رعاية الطفل فى الاسلام ( 2 / 2 ) رعاية الطفل في تراث المسلمين

آحمد صبحي منصور في الإثنين ٢٣ - أغسطس - ٢٠١٠ ١٢:٠٠ صباحاً

رأينا أن الطفولة من خلال الدراسة القرآنية تنقسم إلى فترة الرضاع، وفترة الانفصال.

ومن خلال الدراسة في تراث المسلمين نجدها تنقسم إلى فترة الحضانة وفترة التربية والتعليم، وهو نفس التقسيم مع اختلاف المسميات ففي فترة الرضاعة يكون الطفل بين أحضان والديه أما في فترة الانفصال عنهما فهو يتوجه للمعلم للتربية والتعليم.. وهو في الفترتين تحت الرعاية والتوجيه.

أولاً: رعاية الطفل في فترة الحضانة:

وفي كتابات الفقهاء كما في قانون الأحوال &Ccedi; الشخصية باب هام يختص بحضانة الطفل يضع الأحكام التي تكفل رعاية الطفل في هذه الفترة.

1- والحضانة حق للطفل لاحتياجه إلى من يقوم برعايته وتربيته والإنفاق عليه.

2- وتجب الحضانة على الأبوين فإن قصرا فعلى الأقرب فالأقرب، مع تفضيل قرابة الأم، فإن لم توجد قرابة فحضانة الطفل على الدولة أو جماعة المسلمين.

3- وفي حالة التنازع بين الأبوين حول حضانة الطفل فالأم أحق بحضانة الطفل من أبيه لأنها أعرف به وأصبر عليه ولديها الوقت أكثر من الرجل.

4- وأجر الحضانة على الرجل، إذ عليه نفقة الولد وأجرة الحاضنة بحسب الأحوال، والأم لا تستحق أجرة الحضانة طالما كانت زوجة لأب الطفل، أما إذا طلقت وانفصلت تماماً عن زوجها فتستحق أجر الحضانة والرضاعة شأن أي امرأة أخرى.

5- ويشترط في الحاضنة الكفاءة والقدر على هذه المهمة، ولذلك اشترط الفقهاء أن تكون الحاضنة عاقلة رشيدة قادرة على التربية أمينة الخلق، وتسقط الحضانة عن الحاضنة إذا أصابها جنون أو مرض معد أو كانت صغيرة غير رشيدة، أو عجزت عن صيانة الطفل ويضاف لما سبق اشتراط أن تكون الحاضنة مسلمة حتى لا تؤثر على عقيدة الطفل.

ويجب أن تعلم أن الطفل أمانة في يدها تلزمها مراعاته والحفاظ عليه، فإن شعرت أنها عاجزة عن أداء هذه المهمة كأحسن ما يكون وجب عليها أن تضع هذه الأمانة بين يدي من هو أقدر على رعايته، ولا ينبغي أن تكون الأجرة هي الغاية من عمل الحاضنة ومن هنا اوجب الفقهاء على ولى أمر الطفل وعلى القضاة أن يراعوا مصلحة الطفل في موضوع الحضانة، ومصلحة الطفل هو رعاية عقله وجسده ونفسه ومستقبله وتنشئته على أحسن ما يكون.

6- وتنتهي الحضانة إذا استغنى الصغير عن خدمة النساء وبلغ سن التمييز وأصبح قادراً على أن يقوم بنفسه بحاجاته الأولية بأن يأكل وحده ويلبس وحده وينظف نفسه وحده وليس لذلك مدة محددة، إذ تتوقف على مدى وعى الطفل وتمييزه، ولذلك اختلف الفقهاء في تحديد السن فقال بعضهم بامتدادها إلى أن يبلغ مبلغ الرجال، وإلى أن تتزوج الفتاة ويدخل بها زوجها، وقال فقهاء الحنفية أن الحضانة تنتهي إذا تم الغلام سبع سنين وإذا تمت البنت تسع سنين.

والقانون المصري رقم 25 لسنة 1929 مادة 20 (يأذن للقاضي أن يحكم بامتداد حضانة الطفل الذكر من سبع سنين إلى تسع سنين والأنثى من تسع سنين إلى إحدى عشر سنة إذا كان ذلك في مصلحة الطفل ). والمذكرة التفسيرية أوضحت أن سن الطفل في السابعة للذكر والتاسعة للأنثى لا تكفي بل  يظل الطفل في حاجة لمزيد من الرعاية والحضانة، ويكون الطفل في خطر الانفصال عن أمه أو  حاضنته خصوصاً إذا كان أبوه متزوجاً بغير أمه، ولذلك كثرت شكاوى النساء من انتزاع أولادهن منهن في ذلك الوقت، لذلك كان التصريح للقاضي بمد فترة الحضانة سنتين لمراعاة المصلحة التي يراها القاضي.

وفي السودان صدر منشور شرعي رقم 34 في 12/1932 جعل من حق القاضي أن يأذن بحضانة النساء للصغير بعد سبع سنين إلى البلوغ وللأنثى بعد تسع سنين إلى الزواج إذا تبين أن مصلحتهما تقتضى ذلك، وللأب وسائر الأولياء تعهد المحضون عند الحضانة وتأديبه وتعليمه.

بعد انتهاء الحضانة:

يكون من حق الصغير الاختيار بين أن يقيم لدى أبيه أو لدى أمه وذلك إذا لم يتفق الأب والحاضنة على إقامته عند واحد منهما، وأفتى بعض الفقهاء بأنه إذا اختار الأم كان عندها بالليل وعند أبيه بالنهار، وإن اختار الأب كان عنده بالليل والنهار لأن وجوده عند الأب يكون في الغالب أكثر حفاظاً عليه ورعاية له، كما أنه إذا اختار أحدهما فلا ينبغي أن يمنع الآخر من رؤيته والاطمئنان عليه.

واختلف الفقهاء في حكم الانتقال بالطفل المحضون من بلد لآخر وهو في رعاية أمه هل تعود الحضانة للأب أو تبقى مع الأم، واختلافهم الفقهي كان في محاولة الوصول إلى أكبر قدر متصور لرعاية الطفل في ذلك الظرف الطارئ.. وهكذا دارت تشريعات الفقهاء على رعاية الطفل في كل الظروف خلال فترة الحضانة، ثم بعدها تولى الفلاسفة والعلماء كيفية تأديب الطفل وتربيته وتعليمه في المدرسة والكتاب.

ثانياً: مقدمه عن رعاية الطفل في مرحلة الوعي:

عن أصول تربية الطفل كتب فلاسفة المسلمين أبواباً منذ القرن الثالث الهجري، ثم بانتشار التعليم ومؤسساته ظهرت كتب متخصصة في تربية الطفل وتعليم الطالب، ومن الصعب في هذه الورقة البحثية تتبع ذلك كله أو تحليله، ولكن سنكتفي بإعطاء صورة عامة ومختصرة، تبدأ بالإشارة لأماكن تعليم الطفل وتطورها خلال الحضارة الإسلامية العربية، ثم نتوقف مع أهم الآراء النظرية في التربية وتعليم الطفل، وبعدها نعرض لبعض الآراء العملية التي سارت عليها عملية تعليم الطفل وتربيته، ونحاول في النهاية إيجاد القواعد الأساسية للتربية، وفي خاتمة البحث نتوقف بالنقد والتعقيب على مجمل الفلسفة التي سارت عليها التربية الإسلامية والعربية للطفل..

أماكن تعليم الطفل بين القصور والكتاتيب والمؤسسات الوقفية:

1- أطفال الأمراء كانوا يتعلمون في القصور ولديهم أساتذة خصوصيون.

أما باقي الأطفال فقد تلقوا تعليمهم في الكتاتيب، سواء كتاتيب خاصة يديرها صاحبها بأجر، أو كانت كتاتيب أقامها أصحابها ضمن المؤسسات الخيرية لتعليم الأطفال بالمجان، خصوصاً إذا كانوا أطفالاً أيتاماً..

2- التعليم في القصور كانت مهمته تغذية الطفل بنوع من الثقافة وقسط من المعرفة شأن التعليم في الكتاتيب، ولكن منهج التعليم في القصور كان يصنعه صاحب القصر بنفسه، والمعلم في القصر لم يكن يطلق عليه لقب (معلم صبيان) أو (معلم كتاب) ، ولكن كان يطلق عليه لفظ (مؤدب)، ويظل المؤدب يرعى الطفل إلى أن يصل إلى حلقات المساجد أو المدارس. وكان يخصص للمؤدب جناح خاص في القصر يعيش فيه ليكون إشرافه على أبناء الأمير أو السلطان أحكم وأشد . وقد أنشأ الخلفاء الفاطميون في مصر مدارس خاصة داخل قصورهم يلحق بها أولاد الأسرة الحاكمة، وتهدف لتثقيف الأطفال سياسياً وإدارياً منذ نعومة أظافرهم لإعدادهم لشغل المناصب الرئيسية في الدولة.

