العرب وإسرائيل وصراع الديموغرافية

كمال غبريال في الأربعاء ٠٨ - سبتمبر - ٢٠١٠ ١٢:٠٠ صباحاً

تعبر كلمة "ديموغرافية" عن وضع السكان في المكان، لكننا في سطورنا هذه سوف نفصل بين عنصري المفهوم، أي بين كل من السكان والمكان الجغرافي، ونقصد ضمن ما نقصد الإشارة إلى ما يترتب على هذا الفصل من تمزق لكل من الطرفين، ولتلك العلاقة غير القابلة للفصل، والتي تجسدها كلمة "الديموغرافية".. فلا يوجد سكان بلا مكان، فحتى الموتى يحتاجون إلى مكان تُنصب فيه شواهد قبورهم، والمكان بلا سكان قفر لا يستدعي اهتماماً.. هنا بالتحديد يمكن أن نجد تصوراً لا بأس به للاشتباك الجاري Úcute;لى أرض فلسطين منذ ما يقرب من قرن من الزمان، ومازالت سخونته وتعقيداته تتزايد يوماً فيوماً.
نعم جاءت الحركة الصهيونية بسكان جدد، لتمكنهم من المكان الفلسطيني، إلا أن بقاء جزء من الفلسطينيين متمسكين بمواقعهم، وانتظار من هاجروا منهم في مخيمات محيطة بفلسطين، ثم تعاظم تناسل الفلسطينيين وتكاثرهم بمعدلات لا قبل للسكان اليهود بها، رغم استمرار سياسة استيراد اليهود من كل أنحاء العالم، هذا الوضع جعل امتلاك قوة السكان تكاد تكون امتيازاً وحكراً على الفلسطينيين.. في المقابل ورغم تمكن الفلسطينيين من جزء من المكان الفلسطيني، إلا أن المقدرة الفائقة للإسرائيليين على السيطرة على المكان وإحداث تغييرات عميقة فيه، وقدرتهم في أي وقت على اجتياح ما يشاءون من مكان والسيطرة عليه، كل هذا يجعل التحكم في المكان امتيازاً وحكراً على الإسرائيليين.. هكذا يتميز الصراع الفلسطيني الإسرائيلي عن أي صراع آخر على مستوى العالم، بذلك العمق المتمثل في التمزق الحادث في الديموغرافية.. ذلك الاستقطاب بين عنصرين يكونان بطبيعة الأمور مكوناً واحداً.
هنا أيضاً نجد التعادل أو التوازن، الذي يغري كل طرف من أطراف الصراع على التمسك بمناط قوته بثقة، رافضاً التنازل ولو عن قليل مما لديه، من أجل الوصول إلى حل للمشكلة أو بالأحرى التمزق.. كما يديم من الصراع ربما إلى الأبد، حقيقة عجز كل طرف عن تجاوز نطاق قوته في السكان أو المكان، بالانتقال إلى امتلاك جزء معتبر من نطاق قوة الثاني.. فأي زيادة في عدد سكان إسرائيل اليهود، لا يعد تغييراً ذا قيمة، مقارنة بمعدل تزايد الفلسطينيين، خاصة مع تفاقم معدل تزايد الفسطينيين داخل الخط الأخضر، أي فلسطيني 1948.. كما أنه ليس من المنتظر تزايد قوة الفلسطينيين العسكرية أو الاقتصادية، بحيث تزيد من مقدرتهم النسبية في السيطرة على المكان.. هكذا لا يتوقع أن يأتي المستقبل بجديد يخترق معادلة القوى الحالية، فكل ما يمكن أن يحدث هو تعاظم القوى حجماً، مع بقائها أسيرة نوعيتها لدى كل من طرفي الصراع.
العرب والفلسطينيون يجيشون قوتهم البشرية، باتجاه العداء المطلق والأبدي لشركائهم في المكان، لتطهيره منهم تطهيراً كاملاً.. ويطمع أقلهم طموحاً أو أكثرهم تسامحاً في اجتياح المكان الإسرائيلي بملايين من السكان العرب، بالمطالبة بما يعتبرونه حقاً قانونياً، بعودة ملايين اللاجئين الفلسطينيين إلى داخل إسرائيل، بل ووصل الأمر في اغترار عن جدارة بقدرتهم على التمكن من قوى السكان، المطالبة بدولة واحدة للعرب واليهود، متيقنين أن الغلبة لابد وأن تكون سكانياً للعرب، إن لم يكن اليوم ففي الغد القريب.
