زيارة السيدة العجوز ..!

آحمد صبحي منصور في الثلاثاء ١٤ - سبتمبر - ٢٠١٠ ١٢:٠٠ صباحاً

.في أواخرعصر السادات كنت أذهب إلى إحدى الكليات الإقليمية التابعة لجامعة الأزهر لإعطاء محاضرات ، وكانت تقع في قرية بى العرب محافظة المنوفية ، ولكنها – أي الكلية – كانت تحتل مباني رائعة على الطريق السريع ، وقد اعتدت بعد الانتهاء من المحاضرات أن انتظر أتوبيس القاهرة أمام مبنى ريفى قديم مجاور للكلية عليه لافتة تقول انه جمعية زراعية ، كان يذكّرنى بمبنى الجمعية الزراعية فى قريتى بمحافظة الشرقية ..

.وفي إحدى المرات لاحظت أن مبنى الجمعية الزراعية قد ب&Iu;دأ طلاؤه باللون الأصفر، ثم بعدها لاحظت أن اللافتة المكتوب عليها عبارة الجمعية الزراعية قد تزحزحت إلى مكان بعيد يتوارى عن الأنظار وحل محلها لافتة جديدة تعلن أن المبنى هو جمعية للرعاية الاجتماعية..

وبدا لى في الأمر نوع من الغرابة ..

.وفي الأسبوع التالي فوجئت بلافتات الترحيب ترفرف على الطريق السريع قبل البلدة ، وتتكاثف بجوار مبنى الكلية وفوق مبنى الجمعية الزراعية الذي أصبح مبنى للرعاية الاجتماعية وقرأت في اللافتات أن سيدة مصر الأولى – جيهان السادات وقتها – ستأتي بعد أيام لتفتتح مبنى جمعية الرعاية الاجتماعية !!

.وتحول درس التاريخ الإسلامي في الكلية – إلى ندوة ألقيتها أوضحت فيها للطلبة عراقة البيروقراطية المصرية في فن النفاق وإقامة المواكب والموالد والاحتفالات قبل وبعد الثورة المصرية ، وكم من مشاريع وهمية وضعوا من أجلها أحجار الأساس وصوروا في سبيلها الأفلام والنشرات وكل ذلك لمجرد إقامة المواكب والاحتفالات ، ثم اعتادوا نسيانها ليظل حجر الأساس شاهد مأتم على موت الضمير.

. وكان عميد تلك الكلية يبدو على قدر من علو الهامة والاعتزاز بالنفس بحيث كنت اعتبره مختلفا عن باقي الأساتذة في نفس الجامعة . وكنت أحترمه من اجل ذلك ، وجال بخاطري أن اجلس معه ونتندر على ما يحدث بجوار الكلية من افتتاح خطير لمبنى قديم واستقدام سيدة مصر الأولى – وقتها – لقص الشريط ،  بينما الموضوع كله لافتة وطلاء اصفر ، والتكلفة لهما لا تتعدى عشرات الجنيهات , أما تكلفة حفل الافتتاح فهو ألوف الجنيهات . وجلست مع العميد وبدأت في الحديث ففوجئت به يسكتني باشارة من يده ، وهو ينظر حوله خائفا .. !!

.وبدأت الاستعدادات لقدوم سيدة مصر الأولى – وقتها – تجري على قدم وساق , وكان يواكب تلك الاحتفالات تطور هام بدا في الظهور على شخص عميد تلك الكلية ، إذ اختفت البسمة وظهر مكانها الشعور بالأهمية والسيطرة ، وبدأ واضحا أن سيادته يريد أن يرفع راس الجامعة عاليا في ذلك الموكب الرخيص . وبدأت نظرتي نحوه تتغير، وأصبح لا يختلف في كثير أو قليل عن باقي الموظفين المنافقين الذين كثر تواجدهم حوله استعدادا لتلك المناسبة  .

.ودخلت المحاضرة ففوجئت بالطلبة يخبرونني أنهم لن يحضروا غدا لأن الدراسة في الكلية ستتعطل احتفالا بقدوم سيدة مصر الأولى – وقتها – . ودخلنا في مناقشة ديمقراطية مفتوحة , انتهت بموافقة الطلبة على رأيي في انه من الامتهان لكرامتهم أن يشاركوا في ذلك الاحتفال أو أن يتركوا الدراسة في سبيله ، واتفقنا على أن يحضروا المحاضرة غدا لنثبت للجميع أن هناك في مصر رجالا يرفضون النفاق .

.ودخلت على العميد لأخبره بالقرار الجديد , وقد عزمت على أن تكون لهجتي معه رسمية , فغدا ليس أجازة ، وإنما هو يوم عمل ، وتعطيل الدراسة فيه لا يتفق مع شرف الجامعة ولا مع شرف الأساتذة ولا العلم . وتركني العميد أتكلم قليلا , ثم قال لي : ومن قال لك أننا سنوقف الدراسة غدا ؟ ومن قال لك أنني سأحضر ذلك الموكب ؟

.وسعدت سعادة بالغة  ، ولكن خفت أن يتراجع العميد عن قراره فذهبت للطلبة وأخبرتهم بموقف العميد , وجاءوا معي إلى مكتب سيادته , وكان قد تجمع فيه بعض الأساتذة , وكان العميد يؤكد لهم بصوت عال أنه لن يحضر ذلك الموكب غدا مهما يحدث . واعترض على ذلك القرار المفاجئ بعض الأساتذة وذكروه بأن منصبه يحتم عليه أن يكون في شرف استقبال سيدة مصر الأولى ، وأن غيابه عن الموكب سيكون ملحوظا وسيفتح الباب أمام تأويلات وتخرصات لا داعى لها ، ولكن ستنال من مكانته على الصعيد الرسمى . وكنت على وشك أن أتدخل لتأييد موقف العميد وحفاظه على كرامته وكرامة الجامعة التي يمثلها , لولا أن سيادته قال بصوت متهدج : أيرضيكم يا أساتذة أن احضر ذلك الموكب وهم لم يوجهوا إلي الدعوة ؟ بينما أرسلوا الدعوات إلى ناظر المدرسة الابتدائية المجاورة , والمشرف الزراعي وسائر الموظفين عنده ؟    ..

وبدا على وشك البكاء !!

.وتبادلت مع الطلبة نظرات الحسرة .   وانصرفنا .

وسألني الطلبة : ترى هل سيحضر العميد ذلك الحفل ؟ قلت لهم : نعم .. مهما ذرف من دموع !! .

.وفي اليوم التالي كنا في المحاضرة عن نفاق البيروقراطية المصرية بينما وقف السيد العميد ومعه السادة الأساتذة جميعا في الصف الثاني ينتظرون موكب الست ، يرفعون لافتات الترحيب و التأييد للست جيهان سيدة مصر الأولى ـ وقتها.

.وقلت للطلبة : وتعجبون من سقمى  ؟

                     صحتي هي العجب !!           

اجمالي القراءات 15047