3- أما الكتاتيب فقد كانت معروفة قبل الإسلام في الجزيرة العربية، ثم ازدادت انتشاراً بعد الإسلام، وكان بعض معلمي الكتاتيب من غير المسلمين، وبعضهم كان يفتح المكتب في داره .وانتشرت كتاتيب أخرى لا تقتصر على تعليم الطفل القراءة والكتابة ومبادئ الحساب وإنما تعلمه القرآن ومبادئ الإسلام، وسادت هذه الكتاتيب فيما بعد ، وبالتالي لم يعد هناك معلمون من غير المسلمين في الكتاتيب لتعليم القراءة والكتابة.

ولم يشجع المسلمون في عصرهم الأول إلحاق الكتاتيب بالمساجد خشية على طهارتها من الأطفال، ثم ما لبث أن أقاموا المؤسسات المجمعة التي تضم المسجد والمدرسة والكتاب والخانقاه ، وكان ذلك في العصر المملوكي وفيها كان الأطفال والكتاتيب جزءاً من تلك المؤسسة الجامعة أو ملحقاً بها.

وعنى بعضهم بإنشاء الكتاتيب المجانية لتعليم الأطفال، وبدأها يحيي بن خالد البرمكى في العراق فى عهد هارون الرشيد، وتابعه في الاهتمام بالأيتام وتعليمهم الوزير شمس الدين بن نظام الملك الذي زود الكتاتيب بالنفقة على الأيتام بالكسوة والطعام وتعليمهم الأدب والقرآن والحلال والحرام، ثم نور الدين في القرن السادس في الشام وبعده صلاح الدين الأيوبي في مصر والشام في الدولة الأيوبية.

ثم جاء العصر المملوكي (648-921هـ) بتطور هام هو إقامة المؤسسات الجامعة التي أشرنا إليها والتي تنفق عليها الأوقاف وتكفل الحياة الرغدة للمتعلمين من أطفال أيتام وطلبة ومدرسين وصوفيه منقطعين للعبادة. ومع شيوع تلك المؤسسات الوقفية في العواصم إلا أنها لم تلغ دور الكتاتيب الأهلية التي يرتزق أصحابها بتعليم الأطفال، إذ ظلت تلك الكتاتيب تستوعب الأطفال خصوصاً من غير الأيتام وفي القرى والمدن البعيدة عن العواصم والحواضر الضخمة.

وفي هذه وتلك وجد الطفل من يقوم بتربيته وتعليمه:

ثالثاً: آراء السلاطين والخلفاء في تهذيب الطفل وتعليمه:

1- أول من وضع رأيه في تربية الأطفال كان الخليفة عمر بن الخطاب، وذلك في منشور عام أرسله إلى ساكني الولايات بعد الفتوحات، وفيه يقول: علموا أولادكم السباحة والفروسية والحسن من الشعر.. والواضح أنه كان يقصد العرب الفاتحين إذ لم تكن العربية قد انتشرت بعد ولم يكن العرب إلا أقلية عسكرية وسط الشعوب المفتوحة، وكان عمر يخشى عليهم من الذوبان في ذلك المحيط غير العربي. أو أن ينسي أبناؤهم ثقافتهم العربية وخشونتهم العسكرية.

2- وانتهى عصر عمر وقامت الملكيات المستبدة الوراثية منذ خلافة بني أمية، وظهرت القصور وتربية أبناء الملوك في القصور على أيدي مؤدبين خصوصيين، وكان الخليفة أو الأمير يحرص على وضع المنهج الذي يسير عليه المؤدب في تربية الأمير الصغير، ومن هذه الآراء نعرف المستوى الثقافي السائد والرؤية التربوية للطفل في عين أبيه. يقول الخليفة الأموي عبد الملك بن مروان لمؤدب أولاده "علمهم الصدق كما تعلمهم القرآن، وجنبهم السفلة فإنهم أسوأ الناس رعة (ورعا) وأقلهم أدباً، وجنبهم الحشم فإنهم لهم مفسدة، وأحف شعورهم تغلظ رقابهم، وأطعمهم اللحم يقووا، وعلمهم الشعر يمجدوا وينجدوا، ومرهم أن يستاكوا عرضا، ويمصوا الماء مصا ولا يعبوه عبا، وإن احتجت إلى أن تتناولهم بأدب فليكون ذلك في ستر، ولا يعلم به أحد من الحاشية فيهونوا عليه.

إن عبد الملك بن مروان هو المؤسس الثاني للدولة الأموية، وقد أنجب الكثير من الأولاد وأبناؤه وأحفاده هم خلفاء الدولة الأموية من بعده- ما عدا الخليفة الأخير مروان بن محمد، وشخصية عبد الملك ومعارفه تظهر في تلك الوصية لمؤدب أولاده، فالواضح أنه يعلَّم ذلك المؤدب أن يكون قدوة لأولاده، بأن يلتزم الصدق ليتعلموا منه الصدق كما يتعلمون منه القرآن، كما أن عبد الملك يحرص على مكانة أطفاله باعتبارهم ملوك المستقبل، فيوصي بابتعادهم عن السفلة والعوام، وإذا احتاج المؤدب إلى عقابهم فليكن ذلك بعيداً عن عيون الحاشية، ومن حرصه على استقامتهم لا يوصيه بتعليمهم الصدق فحسب بل يأمره بأن يبتعد بهم عن الحاشية التي يقوى سلطانها مع إفساد الأمراء واعوجاجهم..

وعبد الملك بن مروان لا يقتصر في نصحه للمؤدب على نواحي التعليم والآداب والسلوك بل يتناول النواحي الصحية والغذائية من وجهة نظره فيأمره بقص شعورهم لتغلظ رقابهم، وإطعامهم اللحم لتقوى أجسادهم، وأن يستعملوا السواك بالعرض ويمصوا الماء مصاً ليتجشئوا ويهضموا الطعام. ولأنه عربي وهو أول خليفة قام بتعريب الدواوين فإنه يحرص على تعليم أبنائه الشعر العربي أكبر مفخرة أدبية للعرب. والواضح أن المؤدب كان يقوم على رعاية الطفل من كل وجه..

3- وفيما بعد قال الخليفة هشام بن عبد الملك لمؤدب ولده سليمان الكلبي "أن ابني هذا هو جلدة ما بين عيني ، وقد وليتك تأديبه فعليك بتقوى الله وأداء الأمانة، وأول ما أوصيك به أن تأخذه بكتاب الله، ثم روه من الشعر أحسنه، ثم تخلل به في أحياء العرب فخذ من صالح شعرهم وبصره طرفاً من الحلال والحرام والخطب والمغازي".

أي يعلمه القرآن والشعر وأنساب العرب وشيئاً من الفقه والتاريخ أو غزوات النبي (ص). ولم يكن مصطلح السّنة والأحاديث معروفا وقتها. ثم شاعت فى العصر العباسى .

4- وننتقل إلى الدولة العباسية ونقرأ هذه الوصية من الرشيد إلى الأحمر معلم ولده الأمين الذي تولى الخلافة من بعده : (يا أحمر، إن أمير المؤمنين قد دفع إليك مهجة نفسه وثمرة قلبه، فصير يدك عليه مبسوطة وطاعته لك واجبة، فكن له بحيث وضعك أمير المؤمنين، أقرئه القرآن وعرفه الأخبار (التاريخ) وروّه الأشعار، وعلمه السنن (الحديث ) وبصره بمواقع الكلام بدئه، وأمنعه من الضحك إلا في أوقاته، وخذه بتعظيم مشايخ بني هاشم إذا دخلوا عليه ورفع مجالس القواد إذا حضروا مجلسه، ولا تمرن بك ساعة إلا وأنت مغتنم فائدة تفيده إياها من غير أن تحزنه فتميت ذهنه، ولا تمعن في مسامحته فيستحلى الفراغ ويألفه، وقوِّمه ما استطعت بالقرب والملاينة فإن أباهما فعليك بالشدة والغلظة.).

