معركة فاروق حسني على مقعد اليونيسكو لم تكن معركة مصر، بل كانت معركة نظام مبارك وكان مؤكدا من البداية أنها ستبوء بالفشل، رغم كل ما بذل فيها من أموال تقدر بعشرات الملايين من الدولارات، وما سخر من أجلها من جهود سياسية ودبلوماسية ودولية، ليتمخض المشهد في النهاية على الحقيقة والنتيجة التي طالما حاول نظام مبارك الهروب منها والتعامي عنها بعد أن أغوته وخدعته دبلوماسية مؤتمرات شرم الشيخ الإعلامية الفارغة التي اعتقد بعدها مبارك أنه بالفعل أصبح حكيم العالم، ليكتشف أركان نظامه أن كل هذه البروبجندا والأماني لا يمكن أن تبدد نظرة العالم لمبارك ونظامه الديكتاتوري السلطوي الفاسد.
لقد فشل نظام مبارك في اليونسكو لأنه زج بواحد من أقدم وجوهه وأسوأها على الإطلاق ظنا منه أن العالم سيجامله نظير تنازلاته الكبيرة التي تتغنى يها إسرائيل الآن، ونسي مبارك أن منظمة العلوم والتربية والثقافة لها خصوصية كبيرة، حيث يعتبر الكثيرون أن المعركة حولها هي معركة حضارية في المقام الأول، وهو ما أكدت عليه المرشحة النمساوية بينتو فيريرو فالدنر عندما أعلنت انسحابها الأحد الماضي وقالت: "أن "القيم الأخلاقية ومثل اليونيسكو هي على المحك خلال هذه الانتخابات".
فكيف يعتلي قمة منظمة معنية بالتربية والعلوم والثقافة شخص كان يتجسس ويكتب التقارير على الطلاب والدارسين عندما كان يعمل في الملحقية الثقافية المصرية في روما؟
كيف يعتلي قمة اليونيسكو أقدم وزير في نظام مبارك الذي لم يجر انتخابات حرة واحدة طوال تاريخه الطويل، وأقام حكمه على التزوير وقوانين الطوارئ وزوار الفجر والتعذيب والإخفاء القسري ومصادرة الصحف ووأد الأحزاب وإفساد الحياة السياسية وتمزيق أوصال الدستور، والانحراف بالتشريع القانوني، والسعي لتوريث البلد والحكم للأنجال، والاعتماد على دوائر الفساد وبيع ثروات مصر، والإعدامات السياسية الجائرة التي جاوزت في هذا العصر أضعاف عددها في كل تاريخ مصر.
نظام مبارك يعتقد أن هذا العالم الذي يتستر على هذه الجرائم لأسباب انتهازية ومصلحية هو أعمى وأصم لا يرى ولا يسمع ولا يسجل ما جرى ويجري، وأن هذا العالم يمكن أن يقبل في النهاية بأن يكون عضوا أساسيا في هذه العصابة المسئولة عن كل هذه الجرائم على رأس منظمة معنية بالقيم وبالتربية وبالثقافة في العالم؟ فماذا بوسع من خدم وترعرع في ظل هذه المنظومة أن يقدم للعالم؟
أذكر قبل ثمان سنوات عندما اختار ولي عهد هولندا الأمير وليام الكسندر ابن الملكة بياتريكس
الزواج من فتاة أرجنتينية هي ماكسيما التي أصبحت بالفعل زوجته وأم بناته الثلاثة، حيث اكتشفت الصحافة يومها أن والدها كان وزيرا للزراعة في عهد الدكتاتور الأرجنتيني الجنرال فيديلا، في عهد الحكومة البيرونية الثانية من عام 1976 إلى 1981 عندما ارتكبت الفظائع ضد الماركسيين، ورغم أنه كان وزيرا للزراعة ولم تكن له علاقة مباشرة بالقمع إلا أنه كان جزء من هذا النظام سيئ الذكر مما عقد موافقة البرلمان على هذا الزواج، وبعد أن تأزم الموقف تفتق ذهن الساسة والقصر الملكي عن حل تمثل في منع والد ماكسيما من حضور حفل زفافها.
فإذا كان هذا قد حدث في "جوازة" فكيف يقبل العالم بوزير في نظام مبارك الديكتاتوري يجلس على مقعده منذ 22 عاما ليكون على قمة التربية والثقافة والتعليم، وفاقد الشيئ لا يعطيه؟
أما محاولات النظام الآن بالتذرع بوجود مؤامرة قادتها أمريكا وبعض الجماعات اليهودية فهي محاولة للتملص من مواجهة الحقيقة، واستيعاب أسباب الفشل والفضيحة، وذلك بإثارة الشعور الوطني العام في مصر.