على الجانب الآخر يعتمد الإسرائيليون على المقدرة العسكرية والاقتصادية والعلمية والتكنولوجية، في تعظيم سيطرتهم على المكان، بزرع مستوطنات داخل الضفة الغربية، قادرة على حماية نفسها، كما هي قادرة على السيطرة اقتصادياً، بإنتاج محاصيل متميزة تصدر لأوروبا وسائر أنحاء العالم.. وتطمع إسرائيل في مد سيطرتها، ليس فقط على المكان الذي يحتله سكانها داخل نطاق دولة يهودية، بل أيضاً سيطرة عسكرية على الأقل، على الدولة الفلسطينية المنتظرة، لضمان حسن سير وسلوك سكانها، ما يترتب عليه أن تصير سيطرة الفلسطينيين على المكان الذي يحتلونه جزئية، أو كما نقول منتقصة السيادة.. هذا بالطبع بخلاف نجاح إسرائيل الفعلي في مد سيطرتها المكانية غير المباشرة إلى ما خلف حدودها مع دول الجوار، سواء بسياسة الردع الذي يمنع جيرانها من مجرد التفكير في نشاط يعوق سلام إسرائيل أو يهدده، مثلما تفعل مع سوريا ولبنان وغزة، أو عبر معاهدات مع دول الجوار مثل الأردن، ومعاهدتها مع مصر التي تنص على تحديد تسليح وتحركات القوات المصرية على أرض سيناء وسمائها وبحارها.
من هنا نستطيع أن نفهم الخط الأحمر الذي تضعه إسرائيل على أي محاولات أمريكية أو عالمية لوضع حدود لسيطرتها على المكان، في صورة محاولة منعها من إقامة المستوطنات وتوسيعها، رغم أنها مستعدة بالتأكيد للمقايضة عليها، نظير مكاسب من الطرف الآخر، كما فعلت في مستوطنات سيناء.
الأمر إذن بين إسرائيل والعرب أشبه بتبادل الردع النووي، فإسرائيل لن تستطيع في الحاضر أو المستقبل أن تصد أو ترد قنبلة العرب السكانية.. والعرب لا يبدو منهم أيضاً احتمال امتلاكهم لمقومات السيطرة على المكان، عبر القوة العسكرية والاقتصادية الموظفة توظيفاً علمياً، يتفوق على جدارة إسرائيل في هذا الشأن.. يعني هذا بلاشك أن انتصار أي من الطرفين على الآخر، أو فرض إرادته عليه كاملة هو المستحيل بعينه.. أيضاً لا يمكن أن تقوم في المستقبل حرب شاملة بين الطرفين، مادام كل منهما يعي جيداً استحالة تمكنه عن طريق الحرب، من إنزال خسائر يعتد بها في ترسانة مقابله.. تعرف إسرائيل جيداً أن ترسانة العرب السكانية غير قابلة للقهر عبر الحرب، وقد جربت هذا في حرب غزة، وعرفت انقلاب الرأي العام العالمي عليها ومحاكمتها على العديد من المنابر، لما أنزلته بالمدنيين من خسائر، وهي تلاحق اللإرهابيين الذي يتخذون من السكان دروعاً بشرية، ثم مواجهتها مع إرهابيي سفينة مرمرة التركية، والتي مازالت أصداء الإدانات لأحداثها تتردد في العالم.. العرب أيضاً وصلوا لسن النضج، ويعرفون بعد سلسلة حروبهم مع إسرائيل بداية من العام 1948، نتيجة محاولتهم التصدي لقدرات إسرائيل في السيطرة على المكان.. هكذا يسود السلام الإجباري القلق والمحتقن، في ظل توازن غير قابل للاختلال، ولا يتبقى من وسيلة للخروج من تلك الحالة، غير التفاوض للتوصل لسلام حقيقي ودائم.
يعني هذا أيضاً أن تكون مفاوضات السلام بين الطرفين عبارة عن محاولة للمقايضة، يلخصها ولو بابتسار شعار "الأرض مقابل السلام"، ونفهمها وفق تحليلنا هذا بأنها محاولة لإقناع إسرائيل بالتنازل عن جزء من سيطرتها على المكان، مقابل تنازل العرب عن توجههم العدائي الذي يتم به شحن وتجييش السكان العرب، تحت مسميات الحقوق التاريخية وتحرير الأرض المغتصبة، أو العداء الأبدي لأحفاد القردة والخنازير وما شابه من مقولات، ليتحول السكان لو تم هذا إلى بشر مسالمين، لا يشكلون تهديداً ولا خطراً على إسرائيل وسكانها.. هكذا سيتحول السكان العرب من قوة معنوية هجومية، إلى قوة دفاعية مادية، عبر الانشغال بالتنمية الاقتصادية لرخاء السكان.