لقد جعل هارون الرشيد مؤدباً لكل ولد من أولاده، وفي وصيته، للأحمر مؤدب ولده الأمين نراه يكرر ما قاله السابقون من تعلم القرآن والشعر والتاريخ والأحكام الشرعية والفصاحة ولكنه يضيف شيئاً من الآداب السياسية مثل احترام الأسرة الهاشمية والقادة العباسيين مع نظرات عميقة في التربية مثل التوسط في المعاملة والتربية والتقويم.

والواضح أن أولئك ـ وقد كانوا يعدون أولادهم لمستقبل سياسي ـ فإن نظرتهم للطفل وتربيتهم كان من واقع تلك الخلفية السياسية، وبالتالي فإنها رؤية خاصة للطفل وتربيته ولا تنطبق على باقي الأطفال. ولذلك فإن الصورة العامة للطفولة وتربيتها تتجلى في آراء فلاسفة المسلمين ونظرياتهم.

 

رابعاً: آراء الفلاسفة المسلمين في تربية الطفل وتعليمه:

1- الحركة العلمية بدأت بسيطة ثم تطورت، وكانت عامة فأصبحت أكثر تخصصاً، وفي طور البساطة وعدم التخصص وردت إشارات عن تربية الطفل، وبعدها بدأت ظهور المؤلفات المتخصصة منذ القرن الخامس الهجري وفيها حديث عن التربية والطفولة.

في القرن الثالث الهجري عرض الجاحظ (ت255هـ) لأسلوب تربية الطفل فنهي عن المبالغة في تعليم الصبي النحو إلا بالقدر الذي يمكنه من تصحيح لسانه وابتعاده عن جهل العوام، ونهى أيضاً عن التكلف في قراءة كتب البلغاء وأن يستفيد منها المعاني لا الألفاظ ويكتفي بتعليمه الحساب دون الهندسة والمساحة، وأن يتعلم رواية الخبر (التاريخ) الصادق والمعنى البارع وكتابة الإنشاء بلفظ سهل وعبارة حلوة.

ويتفق معه ابن مسكويه في ضرورة أن يتعلم الصبي مبادئ الحساب وقليلاً من قواعد اللغة العربية.

2- وكان الرئيس ابن سينا (428هـ) أكثر تفصيلاً في رؤيته التربوية، وفي كتابه القانون الموسوعة الطبية أورد بعض النصائح ومنها الاهتمام بمراعاة أخلاق الطفل ؛ فلا يعرض له غضب شديد أو خوف شديد أو غم أو سهر، وأن يقرب إليه ما يحنّ إليه وينحى عنه ما يكرهه، ليس استجابة لأمره وإنما لتيسير الحياة عليه وفي ذلك منفعة لنفسه ولبدنه، لأن الطفولة الحسنة ينتج عنها حسن الأخلاق وحسن المزاج، والعكس صحيح . وعندما يستيقظ الطفل من نومه فالأولى به أن يستحم ثم يسمح له باللعب ساعة، ثم يتناول طعاماً يسيراً، ثم يعود إلى اللعب، ثم يستحم، ثم يتغذى . فإذا بلغ ست سنوات تقدم إلى المؤدب أو المعلم ، ولكن بالتدرج . ولا ينبغي أن يجبر على ملازمة الكتاب مرة واحدة . وعندما يتقدم السن به تزداد جرعة المعلم على حساب الراحة واللعب ..

وهذه رؤية طبية نفسية تصاحب الطفل من الحضانة إلى مرحلته الواعية،

وفيها يقرر ابن سينا أهمية أن يتوجه الطفل في التعليم حسب موهبته واستعداده العقلي ورغبته، فليست كل صناعة يرومها الصبي ممكنة له مواتيه، ولكن ما شاكل طبعه وناسبه، ويحرص ابن سينا على أن يحاط الطفل بفتية يكبرونه في السن والتفكير يكونون له قدوة حسنة يتعلم منهم مناقبهم، يقول "ويكون مع الصبي في مكتبه صبية حسنة آدابهم مرضية عاداتهم ، لأن الصبي من الصبي ألقن وهو عنه آخذ، وبه آنس )، أي أن الصبي يتلقى أكثر عن الصبي الذي يكبره ويأنس به ويتأثر به..

ولذلك ابتدعت الحضارة الإسلامية وظيفة المعيد، وهو صبى نابغ يتخرج في المؤسسة التربوية العلمية، ثم يتعين فيها ليساعد المعلم في تعليم الأولاد.

3- وفي كتابه "محاضرات "الأدباء" عرض الأصفهاني في الجزء الأول لبعض الوصايا عن تربية الطفل المميز وهو يؤكد على أهمية المبادرة بتعليم الأطفال قبل أن يكبروا وينشغلوا بهموم الدنيا، كما يؤكد على أهمية الترفية والراحة بين الدروس، ويحذر من مواصلة الدروس دون راحة لأنها مرهقة للطفل وتؤدى إلى فشله.

ويلتفت الأصفهاني إلى معلم الصبيان فيوصيه بألا يفرق بين طفل غنى وطفل فقير في المعاملة، وأن يتصفح الصبيان يتعرف على ميولهم واستعدادهم ومواهبهم ، وإذا عرف أن تلميذاً لا يصلح في اتجاه ما أشار عليه بتركه ووجهة إلى غيره يكون أصلح له.

4- وفي القرن الخامس الهجري اشتهر اثنان من أئمة الفقه المسلمين أحدهما يمثل الاتجاه العقلي وهو ابن حزم  والآخر اشتهر بزعامته للصوفية والفقهاء وهو أبو حامد الغزالي.

أما ابن حزم- فيلسوف الأندلس وفقيهها (384-456هـ) فقد عرض للتعليم في مرحلة الطفولة في رسالته "مراتب العلوم" ، وفيها يحدد سن الخامسة على أنها الوقت الملائم للتعلم ، وعندها يجب تسليم الصبي إلى معلمه ليعلمه الخط وتأليف الكلمات من الحروف، وعلى المعلم في هذه الفترة أن يعلم الطفل كيف يكون الحرف قائماً وواضحاً في كتابته، وأن يكون الطفل قد تعلم هجاء الكلمات ونطقها النطق الصحيح . ومن الطريف أن يحذر ابن حزم المدرس من المبالغة في تعليم الطفل تحسين الخط لأنه مقدمة لزرع النفاق في قلب الصبي وتوجيه له بخدمة السلطان وتضييع عمره في الظلم والكذب.

ويرى ابن حزم أن الصبي إذا أجاد قراءة كل كتاب بطريقة قومه فقد وصل إلى الحد الأقصى في مرحلة تعلم القراءة والكتابة، أما الخطوة الثانية في تعليم الصبي فهي حفظ القرآن لأنه يستفيد بحفظ القرآن التدريب على القراءة والفصاحة والتخلق بأخلاق القرآن، والواضح أن ابن حزم ينفذ إلى تأثر وجدان الصبي وتشكيله شخصيته بما يتعلمه في الصغر مما يؤثر على مستقبله..

5-ونصل إلى الغزالي أبرز أئمة المسلمين في القرن الخامس وما بعده، وقد عاش بين (450-505هـ) ووضع كتابة المشهور " إحياء علوم الدين" في دمشق سنة 488 حين اختار طريق الزهد والتصوف، وكان لكتابه الأثر في توجيه الحركة العلمية والثقافية والتربوية للقرون التالية ، ولا يزال تأثيره واسعاً حتى الآن بين صفوف المتدينين..

ونستعرض بعض ما قاله فيه عن تربية الطفل الجسمية والعقلية والسلوكية والتعليمية.

