أولا : بتاريخ 28 / 2/ 1994 نشرت جريدة (الأحرار ) تحت العنوان السابق هذا المقال :
1 ـ اقتربت قوات الأمن من أحد مساكن الإيواء للقبض على أحد الإرهابيين ، وفى ساعة الصفر اقتحمت المسكن ففوجئت برجلين وامرأتين فى وضع شائن فى غرفة النوم الوحيدة المزدحمة بالأولاد والبنات النائمين أو المتظاهرين بالنوم ، وكانت المفاجأة الأكبر انهما زوجان وزوجتان ولكن فى حالة تبادل للزوجات والأزواج ، وقالت واحدة منهما للضابط أنتم السبب ففى الحمامات المشتركة لم تعد لنا خصوصيات ، وضاعÊت كل الحرمات ..
2 ـ تذكرت هذه القصة وانا أقرأ العرض المثير للحزن والذي كتبته الأحرار فى 14 فبراير الماضى عن المساكن العشوائية بقلم الصحفى عصام كامل .. وزاد فى اللوعة والحزن ما نشرته الأحرار فى نفس العدد وفى الصفحة الاولى عن استيرداد الحكومة لعدد (42) سيارة مرسيدس مصفحة للوزراء والكبار ، وتبلغ قيمة السيارة الواحدة 2 مليون جنيه .. ولكل واحدة من أولئك السادة اسطول آخر من السيارات الفارهة ، ولكن ميزة السيارة الجديدة أنها ضد الرصاص ، ولكنها لن تكون بالطبع ضد الموت ، والله تعالى يقول " إينما تكونوا يدرككم الموت ولو كنتم فى بروج مشيدة : 4/ 78 " ويقول " قل إن الموت الذى تفرون منه فإنه ملاقيكم : 62/ 11". وإذن فالسيارات الجديدة ( بما تكلفه من ملايين من عرق الشعب الكادح ) لا تعطى السادة الحكام إلا بعض الأمن الوهمى .
3 ـ وكان يمكن لكاتب ساذج مثلى أن يطالب بان تتوجه تلك الأموال إلى إصلاح حال المساكن العشوائية التى اصبحت وصمة عار فى وجه مصر تتضخم يوما بعد يوم إلى درجة استدعت تدخل اليونيسيف لتقديم المساعدات لأهلها ، ولكن يبدو أن قلوب الخواجات أرق قلبا من قلوب سادتنا الأكابر ، الذين يعيشون فى أبراج عاجية من شاليهات وقصور ومرسيدس تجعل بينهم وبين الاحساس بالآم المصريين سدا منيعا ..
كان يمكن أن نطالب الحكومة بالتقشف بدلا من الإسراف فى فرض المزيد من الضرائب ، ولكنها تتمسك بمنطقها فى أن يتحمل الشعب المطحون إسرافها فيزداد سقوط الملايين من المصريين المستورين فى بؤرة الفقر والحرمان بينما تتمتع الحكومة بالصف الأول فى حجز احداث الموديلات من المرسيدس ، ويقال ان ذلك يسبب ضيقا للمسئولين فى الدول التى تعطى المعونات لتصل الجوعى المصريين وهم يرون أن سادة المصريين ينافسون أغنى أغنياء العالم فى الترف والثروة بينما يعيش أغلب المصريين تحت خطر الفقر ..
3 ـ والمشكلة الظاهرة أننا ندخل عصر المساكن العشوائية فأغلب مساكن القاهرة آيلة للسقوط ، بل أن القاهرة تسبح فوق بحيرة من المجارى ، أى أن كل عماراتها مهددة ، واغلب سكان القاهرة ينطبق عليهم وصف " المستورين" أى يعيشون فى ضنك لا يعلم به إلا الله تعالى ، ولو ـ لا قدر الله ـ سقط المبنى لتحولوا بين يوم وليلة إلى المساكن العشوائية ، وتحولوا بالتالى إلى الأخلاق العشوائية ، لأن أغلبهم لا يستطيعون شراء شقة جديدة ..
