هل رأيتَ جرّاحًا يدخل غُرفةَ العمليات، ثم يُشعل سيجارةً، وينفث دخانـَها في الهواءِ وهو يتأمله، والمريضُ يصرخ من الألمِ، ويبكي من الوجعِ، ويصيح من اليأس، ثم يطلب منه الجرّاحُ تفويضًا مُوَقـّعًا لتقديمِه إلىَ إدارة المستشفى لكي تجيز له القيامَ بالعملية؟
رائعٌ جدًا أنْ تغضب لحـُرمةِ أسرتِك، ولشرف ابنتـِك، لكن الأروعَ أنْ يحترق جهازُك العصبيّ لشرفِ أمةٍ من أعرق أمم الأرضِ ˜رضِ يغتصبها أمامك، وفي كل لحظة، أحَطّ المخلوقات، وأسفل الطغاة، وأنذل لصوص عرفهم تاريخُ مصر.
الشائعات الفيسبوكيةُ الجبانةُ التي أطلقها كلابُ النظام كانت شوكةً صغيرةً لجسّ النبضِ، أما هدْمُ المعبدِ علىَ مَنْ فيه فهو مؤجَلٌ إلىَ حين، ومبارك الطاغيةُ لا يمزح، وكان ينبغي لك أنْ تَدْرُس تجربةَ الدكتور أيمن نور، ثم تعرّج على شراسةِ النظام مع مجدي أحمد حسين، وحتى تجربة الدكتور عبد الحليم قنديل الذي اختطفه الأوغادُ لتلقينه درساً في الصحراءِ، فالكبارُ لا ينزلون ساحةَ المبارزةِ كالفرسان النُبلاء، لكنهم يفترسون كالذئابِ المسعورة.
أنْ تطالب الشعبَ بعدم الذهابِ إلى صناديق الانتخابات البرلمانيةِ فهو أمرٌ هـَيّنٌ لأن عصابةَ التزييف والتزوير قادرةٌ علىَ الإتيان بصناديق جاهزةٍ، ومختومةٍ، ومغلقةٍ بالشمع الأحمر كأنها كانت في أحضانِ أعضاءِ لجنةِ الرقابة.
أنْ تطالب الشعبَ بمقاطعة الانتخابات الرئاسية فسيفتح العفريتُ القمقمَ بنفسِه، وسيخرج لتقديم مبارك أو ابنه للعالم كفائزٍ وحيدٍ بعد خروج مليونين أو ثلاثة ملايين من المغيَّبين من شبيبةِ الحزب الوطني الحاكم يهتفون بالروح والدم للطاغية الكبير أو .. الصغير!
أخاف عليك من مُصارعة الضباعِ، وأخاف على شعبـِنا من ثقتك الكبيرة بأنَّ التغييرَ قادمٌ لا محالة، فالجائعون قادرون على الصبر عقدين آخرين لو وضعتَ في أفواهِهم فِتاتَ طعامِ لصوص الوطن.
لكن كلَّ الدلائل تـُشير إلى اكتمال أعفن عمليةِ نقل ملكية وطن من ديكتاتور إلى ابنه بدعم أمريكي إسرائيلي شريطة وقوف مبارك مع واشنطون وتل أبيب في الحرب القادمة، وفي الحقيقةِ فإنَّ طاغيةَ مصر لا يحتاج إلىَ شروطٍ لأنه يَعْرض خدماته علىَ قوَىَ الاستعمار كما كان المتعاونون يعرضونها بالتبرعِ لتسليم الوطنيين أو الابلاغ عنهم.
وحتى لو وافق مبارك على التغييرات فالأمرُ يحتاج لعامين من المداولات، وموافقة مجلسي الشعب والشورى، ثم الدعوة لاستفتاء، واللعب في الوقت الضائع وحينئذ يكون الطاغيةُ الصغيرُ قد خـَدَّر الشعبَ ببعض القوانين المُسـَكـِّنةِ للآلام، ثم يتضاعف رجالُ الأمن ليبلغوا مليونين أو أكثر.
لم يبلغ نبضُ الشعب درجةً من الوضوح والعـُلُوّ كما حدث منذ وصولـِك للمرة الأولى، وإذا خُضتَ بالمصريين البحرَ لخاضوه معك ولو غرق أكثرهم، لكنك كنتَ، ولازلت، تتحرك بقوةِ دفع مؤيديك حتى عندما اعتذرتَ عن اللقاءِ في الولايات المتحدة مع الجالية المصرية، ثم وافقت علىَ مَضَض، وفي لندن اشترطتَ أنْ لا تكون قاعةُ لقائـِك بالمصريين كبيرةً، وأن لا توَجَّه الدعوة لوكالات الأنباء والفضائيات.
الآن أعطاك مبارك، الذي تقول عنه بأنه لطيف ومُهذب ولا توجد معركة بينك وبينه، الإشارةَ الأولى، بالضرب تحت الحزام والتعرض لشرف أسرتـِك، لعلك تستعد لخوض اللعب مع الكبار، والمرة القادمة ستكون بحجم الدكتور محمد البرادعي، أي ربما تصفية جسدية من مختّل عقلي ( أي مرشد أمني أو مُسَجَّل خَطر)، وربما فضيحة أخلاقية فأوغادُ مبارك ماهرون في تلفيق قضايا التزوير.
لأول مرة أسمع منك كلمةً تثلج صدري وهي عن تهديدِك بأنك إذا حرَّضتَ الشارعَ المصري على العصيان المدني فستكون الأولىَ والأخيرة، وقد وضعَتْكَ هذه الكلمةُ في مواجهة النظام الذي لم يكترث لملايين التوقيعات، ولم تتحرك شعرةٌ في رأسـِه لمـَطـَالبـِك السبعة.