تحت عنوان (بيان الطريق في رياضة الأطفال في أول نشؤهم ووجه تأديبهم وتحسين أخلاقهم) ويقول" أعلم أن الصبي أمانة عند والديه ، وقلبه الطاهر جوهرة نفيسة ساذجة بريئة خالية من كل نقش وصورة، وهو قابل لكل نقش، وقابل لمل ما يُمال به إليه، فإن عُوّد الخير وعُلمه نشأ عليه وسعد في الدنيا والآخرة، يشاركه في ثوابه أبواه وكل معلم له ومؤدب، وإن عُوّد الشهر وأُهمل إهمال البهائم شقى وهلك وكان الوزر في رقبة القيِّم به والولى عليه، وقد قال تعالى: " قوا أنفسكم وأهليكم نارا" وإذا كان الأب يصونه من نار الدنيا فينبغي أن يصونه من نار الآخرة، وهو أولى. وصيانته بأن يؤدبه ويهذبه ويعلمه محاسن الأخلاق، ويحفظه من القرناء السوء، ولا يعوّده التنعم ولا يحبب إليه الزينة وأسباب الرفاهية فيضيع عمره في طلبها إذا كبر ويهلك هلاك الأبد، بل ينبغي أن يراقبه من أول أمره فلا يشغل في حضانته وإرضاعه إلا امرأة صالحة متدينة تأكل الحلال، فإن اللبن الحاصل من الحرام لا بركة فيه، فإذا وقعت عليه نشأة الصبي عجنت طينته فيميل طبعه إلى ما يناسب الخبائث. ومهما بدت فيه مخايل التمييز فينبغي أن يحسن مراقبته ، وأول ذلك ظهور أوائل الحياء، فإذا كان يحتشم ويستحي ويترك بعض الأفعال فليس ذلك إلا لإشراق نور العقل عليه حتى رأى بعض الأشياء قبيحة ومخالفة لبعضها فصار يستحى من شيء دون شيء، وهذه هدية من الله إليه وبشارة تدل على الأخلاق وصفاء القلب، وهو مبشر بكمال العقل عند البلوغ، فالصبي المستحى لا ينبغي أن يهمل بل يُعان على تأديبه بكمال حيائه وتمييزه.

وأول ما يغلب عليه من الصفات شره الطعام فيعلمه متى يأكل ويعلمه أن لا يسرع في الأكل، ويمضغ الطعام مضغاً جيداً ولا يوالى بين اللقم ولا يلطخ يده ولا ثوبه، ويعوّده الخبز الجاف في بعض الأوقات حتى لا يعتقد أن الإدام حتمي، ويقبح عنده كثرة الأكل بأن يشبه من يكثر الأكل بالبهائم، وأن يذم بين يديه الصبي الذي يكثر الأكل ويمدح بين يديه الصبي المتأدب القليل الأكل، ويحبب إليه الإيثار بالطعام وقلة المبالاة به والقناعة بالطعام الخشن، ويحبب إليه من الثياب الأبيض دون الملون أو الحرير، ويقرر عنده أن ذلك لباس النساء والمخنثين من الرجال، وإذا رأى عليه ثوباً من حرير أو ملون فينبغي أن يستنكره ويذم ذلك.

ثم ينبغي أن يقدم إلى الكتب ويشتغل بتعليم القرآن وبأحاديث الأنبياء وحكايات الصالحين والأخيار، ويمنع من سماع الأشعار التي فيها ذكر العشق وأهله، ويحفظ من مخالطة الأدباء الذين يزعمون أن ذلك من الظرف ورقة الطبع، فإن ذلك يغرس في قلوب الصبيان الفساد، ثم إذا ظهر من الصبي خلق جميل وفعل محمود فينبغي أن يكرم عليه ويجازي عليه بما يفرح به ويمدح بين أظهر الناس، فإن خالف ذلك في بعض الأحيان فينبغي أن يتغافل عنه ولا يهتك ستره ولا يكاشفه ولا يظهر أنه يتصور أن أحداً يتحاشى عن مثله إلا ربما إذا ستره الصبي واجتهد في إخفائه فإن إظهار ذلك ربما يفيده جسارة حتى لا يبالي بالمكاشفة بعد ذلك، فإن عاد ثانياً فينبغي أن يعاقب سراً ويعظم الأمر فيه ويقال له أن يطلع عليك في مثل هذا تفتضح بين يدي الناس، و لا يكثر القول عليه بالعقاب في كل حين فإنه يهون عليه سماع  الملامة وركوب القبائح ويسقط وقع الكلام في قلبه، وليكن الأب حافظاً هيبة الكلام معه ولا يوبخه إلا أحياناً، والأم تخوفه بالأب وتزجره به عن القبائح.

وينبغي أن يمنع النوم نهاراً فإنه يورث الكسل، ولا يمنع النوم ليلاً، ولكن يمنع عنه الفرش الوطيئة اللينة حتى تتصلب أعضائه وتقوي ويتعود الخشونة.

وينبغي أن يمنع من كل فعل يفعله في خفية إلا وهو يعتقد أنه قبيح فإذا ترك تعود فعل القبيح. وأن يتعود في بعض النهار المشي والحركة والرياضة حتى لا يغلب عليه الكسل، ويعود ذلك بكشف أطرافه، ولا يسرع المشي ولا يرخى يديه بل يضمها إلى صدره، ويمنع من أن يفتخر على أقرانه بشيء مما يملكه والداه وبشيء من مطاعمه وملابسه، ويعوّد التواضع والإكرام لكل من عاشره والتلطف في الكلام معهم، ويعلم أن الرفعة في الإعطاء لا في الأخذ، وأن الأخذ لؤم وإن كان من أولاد الفقراء، ليتعلم أن الأخذ والطمع مهانة ومذلة وأن ذلك من دأب الكلب فإنه يبصبص بذيله في انتظار لقمة، وبالجملة فإنه يقبح إلى الصبيان حب الذهب والفضة والطمع فيهما.

وينبغي أن يعوده ألا يبصق في المجالس ولا يتمخط بحضرة غيره ولا يضع رجلاً على رجل ولا يضرب بكفه تحت ذقنه ولا يعطى غيره ظهره، ولا يغمز برأسه أو بزراعه فإن ذلك دليل الكسل، ويعلم كيفية الجلوس، وينبغي أن يمنع كثرة الكلام، ويبين له أن ذلك يدل على الوقاحة وأنه عادة أبناء اللئام، ويمنع من حلف اليمين رأساً بالصدق أو بالكذب حتى لا يتعود في الصغر، ويمنع أن يبتدئ بالكلام ولا يتكلم إلا جواباً لمن سأله، وأن يحسن الاستماع مهما تكلم غيره ممن هو أكبر منه سناً ، ويوسع لمن فوقه المكان ويجلس بين يديه، ويمنع من لغو الكلام وفحشه ، وعن اللعب والشتم ومن مخالطة من يجرى على لسانه شيء من الفواحش فإن ذلك يسرى من القرناء السوء، وينبغي إذا ضربه المعلم ألا يكثر الصياح والصراخ ولا يستشفع بأحد بل يصبر، ويذكر أن ذلك دأب الشجعان من الرجال، وأن كثرة الصراخ دأب المماليك (العبيد) والنسوان. وينبغي أن يؤذن له بعد الفراغ من المكتب أن يلعب لعباً جميلاً يستريح إليه من تعب الأدب بحيث لا يتعب في اللعب، فإن منع الصبي من اللعب وإرهاقه إلى التعلم دائماً يميت قلبه ويبطل ذكاؤه وينغص عليه عيشه حتى يطلب الخلاص منه رأساً.

وينبغي أن يتعلم طاعة والديه ومعلمه ومؤدبه وكل من هو أكبر منه سناً من قريب أو أجنبي وأن ينظر إليهم وأن يترك اللعب بين أيديهم.

وإذا بلغ سن التمييز ينبغي ألا يسامح في ترك الطهارة ويؤمر بالصيام في بعض أيام رمضان، ويتجنب لبس الحرير والذهب والفضة ويتعلم كل ما يحتاج إليه من حدود الشرع ويخوف من السرقة وأكل الحرام ومن الكذب والخيانة والفحش.

وإذا قارب البلوغ يتعلم أن الطعام دواء ليتقوى به الإنسان على طاعة الله وعبادته، وأن الدنيا لا أصل لها كلها وأن الموت يقطع نعيمها وأنها دار ممر لا دار مقر، وأن العاقل من تزود من الدنيا للآخرة حتى يفوز بالجنة، فإذا كانت نشأته صالحة كان هذا الكلام منقوشاً في قلبه كالنقش على الحجر.

6- والغريب أن كلام الغزالي السابق يكرره الفقيه أبو بكر بن العربي في رسالته "مراقى الزلفى" بالنص والحرف، ولقد التقي أبو بكر بن العربي بالغزالي سنة 488 ولا ريب أنه قرأ له وتأثر به خصوصاً في الفكرة الأساسية التي دار حولها حديث الغزالي وهى أن الطفل عجينة تشكلها البيئة الاجتماعية إن خيراً وإن شراً، ولذلك كان التركيز على دور الوالدين في تربية الابن.

إلا أن عبقرية الغزالي تتجلى في تحديد مرحلة التمييز عند الطفل بالاستحياء، وفي نصحه بعدم فضح الصبي إذا اقترف إثماً حتى لا يتعود الجسارة فإذا عاد عوقب سراً، مع عدم الإكثار من العتاب حتى لا يتعود سماع اللوم، وتتجلى عبقريته أيضاً في نصحه بتعليم الطفل أن الرفعة في العطاء لا في الأخذ.

