لكل نفس بشرية جسدان:) 13 ) : التوبة الأخروية بين الجسد المادى والجسد الأزلى
لماذا لايقبل الله جل وعلا توبة الطاغية المستبد ؟
( ثانيا )
1 ـ يقترب حسنى مبارك من الموت ويقترب منه الموت فقد بلغ أرذل العمر، فهل يمكن أن يتوب ؟ وعلى فرض أن يمكن أن يتوب فلو تاب هل سيقبل الله جل وعلا توبته ؟
نحن هنا لا نحكم بالغيب ولا بالهوى ، ولكن وفق القوانين الالهية الواضحة فى القرآن الكريم ، ونحاول تطبيقها على حالة ( حسنى مبارك ) وهو Ølig; طاغية قضى فى السلطة حوالى ثلاثين عاما من الاجرام . ونحن هنا لا نحكم على عقيدته أو سريرته ، ولكن نحكم على جرائمه الواضحة ، ونحن عليها شهود ومعنا 80 مليون مصرى من ضحاياه ، ومعنا وسائل الاعلام العالمية ومنظمات حقوق الانسان ، وتؤكدها الأحداث الظاهرة المعروفة من سيرة حياته ، وما خفى منها أفظع وأبشع ، وسنعرف بعضه بعد موته ، وسنعرف الحقائق كاملة يوم يصدر الناس أشتاتا يوم القيامة ليروا أعمالهم.
2 ـ لنبدأ بالسؤال الأول : هل يمكن أن يتوب حسنى مبارك ؟
الجواب (لا ).. لا يمكن . واليكم التوضيح .
إدمان المعصية دون توبة عشرات السنين يطبع القلب على العصيان ، ويجعل العاصى يبرر عصيانه ويسوغه ، ثم تنقلب لديه المعايير فيصبح العصيان محمودا و الخير مذموما . ويأتى هنا دور الشيطان الذى يوقع الانسان فى تبرير المعصية بدلا من التوبة ، ثم يهبط به الى الدرك الأسفل حين يزين للعاصى سوء عمله فيحسبه خيرا ، وهنا لا فائدة من الوعظ ،لأنه سيظل سادرا فى عصيانه دون رغبة فى التوبة حتى الموت ، وعند الموت يحاول التوبة ويرجو فرصة أخرى ليصلح أعماله ، ولكن دون جدوى .
هذا الحال ينطبق على حسنى مبارك الذى يرى واجبه فى تزوير الانتخابات وفى التعذيب و قهر المصريين وسلب أموالهم و هتك حرماتهم ، ويرى جنوده يرتكبون الفظائع أمام أعين العالم ، وتأتيه الاحتجاجات من العالم الخارجى من أغراب يتعاطفون مع الضحايا المصريين ، وتأتيه النصائح بالكف عن التعذيب وعن التزوير فى الانتخابات فتأخذه العزة بالاثم ويعتبر ذلك تدخلا فى الشئون الداخلية لمصر، لأن مصر عنده ضيعة يملكها ويملك أهلها ويستعبدهم ويفعل بهم ما يشاء ، ولا يجوز لأحد أن يتدخل فى شئونه الخاصة وطريقة إدارته لعزبته وضيعته وعبيده ، وهو يعتبر هذا النصح بالخير شرا محضا ، ولأنه قد زين له الشيطان عمله وصده عن سبيل الحق فرأى سوء عمله خيرا ورأى الخير شرا . يقول جل وعلا لخاتم المرسلين:(أَفَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَن يَشَاء وَيَهْدِي مَن يَشَاء فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ ) (فاطر 8) .
ولقد تعرض مبارك للمرض وفقد حفيدا له ، ولا شك أنه عند المحنة استجار بالله جل وعلا ، ولكن عندما زالت المحنة عاد لطغيانه ، فشأن ( المسرفين ) المتطرفين فى الشر أن يزين لهم الشيطان جرائمهم فيحسبونها خيرا ، يقول جل وعلا :( وَإِذَا مَسَّ الإِنسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَن لَّمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَّسَّهُ كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ ) ( يونس 12 ).