الآن ونحن بصدد مفاوضات سلام بين الطرفين للمرة المائة أو الألف ربما، يمكننا في محاولة للإفلات من مسلسل الفشل الذي يبدو بلا نهاية أن نتساءل: متى تفشل المفاوضات ومتى يمكن أن تنجح؟.. تفشل المفاوضات متى دخلتها الأطراف، وكل منها يحاول أن يحقق على مائدتها ما لم يستطع تحقيقه ميدانياً، فتحاول إسرائيل مد سيطرتها على السكان بالإضافة لتلك التي لها على المكان، ويحاول الفلسطينيون مد سيطرتهم على المكان بالإضافة إلى سيطرتهم على السكان.. مقاربة عبثية كهذه تضع مقدماً نهاية محبطة لأي مفاوضات، وهو ما شاهدناه لعقود مضت، وما لابد وأن نشهده في المستقبل، إذا ما استمر الحال على ذات النحو.
تنجح المفاوضات فقط إذا ما دخلها الطرفان، وكل منهما يعي جيداً وبوضوح أنه يدخلها ليتنازل عن جزء مما يطلبه ومما لديه، ليقايض به بعضاً مما يفتقده.. أما إذا رأي الإسرائيليون أنهم غير مضطرين إلى التنازل عن جزء من سيطرتهم على المكان، مقابل تخفيض العرب لجحافل المعادين لليهود بنشر ثقافة السلام، ورأى الفلسطينيون أن التنازل عن جزء من مطالبهم المكانية تفريط في حقوقهم التاريخية، كما رفضوا تخفيض أو إزالة حالة العداء والكراهية التي يروجها الخطاب العروبي والمتأسلم، والذي يحول الجماهير إلى بحر من الكراهية تلطم أمواجه الجزيرة الإسرائيلية، باعتبار ثقافة السلام خيانة وخروجاً عن الثوابت المقدسة وغير المقدسة، وموالاة لأعداء الله الذين لابد من استمرار العداء معهم إلى يوم القيامة، فعبثاً تحاول القوى العالمية دفع الطرفين للجلوس معاً بزعم التوصل إلى ما يسمونه سلام دائم في المنطقة.. وهكذا لابد وأن يبقى الحال على ما هو عليه وإلى أبد الآبدين!!
توصلنا في هذه السطور إلى أن هناك نوعاً من التعادل بين طرفي الصراع، عن طريق امتلاك كل طرف نوعاً من القوة مختلفاً عن الآخر، كما أدركنا أن هذا الاستقطاب يؤدي إلى تمزيق "الديموغرافية"، بفصم العلاقة بين السكان والمكان، فإذا كان حل ذلك الصراع يبدو حتى الآن مستحيلاً، فأي طرف هو الأكثر تضرراً، وأيهما الأكثر استفادة من بقاء الحال على ما هو عليه؟
واضح أن الطرف الإسرائيلي المسيطر على المكان، لا يعاني في الحقيقة مشكلة التمزق الديموغرافي التي أشرنا إليها، فلدى سكانه أكثر مما يحتاجون من المكان، ويعيشون في رخاء يحسدون عليه من قبل الكثير من الشعوب، ولا يدفعون مقابل ذلك غير ضريبة محدودة، تتمثل في الشعور الدائم بالتهديد، ولا تواجههم حقيقة غير تحديات أو منغصات طفيفة، يسارعون بقمع وردع من يتجاسر عليها.. أما الطرف الفلسطيني بجيوشه البشرية المرابضة داخل الأراضي الفلسطينية وخارجها، فهو الذي يعاني سكانه تمزق الديموغرافية بافتقاد المكان، ليس فقط السيطرة العسكرية على المكان، لكن أيضاً مشكلة السيطرة بجانبها الاقتصادي، والكفيلة بأن تنقله من وضع لاجئ أو متسول للمعونات، إلى وضع ساكن ومواطن ينتج من المكان ما يوفر له مقومات الحياة.
هكذا يكون إصرار الطرفين على رفض مبدأ المقايضة على أساس تبادل التنازل الجزئي عما يمتلكه كل طرف، يصب في النهاية في صالح الطرف الإسرائيلي، الذي يغرم القليل نسبياً، مقابل الكثير الذي لا يحتمل الذي يغرمه الجانب الفلسطيني.. ليتبقى سؤال واحد هو:
هل يعي قادة العرب وأشاوسهم ومناضلوهم ومجاهدوهم هذا، أم من غير الوارد أن يعوا غير ما في رؤوسهم من هلاوس وشعارات وثوابت؟
ربما تكون الإجابة أنهم يعون هذا جيداً، لكنهم لا يكترثون!!
مصر- الإسكندرية

اجمالي القراءات 10044