المجتمع المدني دولة أقامها النبي في يثرب التي أصبح أسمها " المدينة " ، وفي المدينة نزل القرآن دستورا للمجتمع المدني .ثم اندثر المجتمع المدني بقيام دولة الخلافة المستبدة ، وفيها تم تدوين التراث الذي يشرع للدولة الدينية الثيوقراطية ..
وتتعرض هنا لملمح سلطة الحاكم فى المجتمع المدني من خلال القرآن : هل من الشعب أم من الله ؟!
( 1 ) من ملامح المجتمع المدني أن الحاكم يستمد سلطته السياسية من الأمة أو الشعب ، أما في الدولة الدينية فإن الحاكم فيها يدعي أ& أنه يستمد سلطته من الله أو من السماء ، وذلك ما ساد في العصور الوسطى باسم الحق الملكي المقدس في أوروبا ، وفي عصر الخلفاء غير الراشدين باسم " الحاكمية " ونتساءل هنا .. ما هو موقف الإسلام والمسلمين من هذه القضية ؟
( 2 ) كان محمدا عليه السلام نبيا يضطهده قومه في مكة ، وكان من وسائل إغرائهم له أن عرضوا عليه أن يكون حاكما فرفض ، ثم اضطروه للهجرة ومعه المسلمون ، فأقاموا دولة جديدة مدنية في المدينة ، عمادها أولئك الذين التفوا حوله وآزروه بعد أن كان في مكة مطاردا معرضا للقتل والاغتيال ..إذن فقيام دولة المدينة كان بسواعد المؤمنين واجتماعهم حول النبي وإيمانهم به وحبهم إياه ، ولو افترضنا أن مشاعرهم تغيرت نحوه فانفضوا عنه وتركوه وحيدا لما أصبحت له دولة ولما كانت له سلطة ، ولعادت إليه قصة الاضطهاد والمطاردة التي كان يعانيها وهو بين أعدائه في مكة وقريش وبالتالي فإنه – عقلا - كان يستمد سلطته السياسية من أولئك الذين اجتمعوا حوله وساندوه . وهم يستطيعون التخلي عنه وتركه فيفقد سلطانه وتسقط دولته ..وبالتالي فإنه – عقلا – لابد أن يكون رءوفا رحيما بأولئك الذين تجمعوا حوله ، ولابد أن يتحبب إليهم وأن يجعلهم شركاء معه في الأمر لأنهم في الحقيقة مصدر ذلك الأمر ..
هذا ما يقوله العقل الواعي ..
( 3 ) وما يقوله العقل الواعي ليس بعيدا عن القرآن .. بل إن القرآن كله دعوة للتعقل واستعمال العقل " إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآَنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ: يوسف 2 " " إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآَنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ: الزخرف 3 " ولهذا فإنما يصل إليه العقل الواعي في موضوعنا هو نفسه ما يقرره القرآن . فالنبي كان على خلق عظيم . وكان بالمؤمنين رءوفا رحيما ، وذلك ما وصفه به ربه تعالى فقال عنه " وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ: القلم 4 " وقال عن رحمته بأصحابه " لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ: التوبة 128 " " يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ: التوبة 61 " . وهذا الخلق العظيم سجية أودعها الله في نفس النبي فكان بأصحابه لينا سهلا متواضعا ، يقول تعالى " فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ: آل عمران 159 "
" فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّه" أي بسبب رحمة الله ..
" لِنْتَ لَهُمْ " أي جعلك لينا سهلا متواضعا معهم ..
" وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ" أي لو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك عبارة واضحة لا تحتاج تفسيرا . ولكنها تحتاج إلى تدبر وتعقل ، بدليل أننا – نحن المسلمين – نقرؤها منذ أكثر من ألف عام ودون أن نتوقف مع مفهومها الواضح .. ومفهومها الواضح أنه لو كان فظا غليظ القلب لانفضوا من حوله ، وحين ينفضون من حوله فلن يكون له سلطان ، ولن يكون له ملك ، ولن تكون له سلطة سياسية أو دولة .ومفهومها الواضح أنه يستمد سلطته السياسية منهم ، من اجتماعهم حوله وحبهم له وإيمانهم به ، ولذلك جعله الله لينا معهم ، ولو كان غليظ القلب لتركوه وانفضوا عنه وانفض عنه السلطان والحكم والدولة ..
المفهوم الواضح أنه عليه السلام – باعتباره حاكما – كان يستمد سلطته السياسية من الأمة ، لأن الأمة هي مصدر السلطات ، وذلك ما اكتشفه البشر ونفذوه بعد نزول القرآن بعدة قرون .
