة بالدين .

4 / 4 : فى الاسلام تصح الصلاة فى أى مكان وليس شرطا أن تكون فى مسجد .وفى الاسلام تتكرر الدعوة ـ كما جاء فى القرآن الكريم ـ لتحرير المساجد من بغاة وطغاة الدين الأرضى الذين يستخدمون بيوت الله ومساجد الله فى الاحتراف الدينى ، ويمنعون من يخالفهم فى الرأى من دخولها ، وهكذا كانت تفعل قريش الكافرة ، وهكذا يفعل نظام حسنى مبارك مع أهل القرآن ، ولنتدبر الآية الكريمة التالية لنرى كيف تنطبق على حال اهل القرآن المستضعفين فى الأرض : (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن مَّنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَن يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا أُوْلَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَن يَدْخُلُوهَا إِلاَّ خَائِفِينَ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ ) ( البقرة 114 ).

هذا مع أن أهل القرآن يدعون بما كان يدعو اليه خاتم المرسلين ،أى أن يكون الدين لله جل وعلا خالصا ، وأن تكون المساجد لله فلا تدعو مع الله أحدا من البشر ، ولا يرتفع ذكر لبشر مع اسم الله جل وعلا فى الأذان وفى الصلاة وفى العبادة و فى التوسل والدعاء. ولنتدبر قوله جل وعلا يصف موقف القرشيين حين قام خاتم النبيين يدعو لأن تكون المساجد لرفع (لا اله إلا الله ) فقط دون ذكر اسم بشر الى جانبه ، وأنهم كادوا يفتكون به عليه السلام : (وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا قُلْ إِنَّمَا أَدْعُو رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِهِ أَحَدًا قُلْ إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا رَشَدًا قُلْ إِنِّي لَن يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِن دُونِهِ مُلْتَحَدًا إِلاَّ بَلاغًا مِّنَ اللَّهِ وَرِسَالاتِهِ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا  ) ( الجن 18 : 23 ).

هذه بعض ملامح العلمانية المؤمنة فى الاسلام وتناقضها مع الدين الأرضى . ولنستعيد التطبيق الواقعى لهذا التأصيل أرجوك أن تعيد قراءة النصف الأول من المقال.

اجمالي القراءات 16996