لكل نفس بشرية جسدان (2 ) : شياطين البرزخ وعلاقتها بالنفس

آحمد صبحي منصور في الأربعاء ٢٢ - سبتمبر - ٢٠١٠ ١٢:٠٠ صباحاً

 مقدمة :

1 ـ كالعادة ، أبحث موضوعا قرآنيا أتصور أن ستكفيه مقالة بحثية ، وطبقا للمنهج البحثى أسير خلف الآيات أتعلم فأكتشف معلومات لم أكن أعرفها برغم معايشتى للقرآن  الكريم من أربعين عاما . وأواصل البحث فيتشعب وتتكاثر المقالات لتصبح سلاسل ، أظلّ معها الى قبيل النهاية ، ثم يأتى موضوع جديد فتتكرر السلاسل غير المكتملة ، وأرجو أن يتسع العمر لاكمال تلك السلاسل القرآنية . وإن لم أكملها فالأمل فى أهل القرآن ، أو على الأقل فان ما تبقى من أى سلسلة هو من قبيل التفصيلات و&Cc;الشروح.

2 ـ هذا يؤكد أنك كلما أعطيت القرآن من عقلك ووقتك وقلبك أعطاك علما لم تكن تعرفه من قبل  ، وأحسست بمقدار جهلك كلما تعمقت فى فهم كتاب الله عز وجل ، الذى هو أعظم من أن تحيط به عقول البشر ، ولكنه فى نفس الوقت ميسّر للذكر والهدى لمن أراد الهدى مخلصا لله  جل وعلا قلبه ، ففى القرآن يسر وبساطة لمن يريد الهداية ، وفيه مجال للتعمق يعرفه من وهب عمره للقرآن الكريم ، وكلما بحث فيه اكتشف وتعلم المزيد .

3 ـ أما الضالون المضلون فقد استراحوا الى جهلهم واستراح اليهم جهلهم. غاية ما يفعلون أن ينقلوا ما كتبه السابقون فيما يسمى بكتب التفاسير ، ولا يسأل احد إذا كانت كتب ( التفسير) تلك تكفى وإذا كان أئمة العصرين العباسى والمملوكى هم المرجعية المعتمدة إذن فما الداعى الى وجود تلك العمائم وتلك المناصب وتلك اللحى وتلك الكليات وتلك الأجسام الضخمة والأصوات الفخمة التى تقتحم على الناس بيوتهم فى الفضائيات والاذاعات تنقل ما هو مكتوب من مئات السنين ؟

4 ـ بدأت بحث ( لكل نفس بشرية جسدان وليس جسدا واحدا) بمقال اعتقدت أنه يكفى ، فجاءتنى اسئلة ترجو الاجابة ، فرجعت للقرآن الكريم ورددت على المتسائلين بأننى سأكتب ثلاث مقالات إضافية للرد ، ولكن ـ كالعادة ـ اتضح أنه موضوع سيطول ، ولا أعرف متى سأنتهى منه ، فلا زلت أتعلم ، وأكتب فقط ما أتوصل اليه . والواضح حتى الآن أن أبدأ بجذور الموضوع فى هذا المقال ، ثم بعدها بتعريف المصطلحات ( النفس ، ذات الصدور ، القلب والفؤاد ) لكى أدخل بعدها فى آلية العلاقات بين النفس والجسد الأزلى بين الدنيا والآخرة . وقد يستغرق هذا شهورا حسب الظروف ، والله جل وعلا هو المستعان .

أولا : شياطين البرزخ وعلاقتها بالنفس

الشيطان كائن حقيقى ، ولا بد للمؤمن أن يؤمن بوجوده ضمن مفردات الايمان بالغيب الذى  يتضمن الايمان بالعوالم غير المادية المذكورة فى القرآن الكريم مثل الجن والملائكة والشياطين وأبيهم ابليس . والشيطان هو المؤثر الفاعل فى تاريخ الانسان وحركته فى هذا الكوكب وفى تلك الحياة الدنيا .

 القرين :

1 ـ والانسان الذى يتبع ابليس وجنده من الشياطين يقيض الله جل وعلا قرينا من الشياطين يلتصق به ويؤكد له الغواية  ، ويسيطر على نفسه أو قلبه يزين له الحق باطلا والباطل حقا ، ويقنعه انه على الهدى مع انه ضال .

