تأصيل موضوع البكرة والأصيل!

نسيم بسالم في الجمعة ٢٦ - نوفمبر - ٢٠١٠ ١٢:٠٠ صباحاً

هذا الموضوع في أصله رسالة بَعثت بها إلى مشائخ بلدي (غرداية، الجزائر) لترغيبهم على إحياء سنة مهجورة؛ هي إقامة حلقات ذكر في كتاب الله بالبكرة والأصيل في المساجد، أرجو من الإخوة الأكارم أن يطالعوها ويبدو آراءهم حَولها، وجزيتم خيرا.

بسم الله الرحمن الرحيم
والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين
رسالة إلى المَشائِخ بشأن فَتح مساجِد الله ب "البُكرَة والأصيل"
مشايخنا الأَجلاَّء؛ يَا مِن أكرَمهم ا&aacuCcedil;للَّه بِوِفادَة عِباد الرَّحمن في بُيُوتِه؛ سَلام عَليكُم جَميعا وتَحيَّة مِن عِندِ اللَّه مُبارَكة طيِّبَة.
وبعد: فقَد خلَقنا الله تَعالى في هَذا الوُجود، ولَم يترُكنَا سُدى ضائِعين، ولا هَملا حائِرين؛ لا نَبتَغي مَقصَدا ولا نَفقَهُ وِجهَة ولا مَصيرا؛ بل أكرَمنا بالوَحي نُورا وهُدى وبَصائِر؛ أرشَدَنا بِه بَعد ضَلال؛ وأحيانا بِه بَعدَ مَوات، ونوَّرَنا بِه بَعد ظُلمات، وعلَّمنا بِه بَعدَ جَهل، وبَصَّرنا بِه بَعدَ عَمى..
وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نُوراً نَّهْدِي بِهِ مَنْ نَّشَاء مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ. صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ أَلَا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الأمُورُ [الشورى : 53].
الَر كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ[إبراهيم1].
هَذَا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّقَوْمِ يُوقِنُونَ [الجاثية : 20].
قَدْ جَاءكُم مِّنَ اللّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ يَهْدِي بِهِ اللّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلاَمِ وَيُخْرِجُهُم مِّنِ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ[المائدة :15ـ 16].
 وَأَنزَلَ اللّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً[النساء113].
فهذا الكِتابُ العَظيم الذي بينَ أيدينَا؛ هُو الخَير كُلُّه؛ والنُّور كُلُّه؛ والشِفاء كُلُّه، والبَركَة كُلُّها... أمرَنا الله سُبحانَه بالاستِمساك بِه؛ والاعتصام بِغَرزِه؛ دِراسَة ومُدارَسة؛ تذكُّرا وتدبُّرا؛ تجسيدا وتَبليغا؛ وأَمرَنا بِتعلُّمِه وتَعليمِه. وتِلك كاَنت مَهمَّة مَن كانَ خُلُقُه القُرآن؛ وحَياتُه القُرآن؛ عاشَ للقُرآن؛ ومَات في سَبيلِ القُرآن؛ محمَّد عليه أفضَل الصَلاة وأزكَى السَلام.
فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ. وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ [الزخرف: 44] .
وَلَـكِن كُونُواْ رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ [آل عمران: 79].
كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ [ص: 29].
إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ. وَأَنْ أَتْلُوَ الْقُرْآنَ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَقُلْ إِنَّمَا أَنَا مِنَ الْمُنذِرِينَ [النمل: 92].
قُلْ هَـذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللّهِ وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ [يوسف : 108].
وقَد توعَّد الله تَعالى بأقسَى صُنوفِ العذاب مَن زاغَ عَن سَبيلِ كِتابِه ونأى عَنه؛ ولَم يَحتَكم إلى آياتِه البيِّنات في كل جُزئيَّة مِن جُزئيَّات حياتِه؛ واتَّخذَ مِن دُونِه سُبلا وطَرائِق قِددا!
وَأَنَّ هَـذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [الأنعام : 153].
وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِن كِتَابِ رَبِّكَ لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَلَن تَجِدَ مِن دُونِهِ مُلْتَحَداً[الكهف 27].
وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى. قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيراً. قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى [طه : 126].
وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِن كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجاً مِّمَّن يُكَذِّبُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ يُوزَعُونَ. حَتَّى إِذَا جَاؤُوا قَالَ أَكَذَّبْتُم بِآيَاتِي وَلَمْ تُحِيطُوا بِهَا عِلْماً أَمَّاذَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ. وَوَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِم بِمَا ظَلَمُوا فَهُمْ لَا يَنطِقُونَ [النمل :83- 85].
وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَراً حَتَّى إِذَا جَاؤُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَاء يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ. قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ [الزمر :71- 72].
كِتابٌ بِهذِه العَظَمة وهَذه الرِّفِعة؛ وهذه الخُطُورة، مِن شأنِه أن تُصرَف لَه الأَعمَار، وتُفرَّغَ لَه الأَوقات، وتُبذَل دُونَه الأنفُسُ والأَموال، وتُعقَد لَه المَجالِس، ويوصَل نُورُه إلى الآفاق؛ كَما كانَ ديدَن الرَّعيل الأوَّل مِن المُهاجِرين والأنصَار حَول الرَّسُول القُدوَة؛ مُعلِّم البَشريَّة؛ ومنقِذ البريَّة؛ عَليه الصلاة والسلام.
لَقَدْ مَنَّ اللّهُ عَلَى الْمُؤمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ [آل عمران: 164].
تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً [الفرقان : 1].
لقَد كانَ القُرآن الكَريم همَّ الرَّسُول  المقيمَ المُقعِد؛ سَخَّر لَه حَياتَه، ووَهب له عُمره وأوقاتَِه... يتهجَّد بِه ساعاتٍ طَويلةً في جَوفِ اللَّيل؛ ويُبلِّغُه للقاصِي والدَّاني في بَحر النَّهار؛ مثنى وفُرادى وجَماعات؛ بصَبر وجَلد وثبات. ويَجلِس لتَعليمِه في حَلقات ذِكر مُنتَظَمةٍ بالغَداة والعَشِي؛ فهَدى اللَّه على يَديه أناسيّ كثيرا، فنَصرَه الله نَصرا عزيزا، وفَتح عليه فتحا مبينا، وأراه أناسا يَدخُلون في دِين الله أفواجا! وأصبَحت "يثرِب" "مدينة مُنوَّرة" بالنُّور الرَّبَّاني؛ تُشَدُّ إليهَا الرِّحال؛ بَعد أن كانَت حيا بسيطا مِن أحياءِ العَرب لا شأن لَها كبيرٌ بينَ قبائل جَزيرة العرب.
مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً [الفتح : 29].
والآن؛ وقَد خَفُتَ هذا النُّور الإِلهي الوَضَّاء مِن القُلوب، واندَرسَت مَعالِمُه مِن الأفئِدة (إلا من رَحمَ ربِّي)، وضُربَت على "المُسلٍمين" الذِّلَّة والمَسكَنة؛ وانتَشرت في أوسَاطِهم المَعاصي والمُوبِقات، واستَفحلت الشُّرور والمُنكَرات... أمَا آنَ لَنا أن نَعُودَ إلى ما كانَ عَليه الرَّسُول  وصَحبِه الكِرام؟! أَما ظَهر لَنا جليَّا بُعدُ الشُّقَّة بينَنا وبينَهُم؟! أما اشتاقَت نُفُوسُنا لتفيُّؤِ ظِلال تِلك الحَياة الكَريمة المِثاليَّة؟! أما حانَ الوَقت لنَعمَل لنَصر قَريب على أعداء الله في كلِّ مَسلَك وسَبيل؛ كذَاك الذي نُصِرَه الحبيب المُصطَفى؟!
ولَكِن هَل مِن خُطوَة أُولى في الطَّريق؟!
والجَواب أنَّ أبسَط شَيء خَفيف المُؤنَة نستَهلُّ بِه مِشوارَ هَذا المَشرُوع العَظيم؛ أن نَسعَى جدِّيا بكلِّ ما أوتينَا مِن قُوَّة لأن نُحيي حَلقَات الذِّكر والقُرآن بالبُكرة والأَصيل في بيوت الله؛ امتثالا للأَمر الإلَهي المبيّن في سُورة النُّور:
فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ. رِجَالٌ لَّا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاء الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ. لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُم مِّن فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَن يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ [النور : 36-38].