هذا مع أن محمدا عليه السلام لم يكن مجرد حاكم .. بل كان نبيا حاكما .. ومع أن الوحي كان يأتيه من الله فأن هذه الصفة الفريدة لم تكن ركيزة لادعاء أنه يحكم بتفويض إلهي ، بل على العكس نزل نفس الوحي الإلهي يؤكد على النبي ويأمره بأن يكون سهلا ولينا حتى لا ينفض عنه أصحابه ويتركوه فيضيع سلطانه ، ويأمره بأن يعفوا عنهم إذا أذنبوا إليه ويغفر لهم إذا أساءوا ، وأن يستشيرهم في الأمر لأنهم معه أصحاب الأمر فإذا عزم على التنفيذ باعتباره سلطة تنفيذية فعليه أن يتوكل على الله في التنفيذ " فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ" أي أن الوحي نفسه هو الذي يقرر النبي الحاكم أسس الدولة المدنية ..
( 4 ) إن الركيزة الأساسية في استمداد السلطة السياسية من الناس في دولة الإسلام ، دولة النبي في المدينة هي قيام الدولة ونشر الدعوة على جهد البشر واستطاعتهم دون اللجوء إلى معجزات أو خوارق مستمدة من الله ..
وبغض النظر عما يحويه التراث من معجزات حسية للنبي وكرامات وخوارق لغيره من الأئمة فإن الحقيقة الناصعة في القرآن تنفي ذلك كله .
فأين تلك الخوارق من قيام الدعوة للإسلام على منهج عقلي واضح ؟ وأين تلك الخوارق في ذلك الحوار العقلي الذي يجريه رب العزة في القرآن مع البشر وأصنافهم من مشركين ومسلمين وأهل كتاب ؟ .
وأين تلك الخوارق من الآيات المتكررة التي تؤكد رفض إنزال آية حسية أو معجزة حسية اكتفاء بالقرآن الذي هو دعوة للتعقل ؟ .
يكفينا من تلك الآيات الكثيرة قوله تعالى في الرد على طلب المشركين آية أو معجزة حسية " وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آَيَاتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْآَيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (50) أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ ؟ : العنكبوت 50 " .
ثم أين تلك الخوارق في سيرة النبي وهو يؤسس دولته ؟ . أين هي من هجرته من مكة إلى المدينة ، وهي مجهود بشري من أوله إلى نهايته ؟ أين هي من غزواته التي انتصر فيها أو انهزم فيها تبعا لجهد أصحابه معه .. ؟
ثم أين هي من قوله تعالى " وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ: الأنفال 60 " أي هو الأخذ بالأسباب ، أسباب القوة بكل ما يستطيعه البشر ، أي لا مجال مطلقا للخوارق .. ومن هنا فإن البشر الذين يبذلون أقصى ما يستطيعون من قوة هم مصدر السلطات .. لأنهم الذين يبنون الدولة وهم الذين يحافظون عليها وهم الذين يسيرون أمورها .. وهذه هي الركيزة الأساسية في مصدرية السلطة .. والبشر هم مصدرية السلطة لأنهم هم الذين يقيمون الدولة وحركتها .. هذا ما يؤكده القرآن وما أدركه أخيرا – الإنسان ..
( 5 ) هذا في الإسلام ، ودولته المدنية التي أقامها على أرض الواقع خاتم النبيين محمد عليه السلام مع أصحابه .
ولكن منطق العصور الوسطى كان يخالف ذلك كله ، وكان بنفس القدر مع الدولة الكهنوتية وادعاء الحكم الإلهي المقدس ..
لذلك فإن التنكب عن سنة النبي عليه السلام الحقيقية وإقامة المملكة الكهنوتية وإرساء دعائم الحاكمية .. كل ذلك كان استجابة طبيعية لمنطق العصور الوسطى ، لذلك سقطت الدولة الإسلامية المدنية سريعا بعد حروب أهلية سميت بالفتنة الكبرى ، وقام الحكم الملكي الوراثي الأموي ، ثم العباسي .. ووقف الخليفة أبو جعفر المنصور يعلن منهجه في الحكم فيقول :" أيها الناس إنما أنا سلطان الله في أرضه وخليفته في خلقه .. " .. أي يحكم الناس بالتفويض الإلهي .. وبالتالي فإن من يعترض عليه يكون خارجا عن الدين ، وجزاؤه القتل بتهمة جديدة ابتدعوها هي حد الردة ..
وعلى نفس المنهج سار تاريخ المسلمين في الدولة الفاطمية والعثمانية والمملوكية .. إلى أن استيقظت مصر في نهضتها الحديثة .. ثم خرج علينا تيار التطرف بنفس مفاهيم العصور الوسطى ، مفهوم الحاكمية وأن الحاكم يستمد سلطته من الله ، ولا اعتراض عليه ولا اعتراف بخصومه أو بالآخر مطلقا .. ومن أسف أن هذه المفاهيم الغريبة عن صحيح الإسلام والتي لم يعرفها رسول الإسلام يلصقونها زورا بالإسلام العظيم .
ومن هنا فإن تدعيم مفاهيم المجتمع المدني ليس جهدا علمانيا وإنما هو في الحقيقة خدمة للإسلام الصحيح الذي ظلمه التطرف والإرهاب . وليس مثل الإسلام دين ظلمه أصحابه والمنتسبون إليه .