يقول جل وعلا : (  وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُم مُّهْتَدُونَ  ). أى إن الهداية هى فى القرآن وفى ذكر الرحمن الذى تطمئن به القلوب ، وبه ينجو الانسان من سيطرة الشيطان عليه ، فإذا عشى بصره عن رؤية نور القرآن أصبح قلبه ـ أى النفس ـ خالية لكى يحتلها ويسيطر عليها الشيطان ، لذا يقترن به شيطان يركبه ويتخصص فى اضلاله .

2 ـ ولا يمكن للانسان فى هذه الدنيا أن يرى ابليس والجن والشياطين وذلك القرين ، كما لا يمكن له أن يرى الملائكة ، فكل أولئك (القبيل ) لا يمكن رؤيتهم وانت فى جسدك المادى، يقول جل وعلا عن ابليس (إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لاَ تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاء لِلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ  ) ( الأعراف 27 )

هم ينتمون الى عالم البرزخ الذى توجد فيه النفس قبل مولد صاحبها ، والذى تعود اليه النفس مؤقتا بالنوم ، ثم تعود له نهائيا بالموت . وفى يوم القيامة يكشف الغطاء بعد زوال الجسد البشرى ، ويأتى كل انسان يصحبه من كانا من قبل يسجلان أعماله ( رقيب وعتيد)  ليكونا يوم القيامة ( سائق وشهيد) ، أحدهما يسوقه والآخر يشهد له أو عليه بسجل أعماله . يقول جل وعلا : (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنتَ مِنْهُ تَحِيدُ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ لَقَدْ كُنتَ فِي غَفْلَةٍ مِّنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ  ) ( ق 16 : 22 ).

3 ـ الخاسر يوم القيامة يفاجأ برؤية قرينه الشيطانى الذى كان يضله فى الدنيا ، فيتمنى أن لم تكن بينهما علاقه، يقول جل وعلا:(حَتَّى إِذَا جَاءَنَا قَالَ يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ ). ولنقرأ ما ما قبلها لاستكمال الصورة:( وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُم مُّهْتَدُونَ  حَتَّى إِذَا جَاءَنَا قَالَ يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ )( الزخرف 36 : 38  ).

وفى سورة (ق ) يتبرأ القرين الشيطانى من قرينه الانسانى :(وَقَالَ قَرِينُهُ هَذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ مَّنَّاعٍ لِّلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مُّرِيبٍ الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَأَلْقِيَاهُ فِي الْعَذَابِ الشَّدِيدِ قَالَ قَرِينُهُ رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ وَلَكِن كَانَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ قَالَ لا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُم بِالْوَعِيدِ مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَا بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ)( ق 23 :  29).

وفى إيجاز وإعجاز يقول جل وعلا عن القرين الشيطانى لكل من يصمم على الضلال : (وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاء فَزَيَّنُوا لَهُم مَّا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِم مِّنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ ) (فصلت 25  ) .

المقصود أنه لا بد لوعاء النفس أن يمتلىء ،إن لم يمتلىء بالخير والنور و الهدى إمتلأ بالضلال بفعل الشيطان ، أو القرين المقترن بالنفس .

دور القرين الشيطانى فى الاضلال :

1 ـ القرين الشيطانى المسيطر على الانسان الضال يقيم حائلا بين حواس الانسان وبين الحق ، فيسمع باذنه كلام الله والهدى ، ولكن تتكون بالقرين الشيطانى حجاب أو أكنّة أو (غلف ) تمنع وصول الهدى الى قلبه أو نفسه . يقول جل وعلا : (وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِّمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِن بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ )(فصلت 5  ).

وتتعاظم تلك الحجب والأغلفة و الأكنة فى مواجهة نور القرآن لتمنع وصول معناها النورانى  للقلب الضال الذى زاده الله جل وعلا ضلالا ، يقول تعالى : ( وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ حِجَابًا مَّسْتُورًا وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلَى أَدْبَارِهِمْ نُفُورًا)(الاسراء 45 : 46 ) .