وربما كان الغزالي أكثر فقهاء المسلمين تركيزاً على الجانب التربوي في الطفل من بدايته في الرضاعة إلى التعليم، وهو لم يتوقف كثيراً مع المناهج التعليمية للطفولة، بقدر ما توقف مع تربية الطفل السلوكية في الأكل والزى والحركة والسير والجلوس والاستماع والكلام والتعامل مع رفاقه ومع والديه وأساتذته والكبار والفقراء وغيرهم.

وفي وصاياه نلمح شخصية الغزالي كفقيه وزاهد ومنشغل بالتصوف أو فقيه اختار التصوف طريقاً وديناً.

ونلمح تأثره بالزهد والتصوف في الحث على تعليم الطفل أحاديث الأنبياء وحكايات الصالحين وفي التصوف كالزهاد في السير والجلوس والاستماع والكلام وفي الخضوع للكبار وفي كراهية الدنيا وفي انتظار الموت.

ونلمح وجهه الفقهي في كراهيته أن يرتدي الطفل الذهب والفضة والحرير وفي حثه الطفل على تأدية العبادات والابتعاد عن المعاصي.

ومن خلال نظرته الفقهية الصوفية تحدث عن أهمية تنشئة الطفل في خشونة ورجولة..

إلا أنه يعيب هذه النصائح - في نظرنا- أنها تتطرف في الجناية على الطفولة، وتكبت فيها كل مشاعر التلقائية والعفوية والانطلاق، وأنها تربي جيلاً لا يعرف إلا الخضوع وانتظار الموت .. كما أن تركيزه على الطفل الذكر وإهمال الأنثى سقطة لا تغتفر، وإن كانت تعبر عن منطق العصر، أو العصور الوسطى في العالم الإسلامي والعالم المسيحى أيضاًَ.

7- ولقد عاش القاضي أبو بكر بن العربي بين عامي (468، 543هـ) بين الأندلس والمغرب ومصر والشام والعراق والحجاز. والتقى بالغزالي في بغداد والشام وتأثر به حيث كان الغزالي وقتها ملء السمع والبصر إلى أن مات الغزالي سنة (505هـ) ولذلك كان مفهوماً أن ينقل عن الغزالي آراءه بمثل ما فعل الآخرون.

وما فعله ابن العربي كان نموذجاً لما سارت عليه الحياة العلمية في القرون التالية، إذ اكتفي اللاحقون بالنقل عن السابقين وانصاعوا لدعوة الغزالي في الركون للتصوف والجمود وترك الاجتهاد وإهمال العقل.

لذلك كانت المؤلفات في موضوع الطفولة- في أغلبها- ترديد لما قاله الغزالي وغيره، وينطبق ذلك على أكثر ما قاله ابن جماعة في (تذكرة السامع) والزرنوجى في (تعليم المتعلم) ومؤلف كتاب (منهاج المتعلم) ومؤلف كتاب (الإرشاد والتعليم) والسبكى في كتابه (معيد النعم ومبيد النقم).

والاستثناء الوحيد يتجلى في اثنين من علماء العصر المملوكي .. وكلاهما أتى من المغرب والأندلس وأقاما في مصر وهما الفقيه الصوفي ابن الحاج العبدرى و الفيلسوف المؤرخ مبدع علم الاجتماع عبد الرحمن بن خلدون.

8- ولقد وضع ابن الحاج كتابه (المدخل) في القاهرة سنة 732هـ وتوفي بها سنة 737هـ وقد نهج في كتابه منهجاً جديداً يمكن أن نسميه بالفقه الوعظي، إذ يتحدث عن الأحكام الشرعية التفصيلية ويتبعها بنقد السلوكيات السائدة، لذلك فإن كتاب (المدخل) يحوى إشارات تاريخية ثمينة عن تفصيلات الحياة الاجتماعية التي لم تحظ بتسجيل المؤرخين الذين عاصروها.

وينطبق هذا على منهجه النقدي الفقهي حيث تعرض لأسلوب تربية الطفل، ما هو كائن وما ينبغي أن يكون.

وقد تحدث ابن الحاج عما ينبغي أن يكون عليه معلم الصبيان فينبغي أن يكون متزوجاً دفعاً للشبهات، حيث كان الاتهام بالشذوذ الجنسي سائداً في العصر المملوكي، لذلك يشترط ابن الحاج على مؤدب الأطفال ألا يضحك معهم وأن يكون حازماً في تعامله معهم ، وأن يطرد من بينهم الصبيان الفاسدين ، وأن يكون موضع الكتّاب في السوق أو في الشارع الرئيسي المسلوك حتى يبعد الشبهة عنه وعن الصبيان.

وعن أجرة المؤدب فإن ابن الحاج يحرم على المؤدب أن يأخذ أجرة من والد الصبي الذي يأكل الحرام، ويحرم عليه مصافحة ذلك الوالد، ويرى أنه إذا أعطي الدروس مجاناً ابتغاء وجه الله فليجتهد في ذلك الدرس المجاني أكثر من غيره.

ومن شروط المكان فإنه يشترط احتواء المكتب على حمام لراحة الأطفال حتى لا يقضى الأطفال حاجاتهم في الطرقات أو على الجدران.

ويتحدث ابن الحاج عن مهمة المؤدب التعليمية، فيرى أن بداية التعليم من سن السابعة ويحذر من قبول الأطفال قبلها حتى لا يلوثوا المكتب بمخلفاتهم، ولأنهم لن يتعلموا شيئاً، ولأن أهليهم يرسلونهم للمكتب للتخلص من متاعبهم وليس لتعليمهم..

وأن على المؤدب أن يعلمهم مع حفظ القرآن الخط واستخراج المعاني من الكلمات،ويعودهم آداب الدين ومنها النظافة الشخصية (الاستنجاء) والوضوء والصلاة في جماعة في المسجد وقت الآذان ثم يوجهون إلى المكتب.

ويتولى المؤدب التعليم بنفسه أو يجعل بعضهم يساعد بعضهم دون تمييز شخص على آخر إلا بالكفاءة. ولا يغيب المؤدب عن المكتب أصلاً إلا لعذر قهري وتكون غيبته يسيرة وحينئذ يستنيب أكبرهم وأعقلهم لحفظ الأطفال إلى أن يعود. ونهى ابن الحاج المؤدب من استخدام الصبيان في أي عمل إلا بعد إذن ولى الأمر، وألا يستخدم الطفل اليتيم مطلقاً،  ونهاه أن يكثر من الحديث مع أصحابه وزائريه تاركاً الصبيان يلهون ويلعبون.. إلا إذا كان حديثهم لضرورة شرعية، وحذر من كتابة التمائم والرقى حتى  لا يتعلم منه الصبيان وألا يقرأ القرآن في الأسواق والطرقات.

وكان الصبيان في ذلك الوقت يكتبون على ألواح بالطباشير، ثم يمسحونها، وقد نصح ابن الحاج المؤدب بتحديد وقت لكتابة الألواح ووقت آخر لتصويبها ووقت آخر لعرضها على المؤدب ، كما يحدد وقتاً لقراءة أجزاء القرآن. وحتى يحافظ على نظافة المكتب فإنه نصح بأن يكون فيه مكان محدد لمسح الألواح بالماء،  وحذر من أن يمسح الأولاد الألواح ببصاقهم، وأجاز تزويق الألواح وتزيينها عند الأجازات.

وفي ذلك الوقت كان الاحتفال بتخرج الصبي من الكتاب يسمى (الاصرافة) أي صرفه من حضور الدرس في الكتاب. واعتادوا تزيين لوح الصبي الذي  تخرج في احتفال ومواكب.

ونهى ابن الحاج عن استعمال الحرير والذهب والفضة في تزيين اللوح في الاحتفال بالاصرافة كما نهى عن المبالغة في الاحتفالات والمواكب الخاصة بذلك الاحتفال.

ونصح المؤدب بالمساواة بين الطفل الغنى والطفل الفقير وأن يحرص على مشاعر الطفل الفقير وأن يمنع الطفل الغني من القدوم للمكتب بمال أو طعام، أو أن يسمح للباعة بالوقوف على المكتب حتى لا يؤذي مشاعر الأطفال الفقراء حين يرون زملائهم يشترون ما يريدون وهم لا يستطيعون، ولذلك رأى أن من الأفضل ان يذهب الأطفال للغذاء في بيوتهم وحتى لا يأكلوا على قارعة الطريق، أما إذا كان البيت بعيداً فيجوز لهم إحضار الطعام معهم، حينئذ لا يخلط المعلم طعامهم بعضه بعض . ومنع أن يأكل المعلم من طعام الصبية أو أن يأخذ منه لبيته أو أن يأخذ منهم هدايا في الأعياد، خصوصاً إذا كانت أعياد أهل الكتاب من النصارى واليهود.