رغم أن أمريكا وإسرائيل فشلوا عام 2005 في أوج قوة إدارة بوش في إزاحة د. محمد البرادعي عن رئاسة الوكالة الدولية للطاقة الذرية وأعيد انتخابه للمرة الثالثة رغم معارضتهم بعد الدعم الكبير الذي حظي به البرادعي بعد دورتين على قمة المنظمة، رغم أن البرادعي نفسه لم يكن مرشحا لمصر عندما انتخب للمرة الأولى في ديسمبر 1997، بل زج نظام مبارك بمرشح مصري آخر في مواجهته وهو د. محمد شاكر الذي كان سفيرا لمصر في لندن، وقامت المجموعة الإفريقية بدعم د. البرادعي ليفوز في النهاية بأمانة الوكالة.
وفي انتخابات اليونيسكو قبل الأخيرة وقف نظام مبارك أيضا ضد المرشح المصري د. إسماعيل سراج الدين الذي دعم ترشيحه أكثر من 200 شخصية عالمية مرموقة ، منهم 30 شخصية حاصلة على جائزة نوبل، وكان يعد شخصية دولية لها رؤية متميزة ولم يكن محسوبا على النظام، ودعموا في مقابله مرشح السعودية.
فجزء كبير من الفشل يعود لطبيعة ونوعية المرشح فاروق حسني الذي لم يكن الشخص المناسب لتمثيل مصر ولا ثقافتها ولا قيمها العربية والإسلامية، التي يزدريها هذا الوزير، الذي انشغل طوال حملته بإراقة ماء وجهه في تقديم الاعتذارات والتنازلات، والتي عضدها بالدخول في معارك وهمية مع القوى الإسلامية والوطنية في بلده مصر، ومنح الجوائز لمن يتطاولون على ديننا ومقدساتنا لإرسال الرسائل للخارج بأنه المعادي للإسلام باسم حرية التعبير، وكان من الخداع عن أن يوصف بأنه مرشح العرب والمسلمين، فقد اعتلى اليونيسكو بالفعل السنغالي المسلم أحمد مختار امبو لثلاثة عشر عاما متصلة (من 1974 الى 1987) وكان زعيما يعتز بإفريقيته وبإسلامه وأدت مواقفه المؤيدة لقضايا العالم الثالث إلى اعتراضالولايات المتحدة على سياسته الثقافية فقاطعت اليونيسكو وحجبت عنها الدعم الماديحتى كادت تلك المنظمة تختنق، وجرى إسقاطه عام 1987 بفارق ثلاثة أصوات.
معارك نظام مبارك على المقاعد الدولية هي معارك فارغة، لأن قوة الدول ونفوذها لا تستمد من عدد موظفيها الذين يشغلون المناصب الدولية، بل بقوتها العسكرية والعلمية والاقتصادية ومستوي التعليم فيها وهو ما تخلفت فيه مصر حتى سبقتها دول كثيرة كانت تتقدمها مصر لعقود طويلة.
وماذا فعلت لنا المناصب القيادية التي نحصل عليها بالكوتة أو بتقسيم الأدوار وتبادل المقاعد مع المنظمات الإقليمية، فقد تولى المصري د. بطرس بطرس غالي الأمانة العامة للأمم المتحدة لفترة واحدة رفضوا بعدها التجديد له، وهو أرفع منصب دولي، ولم يأت بخير لا للعرب ولا للمسلمين ولا لمصر ففي عهده صدرت أقسى قرارات الحصار ضد العراق، وارتكبت أكبر المذابح في أفريقيا بين الهوتو والتوتسي في رواندا، وذبح المسلمون في قلب أوروبا في البوسنة والهرسك، وخاصة مذبحة سريبنيتسا التي ذبح فيها 8 آلاف مسلم في يوم واحد تحت نظر قوات الأمم المتحدة الهولندية بينما كانت سريبرنيتسا تحت حماية الأمم المتحدة. وماذا فعل البرادعي وماذا كان بوسع فاروق حسني أن يفعل طالما تنكب النظام نفسه الطريق وتراجع دور مصر الإقليمي والعربي والإفريقي والدولي.
هزيمة فاروق حسني كانت هزيمة لنظام مبارك ولأوهامه الفارغة ولتصوراته بأن الدور المصري يمكن بنائه بالمؤتمرات الإعلامية وأعمال السمسرة السياسية بعيدا عن إقامة التحالفات الحقيقة في الدوائر الطبيعية والتاريخية لمصر في محيطها العربي والإسلامي والإفريقي والتنمية الذاتية الاقتصادية والعلمية والتقنية، وكل هذا ينعكس على الدور الذي نريده لمصر.
مبارك قال لوزير ثقافته المنهزم "أرمي وراء ظهرك" وكأن شيئا لم يحدث، فطالما كانت مصر تدار كما تدار التكايا لا حسيب فيها ولا رقيب، ولا لجان فيها للدراسة أو المحاسبة أو التفكير، سنظل هكذا نتخبط تحت حكم الفرد الديكتاتور الذي يوزع الأدوار بدون دراسة موضوعية ولا حسابات حقيقة، لأنه في النهاية يرمي وراء ظهره ويقلب الصفحة لننتقل من فشل إلى فشل ومن هزيمة إلى أخرى.
فمتى سيستوعب نظام مبارك دروس الفشل المتكررة ويخرج بالعبر .. إن كان هناك من يعتبر؟