فكَيف ننتَظر أن يرفع الله بيوته، وكيفَ ننشُدُ تَكوينَ رِجال مِن طراز عَهدِ النُّبوَّة، ومَساجِدُنا في هذه الأوقات المُباركَة مُوصَدة؛ لا تُفتَح إلاَّ في مَواعيد الصَّلوات المَكتُوبة؟!
وهَل بَقيَ لنا بَعد قَوله تعالى " فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسبِّح لَهُ فيها بالغدو والآصال رجال" عذر نلقى به ربّنا؟! والحال أنّ القرآن قولٌ فصلٌ وما هو بالهزل..
فهذا الرَّسُول  على مَكانَته وشَرفِه، وعُلوِّ كَعبِه في ذِكر الله تعالى؛ أمَره الله سُبحَانَه وتعالى بالمُداوَمة على ذِكرِه وتسبيحِه؛ بُكرة وأصيلا! قبل طُلوع الشَّمس وقَبل غُروبِها؛ لأنّ المداومة على هذا التسبيح بالبكرة والأصيل، هي الكَفيلَة بتثبيتِه وتَصبيرِه على هُمومِ الدَّعوة، ورِضَاهُ بِما قدّر الله لَه!
مشايخنا المسؤولين: لنتدبّر هذه الآيات البيِّنات..
فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ [غافر: 55].
وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آنَاء اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَى[طه:130].
وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ. وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبَارَ السُّجُودِ [ق: 38-39].
وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلاً. وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلاً طَوِيلاً [الإنسان : 26]
بل وأكثَر مِن هذا.. فإنَّ الله سبحانه وتعالى حكم بالغفلة على من يهجر الذكر والتَّسبيح في هذه الأَوقات المُبارَكة؛ لأنّ الغَفلة تَأخُذُ بِمجامِع القَلب؛ فيصير صاحبه بِعيدا عَن مَنهَج ربِّه!
وَاذْكُر رَّبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ وَلاَ تَكُن مِّنَ الْغَافِلِينَ[الأعراف : 205].
الخِطاب لِمن يا تُرى؟! لرسول الله الأسوة الحسنة؛ فكيفَ بِمن دُونَه؟!
 لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراًالأحزاب21
هذه الغَفلة التي قرَّر الخالِق العَظيم أنَّها مُستَحكِمة في قُلوب أكثر الناسِ!
اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مَّعْرِضُونَ مَا يَأْتِيهِم مِّن ذِكْرٍ مَّن رَّبِّهِم مُّحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ لَاهِيَةً قُلُوبُهُمْ [الأنبياء :1ـ 3].
وَإِنَّ كَثِيراً مِّنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ يونس92
وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِّنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَـئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَـئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ الأعراف179
فما دام الأمر كذلك.. لا مناص من اتّباع منهج الرسول  في التسبيح بالبكرة والأصيل.
وفي سُورَة الفَتح نَجِدُ أنَّ تَسبيح الله تعالى بالبُكرَة والأصيل مِن أبرَز وأهمِّ ما أُرسِل الرَّسُول  مِن أجلِه..
إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً. لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً[الفتح:8- 9].
ولَم يَكُن الرَّسُول  في هَذا بِدعا مِن الرُّسل؛ بل هُو مُتَّبع لِمن سَبقَه مِن الأنبياء قبله.
فهذا نبي الله زَكريَّاء لمَّا طَلب الوَلدَ استَجابَ الله دُعاءَه، وجَعل لَه آية، وَأمَره بِذكره ذِكرا كثيرا وتَسبيحِه بُكرَة وعَشيا؛ حَمدا.. وشُكرا.. واستِدرارا لِلمزيد..
قَالَ رَبِّ اجْعَل لِّيَ آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ إِلاَّ رَمْزاً وَاذْكُر رَّبَّكَ كَثِيراً وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالإِبْكَارِ [آل عمران : 41].
وقَد كانَ هَذا النبي الكَريم نِعم المُجيبين؛ فَلم يَكتَف بالامتثال بالأَمر في خاصَّة نَفسِه؛ بل خَرَج على قَومِه مِن المِحراب؛ فأوحى إليهم أن سبّحوا بكرة وعشيّا!
فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرَابِ فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَن سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيّاً [مريم : 11].
وهذا نبي الله دَاوود مِن قُوَّة تسبيحِه وذِكره، سخَّر الله الجِبالَ والطَّير يسبّحن مَعَه بالعَشي والإِشراق!
وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ. إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ. وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَّهُ أَوَّابٌ. وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ [ص:17- 20].
ولَم يَخرُج ابنُه سُليمان عَن هذا السَّنن العَظيم؛ بل اقتَفى سيرَة والِده وسيرَة الأنبياءِ مِن قَبلِه؛ حتَّى إنَّه تلهّى يَوما باستِعراض خُيولِه العَسكريَّة فداهمَته الشَّمس بالمَغيب؛ فخرَّ منيبا إلى ربّه، وطَفق على خُيولِه مَسحا بالسُّوقِ والأعناق!
وَوَهَبْنَا لِدَاوُودَ سُلَيْمَانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ. إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِنَاتُ الْجِيَادُ. فَقَالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَن ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ. رُدُّوهَا عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحاً بِالسُّوقِ وَالْأَعْنَاقِ [ص :30- 33].
ولَم يكتفِ ربُّ العِزَّة بأمر الرسول  أن يتلو القرآن مع خاصّة نفسه فحسب، بل أمره أن يُصابِر ويرابط مَع إخوانِه بالغَداة والعَشي؛ وأن لا تعدوَ عيناهُ عَنهم؛ بدعوى أشغال الحياة الدُّنيا..
وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِن كِتَابِ رَبِّكَ لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَلَن تَجِدَ مِن دُونِهِ مُلْتَحَداً وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا [الكهف : 28].
وما زينة الحياة الدنيا التي حذّر الله أن تُشغل الناس عن الذكر بالغداة والعشيّ؟
الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَاباً وَخَيْرٌ أَمَلاً الكهف46
فإذا كانَ أُسوَة الذَّاكرين؛ رسول الله  مُحتاجًا إلى هذا الزَّاد الرُّوحاني المُتجدِّد، وهَذه المُصابَرة اليوميَّة المُتواصِلة، وإلا وَقع في بَراثن الغَفلَة؛ فكيفَ بِمن دُونه بأشواط؟!
وللأهمِّيَّة البالِغة لحلقَات الذِّكر في ِهذه الأَوقات المُبارَكة؛ في تَجديد الإيمان في القُلوب، وتَعليم النَّاس الكِتاب والحِكمَة لَم يَرتَض الخالِق العَظيم أن يُمنَع أحدٌ مِن شُهودِها؛ مَهمَا كانت الاعتبارات والمبرّرات!
فقَد جاء وَفد مِن أشرافِ قُريش إلى الرَّسُول  في مَجلِسِه؛ فكأنَّهم أنِفُوا واستَنكَفُوا أن يُجالِسُوا فُقراء المُهاجِرين والأنصار لعزَّة فيهِم وحميَّة؛ فطلبُوا مِن رسُول الله  أن يُخرِج هؤلاء مِن مَجلسِه حتَّى يستَمعُوا إليه، فأَنزلَ الله هذه الآية الكَريمة:
وَلاَ تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِم مِّن شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِم مِّن شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ. وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لِّيَقُولواْ أَهَـؤُلاء مَنَّ اللّهُ عَلَيْهِم مِّن بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ [الأنعام 52-53].
وإذا نَظرنا إلى مَوضُوع "مدارسة القرآن بالبُكرَة والأصيل" مِن زاوِية العَقل والمَنطِق السَّوي؛ لأدركنا بالفعل أنْ لا غِنى لإنسان ذَاكر يبتغي رِضاء ربِّه عَن هذه الأوقات!
فمَتى يَتبتَّل الإنسان ويَنقَطع لذِكر ربِّه؛ وتعلُّم قَوانينِ الوَحي المُتعيِّن عَليه تعلُّمَها وهذا القُرآن بَحر لا سَاحِل لَه يَحتَاج إلى أوقات وأوقات؟!
أفي عزِّ النَّهار؟ كلا! فالوَقت وَقتُ معاش وكَدح وسعي في الأَرض ابتِغاء فَضل الله!
وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشاً [النبأ : 11]. إِنَّ لَكَ فِي اَلنَّهَارِ سَبْحاً طَوِيلاً [المزّمِّل : 7].
أم في الظَّهيرة؟ كلا! فالظَّهيرة للقَيلُولَة والرَّاحة بَعد عَناء يوم طَويل!
وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُم مِّنَ الظَّهِيرَةِ[النور : 58].
أم بينَ المَغرب والعِشاء؟ أيضا كلاَّ: لأنَّ الوَقت أوَّل أوقَات اللَّيل؛ وطاقَة الاستيعاب والتَّركيز للإنسان ضَعيفة؛ والنَّوم قَد بدَأ يُغازِل الأَجفان؛ والبُطُون تَشكُو الجُوع بَعد نَهار طَويل مُجهِد؛ فلا يُمكِن التَّعويل على هَذا الوَقت.
وقَد ثبَت في سيرة الرَّسُول  أنَّه كانَ يزُور أرحَامَه، ويُلاقي بَعض إخوانِه في مِثلِ هَذا الوَقت؛ وكانَ في أحيان أُخرى يَتعشَّى مَع أهلِه ويُحادِثُهم ويُؤانِسهم.
بل وثبت عنه  أنّه كانَ يَنهى عَن الحديث بَعد العِشاء؛ حتَّى يأوي النَّاس إلى مضاجِعِهم باكِرا؛ استِعدادا لُمنجاة الخَالق في ثُلث اللَّيل الآخِر!
بقيَت فَترة "قيام الليل" فهي التوقيت الأنسب لنُزولِ القُرآن في القَلب، وتلقي القَول الثَّقيل استِعدادا لليَوم الثَّقيل؛ لأنّ طابِع الخُشوع والضَّراعَة غالب عَليها؛ إضَافَة إلى أنَّها فَترة خُلوَة بين المَرء وخالِقِه.
وعليه.. فتعيَّن أنَّ خِدمَة القُرآن مِن كافَّة وُجوهِه والمَشيَ بِه في النَّاس، والإِنذَارَ بِه، والمُصابَرةَ على تعلُّمِه وتَعليمِه تَحتَاج إلى أوقات مخصوصة؛ فلَم يبقَ إذَن إلا وَقتُ البُكرَة والعَشي!
فإذا ما ابتغينا من ربّنا أن يغدق علينا بالرَّحمات، ورجوناه أن يخرجنا من الظُلُمات؛ فَما عَلينا إلا أن نُصابِر على ذِكرِه ذكرا كثيرا بكرةً وأصيلا؛ بدراسة آياته البيّنات.
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً (41) وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً (42) هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً (43) تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلَامٌ وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْراً كَرِيماً (44) الأَحزاب.
ختامًا.. مشايخنا الأَجلاَّء؛ يَا مِن أكرَمهم اللَّه بِوِفادَة عِباد الرَّحمن في بُيُوتِه التي أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه..
هذه رسالة الله من السماء إلى أهل الأرض! وهذا هو الحقّ الذي لا ريب فيه! والله يقول الحقّ وهو يهدي السبيل.. أنزل الكتاب بالحقّ ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه.. فإن كنّا حقّا نؤمن بالله ربّا.. وبالقرآن إمامًا.. وبسيّدنا محمّد  نبيئا ورسولا.. فعلينا أن نرفع بيوت الله بالذكر والتسبيح بكرةً وأصيلا.. وألاّ نقتصر على عمارته عند الصلوات الخمس المفروضة فحسب؛ هذه هي رسالة المسجد التي يريدها الله من عباده الذين استخلفهم فيها. وإنّا لنخشى أن تضيع الأمانة في أيدينا إن سكتنا عن تبيين هذا الحقّ للناس..
وَإِذَ أَخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلاَ تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاء ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْاْ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ آل عمران187
إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِن بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَـئِكَ يَلعَنُهُمُ اللّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ وَأَصْلَحُواْ وَبَيَّنُواْ فَأُوْلَـئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ البقرة159ـ160
والسَلام عَليكُم جَميعا ورحمة الله وبركاته
وآخر دَعوانا أن الحَمد لله ربِّ العَالمين.

اجمالي القراءات 17519