لذا فطالما تحكم القرين الشيطانى فى انسان فلا فائدة فى هدايته ، يقول جل وعلا :( وَإِن تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لاَ يَتَّبِعُوكُمْ سَوَاء عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنتُمْ صَامِتُونَ )( الأعراف 193 )، فقد زين له القرين الشيطانى سوء عمله فرآه حسنا ، فتركه الله جل وعلا للشيطان يزيده ضلالا ، وأصبحت هدايته مستحيلة : (أَفَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَن يَشَاء وَيَهْدِي مَن يَشَاء فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ ) ( فاطر 8 ).

2 ـ وهنا يختلف الأمر بين الجسد والنفس لدى الانسان الضال ، فهو عضويا وجسديا يقرأ القرآن ويسمع هداه ، ويسمع النصائح بالهدى ،أى يرى بعينيه ويسمع بأذنية ، ولكنه لا يسمع ولا يرى بنفسه ،أى لا يصل صوت القرآن الى قلبه ، ولا تصل أنوار الهداية الى نفسه بسبب ذلك الحاجز أو الأكنّة أو القلوب الغلف ، واحسن تعبير على تلك الحالة قوله جل وعلا : ( وَإِن تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لاَ يَسْمَعُواْ وَتَرَاهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ)( الأعراف 198 )  3 ـوبالتالى فهناك فريقان : أحدهما اختار الهداية فأصبح القرآن له زيادة فى الهدى والشفاء معنويا للنفوس، والآخر أختار الضلالة فزاده الله ضلالا وأصبح القرآن لهم وقرا فى آذانهم و عمى فى عيونهم : ( قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُوْلَئِكَ يُنَادَوْنَ مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ  ) ( فصلت 44 )، ولذلك يقول جل وعلا عن القرآن أنه هدى للمؤمنين ويزيد الضالين ضلالا : (وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاء وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ وَلاَ يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلاَّ خَسَارًا ) ( الاسراء 82 ).

 الوحى الشيطانى وشياطين الانس أو: أولياء الشياطين                                          

1 ـ وأشد البشر ضلالا هم المضلون محترفو الاضلال ، أو مبتدعو الأديان الأرضية و المروجون لها ، الذين يفترون أو يذيعون أكاذيب ينسبونها لله جل وعلا ولرسوله على أنها وحى الاهى ،أو أحاديث قدسية أو نبوية بزعمهم . أولئك أعداء الأنبياء ، وقد جعل الله لكل نبى عدوا ، وأخبر بذلك فى القرآن الكريم فى حياة خاتم النبيين عليه وعليهم السلام ، وكان ذلك فى مكة ، وتحقق ذلك بعد موت النبى محمد عليه السلام فيما نسبوه له من اقاويل شفوية ثم كتبوها فى العصر العباسى ، أى أنبأ الله جل وعلا مقدما أن هناك عدوا قادما لخاتم النبيين :(  وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاء رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ ) ( الأنعام  112 ) ، وتحقق قوله جل وعلا ، فكل أئمة السّنة و الشيعة و الصوفية من مدعى الوحى الالهى هم عدو لخاتم المرسلين . ونظرا لخطورتهم فقد أسماهم رب العزة ( شياطين الانس ).

2 ـ وهم جميعا أولياء الشياطين الذين يزيفون دين الله جل وعلا، والله تعالى يقول : (إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاء لِلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ ) وهم فى ضلالهم يرتكبون الفاحشة و ينسبون فعلها للشرع الالهى ظلما وعدوانا : (وَإِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً قَالُواْ وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاء أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ ) كل ذلك لأنهم ( اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاء مِن دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُم مُّهْتَدُونَ  ) ( الأعراف 27 : 30 ).

ومنهم من يتلقى الوحى الشيطانى وأوامر الشيطان ليجادل المؤمنين ، ومحرم  على المؤمنين الانسياق الى الجدال معهم ( وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ )( الأنعام :  121)

الوحى الالهى و الوحى الشيطانى .

وقلنا من قبل أن هناك وحيان فى مجال الدين : وحى الاهى من الله جل وعلا للأنبياء ، ووحى شيطانى تتأسس به الأديان الأرضية . ومن هنا يقول جل وعلا عن القرآن الكريم :(وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ وَمَا يَنبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ ). ثم يثقول عن وحى الشياطين : (هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَن تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ )( الشعراء  210 : 212 ، 221 : 223).