وفي عقوبة الطفل يرى أنها تتنوع من اللوم إلى التهديد إلى الضرب حسب حالة الطفل إن كانت تصلحه العصى أو تكفيه الملامة، ويشترط ألا يزيد الضرب عن ثلاث أسواط ولا تتخطى مطلقاً عشرة أسواط، ويكون السوط هيناً ودون استعمال آلات التعذيب التي كانت سائدة وقتها، كما منع شتم الصبي وألا يؤدبه إلا بعد أن يهدأ ويذهب غيظه حتى لا يظلمه في وقت غضبه وانفعاله.

ورأى ابن الحاج أن الإجازة تكون يومين في الأسبوع، ومثلها تقريباً قبل وبعد العيد، وإذا اشتكي صبي من وجع فعليه إرساله لأهله سريعاً.

وحتم ابن الحاج على معلم الصبيان أن يمنع الصبية من الخروج من عنده للذهاب إلى معلم نصراني ليتعلموا لديه الحساب حتى لا تتأثر عقيدة الصبي وحتى لا يرفع شأن النصارى، وقال أن الرضاع الأول هو لبن الأم، والرضاع الثاني هو ما يتعلمه الصبي من معلم الكتاب، والرضاع الثالث والأخير، هو ما يأخذه من علوم الدين بعد التمييز والبلوغ وينبغي أن يصان الطفل في تلك المراحل من التأثر بأهل الكتاب ليشب صحيح العقيدة.

والواضح أنه تأثر بعصره تماماً، سواء في نظرته المتعصبة لأهل الكتاب، ولم تكن أجواء الحروب الصليبية قد تبددت بعد، أو في تحاشيه لكل ما يؤدي إلى الاتهام بالشذوذ الجنسي وقد كان سائداً في ذلك الوقت، وفي كل الأحوال فقد كان ابن الحاج شاهداً على عصره، ويكفيه هذا فخراً.

أما ابن خلدون (732-808هـ) المشهور بمقدمته الفذة في علم الاجتماع فقد عرض فيها لتربية الطفل وكيفية تعليمه، وهو يقصد الطفل في مرحلته المتأخرة وقد أشرف على البلوغ وتهيأ لتلقى العلم وهو يتوجه بالنصح للمعلم بان يبدأ بالإيجاز والاختصار أولاً وبعدها يفصل ويشرح، وأن يعتمد على الأمثلة الحسية لأن المبتدئ في أول أمره ضعيف الفهم قليل الإدراك، وألا يأتي بالنتائج في البداية ولكن يبتدئ بالأمثلة الكافية التي تحبب التلاميذ في الموضوع، وألا يطول على المتعلم بتفريغ المسائل وألا يخلط على التلميذ بأكثر من موضوع وألا يوقعهم في الاستقصاء والألفاظ العويصة، مع استعمال الرأفة والرحمة مع الصبيان وتقويمهم بالملاينة لا بالشدة والغلظة لأن ذلك يدفعه للكسل والكذب والخبث، وأن يعتمد في تهذيب الصبيان على القدوة الحسنة لأنهم يتأثرون أكثر بالتقليد والمحاكاة.

وهنا لمحة من عبقرية ابن خلدون فلم يركّز على تعليم الطفل وتأديبه بالضرب كما قال السابقون ، بل إختار الملاينة بدل العقاب .

خامساً: الآراء العلمية في مؤسسات الوقف التعليمية:

1- في مصر العصر المملوكي عاش ابن الحاج وابن خلدون والسبكي وابن جماعة وغيرهم، وفي هذا العصر انتشرت المؤسسات الصوفية المجمعة التي تضم المسجد والضريح وبيوت الصوفية والمدرسة و( السبيل ) وهو مكتب تعليم الأطفال، ويعيش فيها المدرسون والصوفية والطلبة والصبيان، وتنفق عليهم إيرادات الأوقاف، وذلك طبقاً لعقود رسمية للأوقاف تفصل الحياة العلمية والتعليمة وأوجه الإنفاق على كل الأنشطة، وتلك العقود الرسمية للأوقاف أصبحت اليوم وثائق تحكى جانباً هاماً من الحياة الاجتماعية والاقتصادية والثقافية لمصر المملوكية.

ونأخذ منها بعض الملامح العملية لحياة الأطفال الأيتام في المكاتب أو (السبيل)، والسبيل فى الأصل هو موضع للشرب لعموم الناس بالمجان، ثم أضيف له مكاتب لتعليم الصبيان ، خصوصا الأيتام منهم .

2- من دراسة وثائق الوقف يتضح أن العادة جرت لبناء مكتب لتعليم الأيتام بجوار المسجد أو المدرسة فوق السبيل لذلك كان يقال أحياناً "مكتب السبيل" أو "كتاب السبيل" . وأحياناً كان ينشأ المكتب منفصلاً عن السبيل ويطلق عليه نفس المصطلح.

3- وكان يطلق على معلم المكتب لقب (الفقيه) أو (المؤدب) مما يدل على أن المعلم كان قد حصل على قدر محترم من الفقه والأحكام الشرعية وليس مجرد معلم للقراءة والكتابة، وكانت وثائق الوقف تشترط فيه شروطاً خلقية واجتماعية منها أن يكون خيرّاً متديناً ذا عقل وعفه متزوجاً أمينا على الأطفال المسلمين صحيح العقيدة أي ليس مبتدعاً في الدين بمفهوم العصر.

4- كان يساعد المؤدب (العريف) وهو لفظ مشتق من المعرفة أي شاب برز في المعرفة منذ طفولته وتفوق، فاستحق بعد تخرجه أن يعمل مساعداً للمؤدب، ومثله مثل المعيد في المدارس وقتها، وفي الجامعات في وقتنا. وكان يتم تعيين (عريف) لكل ثلاثين يتيماً، ويشترط فيه نفس شروط المؤدب، وفي المكاتب الصغيرة لم يكن الأمر يتطلب تعيين عريف.

5- وحرصت الوثائق على تحديد المناهج وطرق التدريس في المكاتب بكل دقه، ففي وثيقة وقف السلطان الغوري أن المؤدب يعلم الأطفال الأدب أولاً، والأدب يعنى السلوك القويم ثم ما يطيقون من القرآن والخط، ووثائق أخرى تنص على تعليمه استخراج المعاني وعلى أن يعاملهم المؤدب بالإحسان والتلطف والاستعطاف حتى يحببهم في التعليم وتقويمهم إذا أخطأوا باللين أو الضرب غير المبرح.

وكل الوثائق- تقريباً- تتحدث عن تعليم الأطفال "ما يطيقون قراءته" وذلك يتفق مع أصول التربية الحديثة في مراعاة أعمار الأطفال وظروفهم الزمنية والعقلية وقدراتهم الخاصة ومدى استعدادهم لتقبل العلوم والمعارف، والفروق الفردية بأن يعلم المؤدب "ما يحتمل تعلمه منهم من القرآن والخط والهجاء والاستخراج (للمعاني) والآداب.

وكان الخط العربي من المواد الأساسية باعتباره في ذلك الوقت كان لوناً من ألوان التربية الجمالية والفنية وله أهمية في تربية الذوق السليم وتكوين الإحساس الفنى عند الأطفال، وأحياناً كان يتولى فنان متخصص تعليم الأطفال جماليات الخط العربي وتسمى حينئذ بالتكتيب وكان التكتيب له فنون سبعة، وكان يحدث أن يتردد معلم الخط العربي على المكتب في أوقات محددة في الأسبوع.

6- وكانت مواعيد الدراسة محددة في كل وثيقة وقف، والأغلب أن تكون من أول النهار إلى وقت العصر، مع جعل الدراسة نصف يوم في بعض الأيام كالخميس والثلاثاء، الإجازة يوم الجمعة والأعياد، وعند انصرافهم يقرأون بعض سور القرآن القصيرة.

ويباح لهم بالغياب في الأعذار الشرعية أو في بعض الضرورات مثل الأمطار والرياح.

7- وتحدثت الوثائق عن الاحتفال بتخريج الطفل من المكتب أو ما يعرف بالصرافة، حيث كان يصرف له مبلغ من المال مكافأة كانت تصل أحياناً إل خمسين درهماً، بالإضافة إلى مكافأة أخرى للمؤدب علاوة على المرتب الشهري.