وحسنى مبارك مجرد مثل تكرر ملايين المرات فى تاريخ البشرية الملطخ بالظلم والطغيان و العصيان ، وكلهم عصاة طغاة زيّن لهم الشيطان أعمالهم ، ويقسم رب العزة بأن الشيطان سيكون وليهم ، ومصيرهم العذاب الأليم ـ أى لا يقبل الله جل وعلا توبتهم ـ على فرض أنهم يتوبون ، يقول جل وعلا : (تَاللَّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِّن قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ) ( النحل 63 )
وحسنى مبارك فى اسرافه فى الطغيان يقتدى بفرعون موسى ، الذى وصفه رب العزة بالفساد (إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ ) ( القصص 3 ) وبالطغيان والاسراف ( وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ) ( يونس 83 )، والسبب أن الشيطان زيّن له سوء عمله فصدّه عن سبيل الحق : ( وَكَذَلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ )(غافر 37). ولأنه زين له سوء عمله فرآه حسنا فقد أنقلبت لديه المعايير ، فأصبح يتهم موسى بالفساد ، ويجعل من الخير أن يقتل موسى متحديا رب العزة : (وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَن يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَن يُظْهِرَ فِي الأَرْضِ الْفَسَادَ ) ( غافر 26 ). أى ان فرعون بقلبه الرقيق يخاف من موسى أن يظهر الفساد فى أرض مصر ، والحل الذى ليس مفسدا هو قتل موسى .!!
وبنفس العقلية يرى حسنى مبارك أن قتل المصريين وقهرهم وتعذيبهم هو الصلاح ، وأن دعوة (أهل القرآن ) للاصلاح هى الفساد ، ويستحقون عليها السجن و التعذيب والاتهام بازدراء الدين.. دين فرعون بالطبع .
وكما زين الشيطان لفرعون موسى سوء عمله فظل بلا توبة حتى لحظة الموت فإن حسنى مبارك يرفض التوبة وسيظل يرفضها حتى لحظة لقائه بملائكة الموت ، بل سيجادلهم بأنه لم يفعل سوءا ، أى سيظل مقتنعا بالباطل الى وقتها ، وهذا هو حال أمثاله ، والله جل وعلا يصف موقفهم مع ملائكة الموت فيقول : (الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ فَأَلْقَوُاْ السَّلَمَ مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِن سُوءٍ بَلَى إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ فَادْخُلُواْ أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ ) ( النحل 28 : 29).
ثم عندما يدرك الحقيقة سيصرخ بالتوبة راجيا أن يعطى فرصة أخرى : (حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلاَّ إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِن وَرَائِهِم بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ ) ( المؤمنون 99 : 100 ).
عندها ستنهال ملائكة الموت عليه بالضرب ـ أى على نفسه التى انفصلت عن جسده الميت وتبشره بالويل : (وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُواْ الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ وَذُوقُواْ عَذَابَ الْحَرِيقِ ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ ) ( الأنفال 50 : 51) (فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمْ الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ ) ( محمد 27 : 28 ) .
ليس هذا تجنيا على حسنى مبارك ،فهو الذى يرفض الاستجابة حتى لمطالب الاصلاح الجزئى ؛ يرفض إلغاء قانون الطوارىء الذى يحكم به مصر من ثلاثين عاما ، ويرفض إطلاق سراح المعتقلين الأبرياء من سجناء الرأى والمحبوسين احتياطيا و المساجين بلا تهمة ، كما يرفض باستماتة إجراء انتخابات نزيهة يراقبها العالم الحرّ.
أى لا يمكن أن يتوب حسنى مبارك ، ومستحيل أن يظهر على شاشة التليفزيون باكيا نادما معتذرا متأسفا مقرّا ومعترفا بما ارتكبه فى حق ملايين المصريين من قتل وقهر وتعذيب وتنكيل .
قد يفعل هذا مرغما حين يتعرض للتعذيب الذى أذاقه لملايين المصريين الأبرياء ، اما لوجاء فى محكمة علنية وبها ضمانات للعدالة تمنع التعذيب ، فسيدافع عن نفسه بكل بجاحة مثلما فعل سلفه صدّام حسين .
3 ـ نأتى للسؤال الثانى : لنفترض جدلا أن حسنى مبارك ( 82 عاما ) قرر التوبة صادقا ، هل سيقبلها رب العزة ؟
الجواب أيضا : ( لا ).. أى لا يمكن أن يقبل الله جل وعلا توبته لأنه جل وعلا لا يصلح عمل المفسدين ، وهذا ما قيل عن فرعون موسى من قبل : (إِنَّ اللَّهَ لاَ يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ ) ( يونس 81 ).
هذا أيضا يستلزم شرحا طويلا ، نكتفى منه هنا فى هذا المقال بجملة واحدة هى : أنه لا وقت لديه للتوبة المقبولة . أى ما تبقى من عمره لا يكفيه للوفاء بمتطلبات التوبة وشروطها ، وهنا نواجه قضية الزمن ، وهى أعظم إختبار لبنى آدم .