أى تم تحصين الوحى الالهى من تدخل الشياطين بقوله سبحانه وتعالى:(إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ   لمَعْزُولُونَ ).  بل تم منعالشياطين والجن من استراق السمع وقت نزول الوحى القرآنى : (إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ وَحِفْظًا مِّن كُلِّ شَيْطَانٍ مَّارِدٍ لا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلإِ الأَعْلَى وَيُقْذَفُونَ مِن كُلِّ جَانِبٍ دُحُورًا وَلَهُمْ عَذَابٌ وَاصِبٌ إِلاَّ مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ) ( الصافات 6 : 10  ).

المسّ القرآنى والمسّ الشيطانى

1 ـ وهذا الوحى القرآنى المحفوظ بقدرة الله جل وعلا يستلزم قلبا خاشعا كى تصل اليه أنواره الهادية ، وبالتالى لا بد للمؤمن أن يستعيذ بالله جل وعلا قبل قراءة القرآن ، وبها يتأهب قلبه  لقبول الهدى وتتتخلص من وساوس الشيطان وهمزاته: (فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ ) ويقول جل وعلا يؤكد أنه بالاستعاذة بالله من الشيطان لا يكون له سيطرة على قلب المؤمن (إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ) لأن سيطرته الحقيقية لمن اتبع الضلال ووقع فى ظلم الله جل وعلا بالشرك فتولى ووالى الشيطان (إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُم بِهِ مُشْرِكُونَ  ) ( النحل 98 :  ).

2 ـ ووصول الهدى القرآنى للقلب يعبر عنه رب العزة بالمسّ. يقول جل وعلا يقسم أعظم قسم : (فَلا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَّوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ فِي كِتَابٍ مَّكْنُونٍ لّا يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ تَنزِيلٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ  ) ( الواقعة 75 : 80).

 المطهرون هنا من تطهر قلبه من الشرك والكفر ، ولكونه طاهرا أصبح مؤهلا لأن تمسه هداية القرآن الكريم .

3 ـ ( المطهرون ) من الطهر ، وضده فى المعنى ( الرجس ) الذى يقع فيه المشركون :(وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يَعْقِلُونَ ) ( يونس 100 ) (فَمَن يُرِدِ اللَّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاء كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ ) ( الأنعام 125 )

والرجس هووصف أيضا لآلهتهم الحجرية من أصنام وأضرحة وأنصاب وقبور مقدسة ، وهذا ما نهى رب العزة المؤمنين عنه (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ) ( المائدة 90 )، والمؤسف أن معظم المسلمين فى أديانهم الأرضية يقدسون ذلك الرجس فيما يعرف بالمشاهد و الأضرحة وسائر القبور أو ( العتبات المقدسة ) فهل هناك خبل أفظع من تقديس الرجس ؟

ويقول تعالى : (فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ ) (الحج 30 ).أى فالرجس نوعان : رجس مادى هو الأحجار المقدسة من صنم أو قبر أو شجر أو شمس او كواكب ، والنوع الآخر هو قول الزور ، أى الافتراء على الله جل وعلا ورسوله ونسبة أقوال مزورة للوحى الالهى مثل كتب البخارى والشافعى ومالك ..الخ . وهذا الرجس ايضا يقع فيه معظم المسلمين فى أديانهم الأرضية .

4 ـ وكما أن القرآن يمسّ القلوب المطهرة فتزداد هدى: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ   ) ( الأنفال 2 ) ، فإن الشيطان أيضا ( يمسّ ) القلوب المشركة المظلمة فيزيدها ضلالا، وبتلاوة القرآن أو الاستشهاد به يزدادون طغيانا وكفرا (  وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنكَرَ يَكَادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا  ) ( الحج 72 ) (وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِّنْهُم مَّا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا   ) ( المائدة 64 :  68 )، والمسّ الشيطانى هو المسئول عن هذه الحالة ،فهو يزرع  الاضلال والضلال  فى قلب المشرك مقابل المسّ القرآنى الذى هو شفاء ورحمة وهداية للمؤمنين ذوى القلوب التى تطهرت من عبادة الطاغوت .

لذا فإن المسّ الشيطانى لا ينجح مع المتقى الذى يستعيذ دائما ومخلصا بالله جل وعلا من الشيطان ، بينما ينجح مع إخوان الشياطين : (وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيم إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَواْ إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ ثُمَّ لاَ يُقْصِرُونَ  ) ( الأعراف 200 : 203 ). 

اجمالي القراءات 27116