ومن يظل بالمكتب دون أن يحفظ القرآن فكان يخرج منه ليحل محله أحد صغار الأيتام ، إلا في حالات استثنائية يطلب فيها الطالب مهلة محددة ليتم فيها الحفظ.

8- وكان الصبي اليتيم في تلك المكاتب يتمتع بالإقامة والغذاء والكساء والمرتب الشهري ويخدمه القائمون على المكتب من المؤدب، والعريف، والخادم، علاوة على كل ما يحتاجه من ألواح وأقلام ومداد ودوى وحصر يجلسون عليها، وأثاث للإقامة والمعيشة.. بالإضافة إلى المصاحف الشريفة .

9- والملاحظة أن الشروط العملية لوثائق الوقف في تعليم الأيتام كانت متفقة في أغلب ما نادى به الفلاسفة المسلمون في آرائهم النظرية، وقد اتفق الجميع على إتاحة الفرصة كاملة لنمو الطفل في بيئة صحيحة نفسياً وجسدياً ورعايته بكل طريقة ممكنة.

وندخل بذلك على القواعد الأساسية لتربية الطفل في الحضانة الإسلامية.

سادساً: القواعد الأساسية لتربية الطفل:

1- ونجملها في عدة نقاط، فلم يكن هناك تحديد للسن الذي يبدأ به الطفل في التعليم، كان ذلك بين الخامسة والسابعة، ولم تتدخل الحكومة في تحديد السن وإلزام الناس به، إذ كان التعليم في الأصل مهمة الوالدين، وكانت إقامة المنشآت التعليمية عملاً خيرياً يقوم به الأثرياء والحكام . لذلك كان تحديد السن متروكاً للوالدين والقائمين على المنشآت الخيرية التربوية.

وقد عرضنا لرأى ابن الحاج العبدرى في عدم قبول الأطفال أقل من الخامسة في المكتب لأن أهلهم لا يريدون إلا التخلص من متاعبهم، وذلك ما يتفق مع التربية الحديثة في إرسال الأطفال في ذلك السن إلى رياض الأطفال للعب والتعلم بطريقة اللعب بدلاً من إرهاقهم بما يفوق عقولهم، وإذا كانت الوثائق قد جعلت البلوغ حداً أقصى لاستمرار الطفل اليتيم في المكتب فإن آراء الفلاسفة النظرية لم تحدد المدة التي يبقى فيها الطفل في مرحلة التربية، واهتمت بالمحتوى الثقافي الذي يتلقاه من القراءة والكتابة وحفظ سور القرآن وبعض الأحكام الشرعية.

2-إلا أنه من القواعد السليمة المتفق عليها هو مراعاة التفرقة بين الأولاد في الطريقة التي تتبع في التعليم، حسب درجات الذكاء والقدرات الفردية والعمر والاتجاهات العقلية والمواهب بالإضافة إلى اختلاف طريقة تعليم الأطفال عنها في الكبار، وذلك ما ركز عليه الغزالي وابن خلدون.

3- وقد اتفق الجميع على أهمية البدء بتعلم القراءة والكتابة قبل حفظ القرآن، حتى يستطيع الصبي فهم ما يحفظ، وقد أكدوا على أهمية الحفظ في العملية التعليمية على أساس أن ما يحفظه الصبي يظل منقوشاً في عقله لا ينساه.

4- كما راعى الجميع أهمية اللعب والترويح عن النفس حتى لا يشعر الصبي بالملل والتعب وحتى ينفس عن رغبته في الحركة واللعب والنشاط،  كما أكدوا على الرفق بالصبي عند عقوبته واستعمال اللين معه وحفظ كرامته.

وأغلب هذه القواعد مما يتمشى والطريقة الحديثة فى تربية الطفل ورعايته .

سابعاً: صورة الطفولة في تاريخ بعض الأئمة:

1- تاريخ الأئمة والمشاهير في الحضارة الإسلامية أغلبه كتبه عنهم المؤرخون، وإذا كان ذلك الإمام مقدساً تحولت كتابه تاريخه إلى سرد للمناقب والفضائل، وقلما يكتب أحدهم سيرة ذاتية لنفسه، وقلما يتوقف ليؤرخ لنفسه أو لتاريخ غيره مع فترة الطفولة إلا في ناحية واحدة وهى سيرته العلمية، وغالباً ما تدور سيرته في الطفولة حول نسب آبائه وأسرته ومعلميه وشيوخه والكتب التي حفظها.

وتلك ملاحظات عامة تحتاج إلى بعض الأمثلة.

2- فالإمام الشافعي مثلاً (توفي سنة 204هـ) وضعوا في تاريخه الكثير من المناقب التي تدل على نبوغ ذكائه في طفولته، ومنها أنه حفظ القرآن وهو ابن سبع سنين، وحفظ كتاب الإمام مالك في الفقه (الموطأ) وهو ابن إحدى عشر سنة، وأذنوا له بالإفتاء وهو ابن خمس عشرة سنة.

وقالوا أن الإمام الشافعي شكى إلى مؤدبه- وهو طفل- عدم مقدرته على الحفظ فنصحه معلمه- واسمه وكيع- بأن يبتعد عن المعاصي، فقال الشافعي في ذلك شعراً:

شكوت إلى وكيع سوء حفظي

                      فأرشدني إلى ترك المعاصي

وأخبرني بأن العلم نور

                     ونور الله لا يهدى لعاصي..

ولا نصدق أن طفلاً يتصرف بهذه العقلية، ولكننا نصدق أن من كتب مناقب الشافعي بعد موته بقرون لم يتخيله طفلاً، وإنما تخيله إماماً عظيم الشأن كما حدث فعلاً عندما صار أحد أئمة المذاهب الفقهية المشهورة وله أتباع بمئات الملايين طيلة عدة  قرون، فكتب عن طفولته بكل تقديس.

وكل سيرة حياة لا تخرج عن هذا الإطار، سواء كانت ترجمة في مصنف تاريخي أو كانت تاريخاً مستقلاً بذاته لشخصية واحدة، والإطار واحد هو سيرته التعليمية ومقدار ما حفظ من القرآن والكتب الأخرى.

3- والمتصور أن من يكتب سيرته يتوقف مع ذكريات الطفولة، ولكن ذلك لم يحدث في أغلب السير الذاتية، كما حدث في سيرة عمارة اليمني وابن حجر ولسان الدين ابن الخطيب وابن خلدون وابن سينا والسيوطي والشعراني.

وحسب علمنا ، فإن الوحيد الذي توقف قليلاً مع ذكريات طفولته كان الفقيه المؤرخ ابن حزم الظاهري الأندلسي في كتابه المشهور "طوق الحمامة".

في هذا الكتاب أشار ابن حزم إلى سيرته الذاتية كطفل وشاب ورجل، وصور أحاسيسه ومشاعره وتاريخه بكل صدق، وعن طفولته تحدث عن دور المرأة الأساسي في حياته وتربيته وتعليمه، يقول "لقد شاهدت النساء وعلمت من أسرارهن ما لا يكاد يعلمه غيري، لأني ربيت في جحورهن ونشأت بين أيديهن ولم أعرف غيرهن ولا جالست الرجال إلا وأنا في حد الشباب، وهن علمنني القرآن وروينني الأشعار ودربنني على الخط، ولم يكن كدي وإعمال ذهني منذ أول فهمي وأنا في سن الطفولة جداً ألا تعرف أسبابهن والبحث عن أخبارهن، وأنا لا أنسى شيئاً مما أراه منهن.. فأشرفت من سيرتهن على غير قليل".

لقد تعلم ابن حزم في قصر أبيه وقامت على تعليمه الجواري، ولا نراه يذكر أمه مما يدل على أنه نشأ يتيم الأم فبحث عنها في أحضان الجواري المعلمات، فأخذ يتتبع أخبارهن وشئونهن وأنشغل بذلك في طفولته.

وعندما بلغ الثانية عشرة من عمره وكان ذلك في عيد الفطر سنة 396 سحبه أبوه إلي مجلس الحكم، (المظفر بن أبى عامر) وقد وصف ابن حزم هذا المجلس السلطاني وما قيل فيه من شعر مدح للسلطان.

