أولا :
1 ـ هناك لغة للقرآن يفهمها الذي ملك عليه القرآن عقله وقلبه ، وأصبحت له بالقرآن نظرة جديدة للناس والأشياء..أما اللغة الإنسانية فهي كائن حي ينمو ويزدهر ثم يذبل ويحتضر، وتتحول اللغة الواحدة إلي لهجات مستقلة ثم إلي لغات متميزة . وتسري هذه القاعدة علي لغات البشر ما عدا لغتين:ـ اللغة العربية واللغة المصرية. فاللغة العربية خرج بها القرآن الكريم للعالم فأصبحت ـ ولا تزال ـ شامخة حتي الآن بينما ذبلت اللغة اللاتينية مثلا وتحولت لهجاتها إلي لغات مستقلة مثل &e; الفرنسية والإيطالية والاسبانية والبرتغالية .أما اللغة المصرية فهي ليست لغة بالمفهوم الحرفي ، ولكننا نعني بها أحاسيس المصري ومشاعره، وقد نطقت أحاسيسه بكل الأزياء اللغوية التي عرفها خلال تاريخه الطويل من الهيروغليفية حتي العربية.
2 ـ تلك اللغة المصرية هي التي ينفرد بها المصري الذي أسس أول حضارة في العالم ولا يزال يعيش علي أنقاضها حتي اليوم ، ولا يزال يحمل تراثها في قلبه وكيانه وينطق بها بشتى الأزياء اللغوية إلي أن نطق بها أخيرا بالألفاظ العربية. وبدأت هذه اللغة المصرية مع أول فلاح مصري كان ينحني علي محراثه وتشوي السياط ظهره وهو يكد في إنتاج الخير للغير..!!
وبكل اللغات التي نطقها المصري عرفت مشاعره كيف تطوع تلك اللغة ومفرداتها ليصيغ منها لغته المصرية الخاصة تعبر عن خصوصيته ومأساته الجغرافية والتاريخية حين عاش فى أخصب بقعة في العالم في منطقة التقاء العالم القديم حيث يطمع فيه الأجانب من كل جانب ويقتحمون عليه بيته وينتهكون خصوصياته..
3 ـ والمصري اليوم ينطق اللغة العربية ولكنه طوع بعض الفاظها وأنتج منها لغته المصرية الخاصة التي تنبض بمشاعره وخصوصياته وميراثه الثقافي والتاريخي.
ومن أبرز الألفاظ في تلك اللغة المصرية : كلمة " الستر" ومشتقاتها، فالمصري يقول عند الفزع والمفاجأة :" استر يارب"" ياستار يارب" ويجعل من أسماء الله الحسني"الستار" ويسمي ابنه" عبد الستار" وحين يدخل دار يقول " يا ساتر" أو "يا ستار" وعن تزويج البنات يقول " التستير علي البنات" ويقول في الأمثال" التستير علي البنات صدقة ".
4 ـ وما سبق كله من تلك اللغة المصرية التي تنبض بأحاسيس المصري وخصوصياته وقد نحتها من اللغة العربية مع أنه لا شأن لكلمة " الستر" ومشتقاتها بمعانيها الحقيقية في اللغة العربية أو حتي في دين الإسلام..
ففي اللغة العربية : كلمة " ستر " بمعني أخفي وغطي ، ونحن نقول " الستارة " ونستعملها في حديثنا وفي منازلنا وتغنى كوكب الشرق أم كلثوم فتقول " ستاير النسيان نزلت بقى لها زمان"..
والقرآن الكريم استعمل كلمة " ستر" ومشتقاتها بنفس المعني أي الخفاء والحجاب والتغطية ، يقول تعالي " وإذا قرأت القرآن جعلنا بينك وبين الذين لايؤمنون بالآخرة حجابا مستورا 17/ 45 " أي حجابا مخفيا، ويقول " .. وجدها تطلع علي قوم لم نجعل لهم من دونها سترا":18/ 90 أي حجابا ، ويقول" وما كنتم تستترون أن يشهد عليكم سمعكم ولا أبصاركم :41/22" وكلمة تستترون أي تتخفون . من الخفاء .