عزيزي الدكتور محمد البرادعي،
خصومُك هؤلاء أشرس من كلابٍ مفتِرِسة، ومبارك ليس له عَهْدٌ أو ذِمّة أو ميثاق أخلاقي، وينبغي أنْ تقفز الآن، وليس غدًا أو بَعْدَ غـَدٍ، علىَ كل المراحل السُلحفاتية التي تحرقك على المدىَ الطويل، وتستنفذ خلالها طاقةَ مُحبّيك، وتفلت منك المبادرةُ لو انفجرتْ الجماهيرُ لاسبابٍ أخرى خارجة عن إرادتـِك أو تخطيطـِك.
لا تجعل ثأرَك مع الطاغيةِ من أجل ابنتِك الكريمة فقط، فكلُّ مصري شريف له ثأرٌ مع مبارك، ولا تنتظر رَدَّ الفعلِ النهائي فاللعبُ معه ليس قائمًا علىَ قواعد أخلاقيةٍ يعرفها النبلاءُ، فَهُمْ ثـُلّة من الأوغادِ واللصوص والقـَتـَلة.
كما أنَّ الشعبَ معك فَثِقْ بأنَّ شعبـَنا المصريَّ يمكن أنْ ينقلب عليك بيّن عشيةٍ وضُحاها، فالذين خرجوا من أجل عبد الناصر، استقبلوا السادات لدىَ عودته من زيارة فلسطين المحتلة، وبعدها بعدة سنوات رفضوا الخروجَ في جنازتـِه عقب اغتياله في السادس من أكتوبر 1981!
الجماهيرُ عمياءٌ في كل عصر ومكان، وهي تلعن من كانت قبل نصفِ ساعةٍ تفديه بالروح والدَم، والذين وقفوا أمام شـُرفة قصر نيكولاي تشاوشيسكو في العاصمة الرومانية بوخارست يصفقون له هم أنفسُهم الذين مزّقوا حبالـَهم الصوتية وهم يصرخون بسقوطـِه في نفس اللحظة، و .. عيّن المكان!
الجماهيرُ لك وعليك، والشبابُ المتحمسُ لطـَرْق الأبوابِ من أجل توقيعاتٍ لتثبيت موقفـِك، سيخرجون عن بِكرة أبيهم بطالبون بطردِك من مصر إذا حرَّكتهم آلةٌ إعلامية جهنمية تنشر قصةً خياليةً محبوكةً، ومضافًا عليها تحبيشات دينيةٌ مقدسة!
أجهزة الاستخبارات الأمريكية والإسرائيلية وبعض أصدقاء النظام في الشرق والغرب يعملون على مَدّ روحِ نظام الطاغية، تمامًا كما فعلوا مع معظم طـُغاة العالم، لذا فالوقتُ ليس في صالحِك بالمـَرّة، حسبما أرىَ، وقد تكون ثقتُك الزائدةُ في الزمن لك أو عليك!
أما احراقُ المراحل كما يفعل كلُّ الثوار الذين انتصروا فهو الكَيُّ النهائيُّ والمفاجيء للاطاحة بأفسَدّ عائلةٍ حكمت أرضَ الكنانة منذ أنْ انتصب أبو الهول ليحرُس الأهرامات والتاريخَ ويُطِلّ علىَ المستقبل.
عزيزي الدكتور محمد البرادعي،
لا تنافس مبارك أو ابنـَه في انتخابات هزيلةٍ أنت أكبر منها، ولا تقف مُنتظِرًا صناديق الاقتراع في دولة غَرَسَ طاغيتـُها في كلِّ شِبْرٍ منها فسادًا ورِشْوة واحتيالا، ولا تنتظر أنْ ينحني الديكتاتور لمباديء الديمقراطية.
ربما يلجأ مبارك لأحد الحلول اللأخلاقية وذلك باشعال فتنةٍ طائفية تتناثر إثرَها أشلاءُ ضحايا المسلمين والأقباط، ليعلن أنه الوحيدُ القادرُ علىَ حماية الوطن من الحرب الأهلية أو التفتيت الطائفي، وربما يأمر أجهزةَ أمْنه بتلفيقِ تُهـْمَة قلبِ نظام الحُكم لعدةِ مئاتٍ من رموزٍ وقياداتٍ وطنيةٍ مصرية، أو يقوده الفكر ُالسَلطويُّ العفن إلىَ تفجير في أحد الأماكن الشعبية أو السياحية، فتخرج الجماهيرُ المغيَّبة تطالب بالثأر من أعداء الوطن الوهميين، ويصبح قانونُ الطواريء سيّفا علىَ كل حُلْمٍ مصري يفكر صاحبُه في الاطلالةِ على مستقبل مُشْرق لأم الدنيا.
لا أعرف ماذا يقول لك مستشاروك، ولا أفهم سببًا واحدًا لخطواتـِك التي تجعل الزمنَ بطيئًا وتراه أنت يجري، أو تجعله يقف فتظنه يلهث!
لا أشك لحظةً واحدةً في أنك تحب مصر حُبّاً جَمّاً، ولكن من يعشق فعليه أنْ يُصغي جيّدا لدقاتِ قلبِ مَنْ يهيم به صَبابة وعِشْقًا، فقد تكون ضربات قلبٍ يبادلك الحبَ، وقد تكون دقات قلبٍ مُعْتَلٍّ قبل أنْ يتوقف.
وأخيرا فالأمرُ في النهايةِ بين يديك، والفرصةُ لقيادةِ شعْبٍ لا تتكرر مرتين.
محمد عبد المجيد
رئيس تحرير مجلة طائر الشمال
أوسلو في 11 سبتمبر 2010
Taeralshmal@gmail.com