وروى ابن حزم أول تجربة حب مرت به في مطلع تفتح شخصيته، وكان في الثانية عشرة من عمره، وكانت محبوبته تكبره بأربع سنوات، وقد أفاض في شرح أحاسيسه الطفولية البريئة في رومانسية حزينة، وكيف أنه سعى مدة عامين إلى أن تكلمه فما كلمته، وكانت تهرب من لقائه، ووصف حضوره مجلس غناء في قصر أبيه الوزير حيث غنت محبوبته، وكان ذلك كل ما ناله منها.

وذلك أيضاً كل ما نلناه من طفولة ابن حزم، وهو كثير بالنسبة لغيره.

خاتمة

1ـ جاء القرآن الكريم بقواعد وتفصيلات تشريعية لرعاية الطفل صالحة للتطبيق فى كل زمان ومكان، تشمل رعاية الطفل قبل أن يولد ، ورعايته فى فترة الرضاعة وفى فترة الفصال ، ومع التركيز على رعاية اليتيم ..كما اتسعت تفاصيل القصص القرآني لمرحلة الطفولة فى قصص بعض الأنبياء .

وفى تراث المسلمين عن الطفولة جانب فقهي وآخر تربوي ..

الجانب الفقهي يتحدث عن حضانة الأطفال من الرضاع إلى سن التمييز وحقوق الطفل فى هذه المرحلة حتى ينال حظه كاملا من الرعاية والاهتمام حتى لو كان أبواه منفصلين.

والجانب التربوي يتناول تعليم الصبي منذ الخامسة أو السابعة إلى أن يصل مرحلة الشباب والرجولة ..

ودارت هذه الرعاية للطفل بين التعلم فى القصور والتعلم فى الكتاتيب الخاصة أو الخيرية ..

وتحدث فى أصول تربية الطفل سلاطين وخلفاء وفلاسفة ، كما طبق تلك التعاليم مؤسسوا الوقف الخيري التي اعتنت بتعليم الأيتام.. ولم تحظ فترة الطفولة بالتسجيل التاريخي في السير والتاريخ للأئمة والمشاهير خلا بعض لمحات تتحدث عن الحفظ والسيرة العلمية..

2- والحفظ لم يكن أسلوباً تربوياً سليماً لأن مجرد التلقين والاستظهار يخنق في الطفل الابتكار والاختراع ويجعله أسيراً لما يحفظ ومقلداً له مما يوقف عجلة التطور في المستقبل وذلك ما انتهت إليه الحضارة الإسلامية العربية، إذ توقفت ثم جمدت، ثم تأخرت.. وازداد مع الجمود تقديس السابقين وأصبح ما يقولونه من المحفوظات المقدسة، وحتى الآن فإن أئمة القرون التى كان فيه اجتهاد لا يزالون هم الأئمة حتى الآن في الفقه والحديث والتفسير لأن اللاحقين تعلموا حفظ أعمالهم دون نقدها أو البناء فوقها.

3- والتعصب سيئة أخرى، وإن لم ينفرد المسلمون بها وحدهم، لأن التعصب الديني والجنسي كان سمة أساسية في العصور الوسطي، ولا تزال آثارها الفادحة حتى الآن.

وكان هذا التعصب يصاحب الطفل في نشأته الأولي فيتربي على أساس رفض الآخر، والآخر يتربي على نفس الطريقة رفض الآخر.. وقد أفاض الفقيه ابن الحاج في شرح المساوئ- من وجهه نظره ـ التى تنجم عن تعلم الطفل المسلم لدى المعلم المسيحى الحساب، واعتبر ذلك من أصول الدين.. وكانت تلك لغة العصر، حيث الحروب الدينية والصليبية، وحيث سادت الهوية الدينية فوق كل اعتبار.

4- وإلى جانب التعصب الدينى كان هناك تعصب آخر ضد المرأة. فالواضح أن الطفل الذكر هو المقصود بالخطاب، وله كل الاهتمام، كأنه لا يوجد في الدنيا غيره، لأنه فعلاً لم يكن في الأذهان غيره.. والدليل أنك حين تقرأ كتب التراجم والسير لا تجد فيها إلا أقل القليل من النساء والقاسم الأعظم هو التاريخ للرجال.. والبداية منذ الطفولة، يحوز الطفل الذكر على كل شيء على حساب أخته الأنثي.. ويظل يتمتع بذلك إلى أن ينبغ فتفتح له صفحات التاريخ. ويقتضينا الإنصاف أن نذكر أن القرآن لم يفرق بين الطفل الذكر والأنثي في الرعاية والتربية والحقوق المتكافئة، ولكن هناك فرقاً بين القرآن والمسلمين، أو بين الجانب الإلهي من التراث والجانب البشري منه، وهو ما أشرنا إليه في التمهيد.

المصادر الأساسية

أولاً: القرآن الكريم

ثانياً: مصادر التراث

 

(1)

الأصفهانى:

محاضرات الأدباء- القاهرة 1287هـ

(2)

الجاحظ:

البيان والتبيين- القاهرة 1332هـ.

(3)

ابن الجوزى:

المنتظم- دار الكتب العلمية، بيروت ط1 سنة 1992م.

(4)

ابن حزم:

رسالة مراتب العلوم، ضمن رسائل ابن حزم مكتبة الخانجي بمصر بدون تاريخ/ طوق الحمامة تحقيق الطاهر مكي.

(5)

ابن خلدون:

المقدمة، المكتبة التجارية- القاهرة بدون تاريخ.

(6)

ابن خلكان:

وفيات الأعيان- القاهرة 1275هـ.

(7)

ابن سينا:

القانون. روما 1593هـ.

(8)

الغزالى:

إحياء علوم الدين- ط عيسي الحلبي 1957م تقديم بدوى طبانة

(9)

المدخل لابن الحاج العبدري:

دار الحديث بالقاهرة   1981م.

(10)

ابت قتيبة:

عيون الأخبار- القاهرة 1928م.

(11)

ثالثاً: بحوث

 

(12)

د/ أحمد شلبي:

التربية الإسلامية- مكتبة النهضة المصرية ط7 لسنة 1982م.

(13)

أبو بكر الجزائري:

منهاج المسلم مكتبة الكليات الأزهرية ط8 لسنة 1979م.

(14)

سيد سابق:

فقه السنة- مكتبة دار التراث بدون تاريخ.

(15)

د./ احمد صبحي منصور:

أثر التصوف في مصر العصر المملوكي- رسالة دكتوراه غير منشوره- مكتبة كلية اللغة العربية بالقاهرة- ج. الأزهر.

           
 

الفهرس

 

 

تمهيد:

 

 

(1)

القسم الأول:

رعاية الطفل في القرآن الكريم.

(  2  )

(2)

أولاً:

تحديد فترة الطفولة وملامحها.

(  3  )

(3)

ثانياً: 

رعاية الطفل قبل أن يولد.

(  5  )

(4)

 

1- حق الطفل في الحياة.

(  5  )

(5)

 

2) حق الطفل في الحياة مع أسرة سعيدة.

(  7  )

(6)

ثالثاً:

رعاية المولود في فترة الرضاعة.

(11  )

(7)

رابعاً:

رعاية الطفل في فترة التنشئة (من الفصال إلى الحلم).

(  15  )

(8)

 

1) التربية الدينية والخلقية للطفل.

(  16  )

(9)

 

2) تشريعات خاصة بالطفولة عموماً.

(  18  )

(10)

 

3) تشريعات خاصة بالطفل اليتيم.

(  19  )

(11)

خامساً:

ملامح الطفولة في قصص الأنبياء فى القرآن.

(  23  )

(12)

القسم الثاني:

رعاية الطفل في تراث المسلمين.

(  28  )

(13)

أولاً:

رعاية الطفل في فترة الحضانة.

(  28  )

(14)

ثانياً:

مقدمة عن رعاية الطفل في مرحلة الوعى.

(  31  )

(15)

 

أماكن التعلم بين القصور والكتاتيب الفردية والمؤسسات الوقفية.

(  31  )

(16)

ثالثاً:

آراء السلاطين والخلفاء في تهذيب الطفل وتعليمه.

(  33  )

(17)

رابعاً:

آراء الفلاسفة المسلمين في تربية الطفل وتعليمه.

(  36  )

(18)

خامساً:

الآراء العملية في مؤسسات الوقف التعليمية.

(  48  )

(19)

سادساً:

القواعد الأساسية للتربية .

 

 

(  51  )

(20)

 

 

(21)

سابعا

 

 

الخاتمة:

صورة الطفولة في تاريخ بعض الأئمة.

 

نظرة نقدية: الحفظ والتعصب..

(  52  )

(22)

المصادر:

 

(   57 )

             
 
اجمالي القراءات 30912