إذن كلمة الستر في اللغة العربية وفي القرآن تعني الخفاء والتغطية .. وليس من أسماء الله الحسني كلمة الستار . فم يرد ذلك في القرآن ولا في مصادر التراث ، ولكنها وردت فقط علي السنة المصريين وفي لغتهم الخاصة التي ينحتونها من كل لغة ينطقون بها ، ويعبرون بتلك اللغة الخاصة عن مكنون مشاعرهم.
5 ـ ما الذي يجعل المصري يهجر المفردات العربية فلا يقول عند الفزع والمفاجأة "الطف يا رب " أو " لطفك يا رب " أو " عونك يا رب " ما الذي جعله يترك ذلك ويصوغ لغة أخري من الألفاظ العربية فيقول عند الفزع والمفاجأة " استر يا رب " و"يا ساتر يا رب" مع أن الستر في الأصل هو الحجاب والخفاء؟
إن الإجابة علي هذا السؤال تستلزم الغوص في أعماق النفسية المصرية التي ترسبت فيها مشاعر خمسين قرنا من الزمان .
6 ـ أنه لايوجد شعب في العالم عاني من استعمار الأجانب وظلم الحكام مثلما عاني الشعب المصري . لقد التصق المصري بالنيل ولكن الطامعين فيه قطعوا فيافي الصحراء واقتحموا عليه بيته وخصوصياته ، ومن خلال تاريخه الطويل كان المصري ـ ولا يزال ـ يتمني أن يكون آمنا في بيته " مستورا" عن أعين الأجانب الذين يتقاطرون عليه من الشرق والغرب ، ومن هنا كان" الستر" مطلبا أساسيا في المشاعر المصرية وفي اللغة المصرية ، إذ أن غاية المني عند المصري هو " الستر" وأن يكون في " بيت مستور " لذا يدعو فيقول :"ربك يجمّلها بالستر" وطالما معه " الستر " فكل شيء يهون..!!
7 ـ البيت يعني عند المصري الالتصاق بالأرض، وهذا الالتصاق هو أروع قصة حب للوطن استمرت سبعين قرنا من الزمان ، كان فيها المصري يعتبر بيته ليس مجرد بناء من الطوب ولكنه بناء نفسي في القلب ، يعني أن يكون له دار تضم أبناءه وعشيرته وخصوصياته التي يحرص علي ألا يقتحمها غريب ، وهو يريد أن يكون " مستورا" عن الغرباء الذين لا يجلبون له غالبا إلا المتاعب، لذا يقول في المثل الشعبى " ما يجيش من الغرب شيء يسر القلب"!! 8 ـ والمصري بطيبته وحبه للمسالمة والطاعة وكراهيته للعنف كان فريسة للحكام الظلمة الذين احتكروا لأنفسهم كل عناصر القوة علي حسابه، والذين تطرفوا في تأمين أنفسهم ضد ثورته فاشتطوا في الظلم مما دعا المصري المظلوم إلي إيثار السلامة، ليس فقط بأن يدعو الله تعالي أن ينجيه من شرورهم بل يدعو الله تعالي أن يباعد بينه وبينهم وأن يجعل بينه وبينهم " حجابا" " مستورا" فلا يراهم ولا يرونه . ولذلك فإنه لا يقول " لطفك يارب " وإنما يقول "سترك يارب" أي " استرني عن أعينهم يا رب "!!
9 ـ إن ظلم الحكام كان يصل إلي المصري في عقر داره في قريته وفي أرضه ، وكان الكرباج يلهب ظهره ، وكان التجريس في انتظاره حيث يطاف به مفضوحا إذا تواني في إرضاء مطامع الظلمة لذا كان غاية المصري أن يلبس " طاقية الإخفا" الى تخفيه عن الأبصار ، فلا تراه السلطة ولا يراها ، أي كان يتمني "الستر". ولهذا دخلت ( طاقية الاخفا ) فى التراث الشعبى المصرى ، بل وفى الأفلام السينمائية.ولأن السلطة كانت تطوله لذا كان يتوقع الشر بمناسبة وبدون مناسبة وهكذا كان يهتف عند توقع الشر " استر يارب " " يا ساتر يا رب "!!