وقد قلنا أن لكل نفس بشرية جسدين ، الجسد المادى الذى تتحرك به النفس فى الدنيا ، تسعى فيها بالخير والشر ، والجسد الأزلى الذى يسجل فى كل ثانية من عمر الانسان على الأرض حركته وسعيه بالخير و بالشر ، ويتراكم هذا العمل مع كل ثانية تمر ، وكل ثانية تمر يتناقص بها عمر الانسان فى هذه الدنيا بينما يتراكم بها تسجيل عمله فى جسده الأزلى ، الى أن تأتى لحظة الوفاة فيموت الجسد البشرى المادى ويكتمل للنفس التأريخ والتسجيل لها فى جسدها الأزلى ، وبهذا الجسد الأزلى تبعث يوم القيامة وبه تحاسب وتدخل الجنة أو النار ، حسب عملها.
التوبة تقع فى بؤرة العلاقة بين النفس وجسديها المادى و الأزلى . فالجسد المادى تحركه النفس نحو الخير والعمل الصالح ، وتحركه أيضا نحو الشّر والعمل السيىء . وكل نفس تقبل التوجه للناحيتين : الفجور و التقوى ، وكل نفس تملك المشيئة لفعل الخير والعمل الصالح كما تملك المشيئة لارتكاب الشرور والفسوق . وهنا نرى نوعيتين : نفس تختار التقوى و العمل الصالح ، وبالتكرار للعمل الصالح ومراعاة التقوى تصحو فيها الفطرة و تتكون فيها ما يعرف بالأنا العليا التى يمكن أن نطلق عليها الضمير أو النفس اللوامة ، وهى لا تكتفى فقط باللوم والندم على وقوعها فى السيئات بل تمنع من البداية الوقوع فى الشر ، وتسارع بالتوبة لو وقعت فيه . والنوعية الأخرى نفس أدمنت الشر وارتكاب السيئات وتتفنن فى تسويغها وتشريعها وتزيينها .
يقول جل وعلا : (وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا ) ( الشمس 7 : 10 ) ففى كل نفس القابلية للفجور والتقوى ، والذى تتكون لديه ( الأنا العليا ) هو الذى يفلح فى تزكية نفسه وتطهيرها بالعمل الصالح والتقوى والتوبة ، بينما يخيب من يخضع لغرائزه وينصاع لهواه وشحّ نفسه وفجورها. يقول جل وعلا عن الصنف الخاسر الخائب : (فَأَمَّا مَن طَغَى وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى) فهنا طغيان وبغى فى سبيل الحياة الدنيا ، ويظل سادرا فى بغيه دون توبة مقبولة الى أن تكون الجحيم مأواه ومثواه . وفى المقابل يقول جل وعلا عن الأنا العليا التى تأمر بالخير (وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى ) ( النازعات 37 : 41 ). فالأنا العليا هى التى تنهى النفس عن الهوى .
وبينما تكون التوبة مفتاح الفلاح لمن يتقى ربه فإن الاستمرار على الفسوق والعصيان يزيد سواد النفس ، أو بالتعبير القرآنى :( كَلاَّ بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ) ( المطففين : 14 )، أى إن الفطرة البيضاء النقية قد علاها الران أو الصدأ والسواد والكدر ، أى تغلفت بالسواد دون أن تجد فرصة لأن يغسلها صاحبها ويطهرها ويزكيها وينقيها بالتوبة . وبالتالى يحتاج العاصى لوقت كاف يستطيع فيه أن يتوب توبة صحيحة مقبولة يتم بها ارجاع قلبه الى النقاء حتى يلقى ربه بقلب سليم طاهر من كدر الذنوب والسيئات (يَوْمَ لا يَنفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ إِلاَّ مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ ) ( الشعراء 88 : 89 ).