4 ـ ولكن المشكلة الحقيقة أننا نعيش عصر الاخلاق العشوائية ..
لقد انتهى الزمن الذى كان المصريون يطلقون على السارق لقب " الحرامى " المشتق من الحرمة ، ويقولون عن الانثى الغريبة أنها " حرمة " من الحرام ، ويحرم النظر إليها ،إلى هذه الدرجة بلغت حساسية المصريين للحرام وبلغ تحذرهم منه .. ولكن فى عصرنا الردىء ضاعت كل الحرمات وكل القيم المصرية الأصيلة.
وبانتشار المساكن العشوائية انتشرت معها الاخلاق العشوائية ، بين الحكام والرعاع .. وإلا فكيف تفسر وجود مئات القرى الساحلية والسياحية وآلاف الشاليهات وآلاف الشقق لأبناء الاكابر فى وقت يعجز فيه الملايين من الشباب عن لقمة العيش وشقة ، وفى الوقت الذى ينحشر فيه اكثر من اسرة فى شقة واحدة أو خيمة واحدة ؟!!
5 ـ كيف ينام واحد من المترفين فى واحد من شاليهاته أو قصوره وينسى آلاف المشردين المصرين بينما يتذكرهم اليونيسيف والاجانب ؟
إن أطقم الحراسة والمرسيدس المصفحة لن تجلب الأمن ، فالأمن مرتبط بإصلاح جذرى وإقامة القسط ورفع الظلم واعطاء الحقوق لأصحابها .. وإلا فإن الفساد هو الوجه الآخر للإرهاب .. وكما نستنكر الإرهاب بكل قوة ، فإننا بكل القوة نهاجم الفساد ولصوص الخمسة نجوم .. والإرهاب والفساد عملة واحدة صدرت عن الحكومة ومن انجازاتها ..
أخيرا
ما الذى حدث لمصر بعد 16 عاما من نشر هذا المقال ؟
كتبت هذا المقال والعشرات من أمثاله فى التسعينيات أهاجم الفساد والاستبداد بالتوازى مع مهاجمة التطرف والارهاب ، وأعانى من عسف الأمن وتحرشات المتطرفين وتهديداتهم . ثم اضطرونى للهجرة والتشرد فأحسست فى أمريكا لأول مرة بمدى الحقوق التى كانت مسلوبة منى ، وبمدى الظلم الذى تحملته وصبرت عليه ، وبمدى احترام الغرب للانسان وحقوق الانسان ، ومدى حلاوة الديمقراطية والنزاهة والشفافية .
ولكن لا زلت أحمل مصر وجعا لا يفارق القلب .
ولكن ماذا نفعل سوى الحسرة ..ونحن نقارن ماكان يحدث وقت كتابة هذا المقال بما يحدث الآن فى عهد الوريث ..
لقد ظهر الفساد ثم عمّ وانتشر وساد ، ووصل الى النخاع ، لا فارق بين الحاكمين والرعاع . والأخلاق العشوائية أصبحت هى القاعدة المرعية من الحوارى الى الأحياء الارستقراطية ، ومن خطاب المثقفين الى الأغنية الشعبية ..
أصبحت تكلفة الاصلاح فوق الاحتمال ، فالمريض لا يحتمل العملية الجراحية الضرورية ، ولم تعد تجدى فى علاجه المسكنات الوقتية..ومرض السرطان لا سبيل للنجاة منه إلا بالموت ..
وهذا هو ما آلت اليه مصر منذ أن ركبها العسكر .
ولا حول ولا قوة إلا بالله العلى العظيم .
أخر السطر :
من ملامح الأمة المؤهلة للهلاك أنها تكره الناصحين ، وبعد هلاك قومه من الطغاة وأتباعهم وقف نبى الله صالح عليه السلام يتحسر على ما تبقى من أشلائهم وهو يقول : ( يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلَكِن لاَّ تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ)( الأعراف 79 ).
ودائما ـ صدق الله العظيم ..