10 ـ ولازلنا نقول " يا ساتر يا رب " و" استر يا رب " ليس لأن اللسان تعود علي هذا ولكن لأن الظلم لا يزال يعيش بيننا . صحيح أن حكم الأجانب والفراعنة الظلمة قد انطوت صفحته ، ولكننا لا زلنا يظلم بعضنا بعضا . والمؤسف أن بعضنا يسيء استخدام سلطته فيظلم أخوته في الوطن ويكتسب ملامح الظلمة السابقين.. وكلما توغل في ظلمه ازداد خوفه من الانتقام فيزداد ظلما ويزداد خوفا في تلك الدائرة الجهنمية ويتقلب فيها إلي أن يهلك . والغريب أن هذا الظالم في خوفه من الانتقام المحتمل يقول : " استر يا رب "!!
11 ـ ومن الغريب أن قوة من البوليس قد تقتحم بيتا لأحد الأبرياء لتسوقه ظلما إلي ظلمات المجهول ، ويدقون عليه الباب بقسوة فيهتف المظلوم فزعا " استر يا رب " ويدخل أفراد القوة البوليسية لتعتقل المظلوم وقلوبهم تنطق من الخوف وتدق قائلة " استر يا رب " وإذا تخيل أحدهم أن شيئا من ذلك قد يحدث لبيته وأسرته صرخ دون أن يدري "استر يا رب "..
12 ـ كلنا مصريون .. وكلنا يهتف عند توقع الشر : استر يا رب .. ومع ذلك فلا نزال نظلم بعضنا بعضا ، ويقول المظلوم استر يا رب ، ويقول الظالم : استر يا رب ..
إلي متي تظل الفلاحة المصرية تدعو لابنها وتقول: يكفيك شر الحاكم الظالم؟!!
ثانيا :
1 ـ نشرت لى جريدة الأحرار هذا المقال بتاريخ 30/9/1991 ضمن سلسلة ( قال الراوي). كان المقال صدى لما كنت أعانيه من ارهاب نظام حكم مبارك ، وتوقعى بالقبض علىّ فى أى وقت ، بحيث كنت ـ ولا زلت ـ أتوقع الشّر حين يدق الباب أو يدق جرس التليفون .
2 ـ الشعور بعدم الأمن وتوقع المكروه امتد الآن ـ بعد حوالى عشرين عاما من نشر هذا المقال ليغطى عشرات الملايين من المصريين .
أصبح الخوف هو الشعور الوحيد الذى يتوحد فيه المصريون ، سواء من الحكام وأعوانهم أم من الشعب المطحون المسكين . يزداد الخوف مع بزوغ كل شمس ومع غروبها ، وتتعدد أسباب الخوف ، من خوف من المجهول وخوف من المستقبل الى الخوف من السجن والاعتقال بلا سبب ضمن تطبيقات اللاقانون أو قانون الغاب أو ما يسمى بقانون الطوارىء ، الى الخوف من الجوع والمرض وحوادث الطرق وركوب القاطرات والمعديات و انهيار المساكن ، أو مجرد أن تمر أمام قسم شرطة ..
3 ـ وربما يكون الظالمون هم الأكثر خوفا ورعبا ، فهم يؤمنون بانتقام حتمى قادم ينتظرهم جزاء ما فعلوه من ظلم وقتل وتعذيب وسلب ونهب ، فبهذا تنطق ثقافتهم الشعبية المصرية وتقول لهم :( لك يوم يا ظالم ) ( حتروح من ربنا فين ) ( إذا دعتك قدرتك لظلم الناس فتذكر قدرة الله عليك ) ( القاتل يقتل ولو بعد حين ).
ولهذا تنبض قلوبهم فى كل وقت تقول ( أستر يا رب ).
4 ـ ولا زلت أقولها خوفا على مصر : ( أستر يا رب ).