وهنا تختلف مواقف البشر :
منهم من حافظ على تقواه فإذا وقع فى ذنب بادر بالتوبة وأقلع عن السيئات ويموت وهو فى أعلى الدرجات فيكون من السابقين المقربين :(وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاء وَالضَّرَّاء وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُواْ أَنفُسَهُمْ ذَكَرُواْ اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّواْ عَلَى مَا فَعَلُواْ وَهُمْ يَعْلَمُونَ أُوْلَئِكَ جَزَاؤُهُم مَّغْفِرَةٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ ) ( آل عمران 133 : 136) (وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ) ( التوبة 100 )
ومنهم من أفاق لنفسه فى الوقت المناسب وحاسب نفسه فوجد نفسه قد خلط عملا صالحا وآخر سيئا فعزم على التوبة وقام بشروطها ، وكان معه وقت نذره لعمل الصالحات ليعوض ما فات ، هذا يغفر الله جل وعلا له ويأتى يوم القيامة فى الجنة من الدرجة الثانية (أصحاب اليمين ) : (وَآخَرُونَ اعْتَرَفُواْ بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُواْ عَمَلاً صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللَّهُ أَن يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَّهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ )( التوبة 102 : 103 )
ومنهم من أدمن السيئة وأحاطت به خطيئته فاسود بها قلبه فأصبح موجز حياته كلمة واحدة هى السيئة ، هذا الصنف خالد فى النار بسبب عمله السيىء الذى أحاط به ، بغض النظر عما يزعمه من إيمان : (بَلَى مَن كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ) ( البقرة 81 ).
4 ـ ونتساءل هنا :
هل ما بقى لحسنى مبارك من عمر يكفى لأن يتوب توبة نصوحا ؟
دعنا نفترض أن حسنى مبارك طيلة حياته قتل شخصا بريئا واحدا فقط ومات بهذا الذنب ، فإن مصيره يوم القيامة الخلود فى جهنم مع غضب الله جل وعلا عليه ولعنه وعذاب عظيم ينتظره : ( وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا) ( النساء 93 ). فهل قتل حسنى مبارك شخصا واحدا من الأبرياء المصريين ؟
لنفترض أن حسنى مبارك لم يقتل أحدا ولكن ظل يظلم شخصا واحدا فقط طيلة ثلاثين عاما وأراد التوبة ، فإننا نشكّ فى أن ما بقى له من عمر قد يكفى لتطهير القلب من ذنب استمر ثلاثين عاما بلا توقف لهذا الشخص الواحد . هنا ينطبق على الجانى الظالم مريد التوبة قوله جل وعلا : ( وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ) ( التوبة 106 ) ، أى مرجعه لله جل وعلا :أن يتوب عليه ويقبل توبته ،أو أن يعذبه ، وختم الآية بقوله جل وعلا (وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ) أى إن القرار الالهى سيصدر عن علم وحكمة. ولم يقل كما فى حالة من خلط عملا صالحا وآخر سيئا (عَسَى اللَّهُ أَن يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ).
هذا مع افتراض أن حسنى مبارك فى الوقت الضيق الباقى له قام بشروط التوبة للشخص الوحيد الذى ظلمه ، أى اعترف بالذنب وأقرّ به ، وأعلن ألا يعود اليه ، وأرجع حق المظلوم ، وإعتذر له وطلب سماحه ومغفرته . فهل تتصور حسنى مبارك يفعل هذا ؟
حسنى مبارك لم يظلم شخصا واحدا بل عشرات الملايين من المصريين وغير المصريين ، ولم يقتل شخصا بريئا واحدا بل قتل ملايين قتلا مباشرا أو غير مباشر ، ولم يرتكب ذنبا واحدا بل ارتكب كل الجرائم فى حق الملايين ، من قتل وتعذيب و سرقة ونهب وقهر وسجن وإيذاء . فعل كل ذلك بالأمر المباشر ، وبنفسه أحيانا وبأذنابه غالبا . أى يحتاج حسنى مبارك لعشرات القرون لكى يجد الوقت الكافى ليعتذر لكل مظلوم وليرجع كل الحقوق وليعترف بكل الذنوب ..
المضحك أن حسنى مبارك منذ ظهر فى السلطة نائبا للرئيس ثم رئيسا لم يعترف يوما بخطأ كما لو كان الاها معصوما من الخطأ ، بينما يتفوق فى جرائمه وفى فشله وفى خيباته على كل الطغاة الذين حكموا مصر فى تاريخها المعروف . وهو فى كل ذلك لا يستشعر عارا ولا يحسّ خجلا ، ولا يشعر بتأنيب الضمير لأنه قد زين له الشيطان سوء عمله فرآه حسنا ، بل إنه يعادى من ينصحه بالخير ويوصيه بالاصلاح .
وهو ماض فى طريقه هذا حتى الموت ..دون توبة .. وحتى لو تاب فلا يستطيع الوفاء بحق التوبة ، فللتوبة موعد وشروط ، سنعرض لها بالتفصيل فى المقال القادم .