من علوم القرآن:القرآن والواقع الاجتماعى( 9 ): (لَّهُمْ عَذَابٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ..)
(لَّهُمْ عَذَابٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَشَقُّ وَمَا لَهُم مِّنَ اللَّهِ مِن وَاقٍ ) ( الرعد 34 )
القرآن الكريم لغة الحياة ، وما يقوله القرآن عن البشر يتجسد واقعا في حياة الناس ولا تملك إلا أن تقول ، صدق الله العظيم "
أولا : مقدمة :
1 ـ الحكم العسكرى المملوكى هو النموذج الكلاسيكى لكل حكم عسكرى ، من وقته وحتى الآن .
أهم مظاهر هذا الحكم هو الاستبداد وشدة العسف والظلم والمبالغة فى التعذيب ، وتوزيع البلاد والأراضى والعقارات إقطاعات على الجهاز العسكرى الحاكم ،على أساس أنهم يملكون البلاد والعباد ، والاستعانة برجال الدين لتبرير وتسويغ مظالمهم باسم الشرع ( السّنى ).
2 ـ امتاز الحكم المملوكى بطريقة عجيبة فى تداول السلطة . كانت العصور الوسطى تؤمن بحق السلطان فى توريث ابنه أو ولى عهده الحكم ، وتنتقل الى الوريث مقاليد السلطة حقا ( شرعيا ) له، وتكون البيعة له أمرا مقررا وروتينيا.
فى الحكم العسكرى المملوكى اختلف الأمر لأنهم عسكر ، ولأنهم جىء بهم من بلادهم رقيقا مملوكين ، ثم ينخرطون فى الحياة العسكرية ويصبحون أحرارا ، ويبدأ احدهم جنديا ثم يترقى ـ فى ظل نفوذ سيده الأمير المملوكى الأقدم منه ـ حسب كفاءته ، وقد يتفوق على استاذه السابق ويصل للسلطنة بينما يظل استاذه السابق خاملا ، مثل السلطان المملكى الأشهر الظاهر بيبرس ،الذى ظل يحمل لقب ( البدقدارى ) على إسم القائد المملوكى الذى اشتراه واعتقه ورعاه ، ووصل بيبرس للسلطة فى حياة استاذه البندقدارى . وقد عرضنا لتداول وتسلسل السلطة فى الدولة المملوكية فى مقال بحثى سابق منشور.
الذى نؤكده هنا أن ذلك النظام كان لا يعترف بأحقية الوريث فى تولى السلطة إلا إذا كان كفئا فى مواجهة كبار القادة العسكريين المماليك. إن لم يكن كفئا تحول الى لعبة مؤقتة بيد كبار القادة ، أو فترة انتقالية يتمكن من خلالها اكبر المماليك قوة من الاطاحة بالسلطان الوريث والحلول مكانه ، ثم بمرور الزمن ينسى السلطان كيف وصل للحكم ، فيعهد لابنه بالوراثة وينخدع كالعادة بالولاء الظاهرى من القادة العسكريين ، ويتولى الابن فيقع فريسة لأكبر قائد عسكرى ، أو يتصارع كبار القادة للوصول الى قمة الجهاز العسكرى ، ومن يصل الى القمة يكون هو المؤهل للاطاحة بالسلطان الوريث ، وتتكرر القصة ..
ونعطى بعض التوضيح ؛ نماذج من السلاطين المماليك فى الفترة البرجية .
3 ـ حكم السلطان المملوكى (المؤيد شيخ ) الدولة المملوكية فيما بين 815 : 824 .
وكان (المؤيد شيخ ) في سلطانه قد نفي أولاد السلطان السابق ( الناصر فرج ) إلي الإسكندرية، ليخلو له الجو بعد أن إغتصب الحكم من ورثة السلطان الناصر فرج . وبعد أن استوثق له الحكم عيّن ابنه (أحمد ) وريثا تولى الحكم بعده ، وإغتصب الحكم منه أكبر القواد من العسكر وهو ططر.أى كالعادة عهد بولاية العهد لابنه احمد بن شيخ فتولى الحكم وريثا لأبيه عدة أشهر عام 824 ، ثم عزله القائم بأمره وتولى مكانه ، وهو الظاهر ططر.
ولكن ططر مالبث أن مات موتة غامضة بعد عدة أشهر فتولى مكانه ابنه محمد بن ططر تحت رعاية برسباى .
وكالعادة ، ما لبث برسباى أن عزل السلطان الصغير محمد بن ططر وتولى مكانه عام 825 . وظل برسباى يحكم الدولة المملوكية الى أن مات عام 841 .
وبعد أن إستوثق الأمر للأشرف برسباى عهد لابنه العزيز يوسف بالسلطنة ، وكالعادة وبعد موت هذا السلطان ( برسباى ) وتعيين ابنه وريثا وسلطانا لم يلبث أن تم عزله ، على يد القائد جقمق الذى تولى السلطة فيما بين 842 : 857 ، و تكررت ( العادة ) فيما بعد ، و كما يدين الفتي يدان.
4 ـ أى عومل المؤيد شيخ بمثل ما فعله مع ورثة السلطان فرج ، وعومل كل سلطان بما عامل به أبن السلطان السابق ، ولم يتعظ أحدهم بما يجرى ، وكل منهم يقع فى نفس الحفرة ، وينخدع بالولاء المزيف من القادة التابعين له ، ثم يلقى ابنه نفس المصير ، مما يجعل الباحث المدقق يتساءل عن مدى سحر السلطة الفرعونية فى مصر الى درجة يفقد فيها الفرعون عقله متمسكا بالمقعد طيلة حياته ثم يورثه لابنه غير مدرك بأنه يجلس إبنه على قنبلة موقوتة.
5 ـ وعومل المصريون بأقسى أنواع الظلم ، من السخرة و المصادرات والتعذيب . وعلى هامش هذا الصراع على السلطة لحق بالمصريين الغلابة عذاب إضافى ، مع أنه لا ناقة لهم فيه ولا جمل .
ونعطى هنا مثلا من سلطنة الأشرف برسباى الذى حكم فيما بين 825 : 841 . وقد اشتهر بالشره وبالجشع والطمع والبخل، مع بقية الصفات والمناقب المعروفة فى أى نظام عسكرى حاكم، وهى الاستبداد والقسوة والظلم والفساد. وقد عاش فى عصربرسباى أهم مؤرخى مصر ، ومنهم المقريزى ( ت 845 )، وابن حجر (ت 852 )و العينى (ت 855) ، وابن قاضى شهبة (ت 851 ) وابو المحاسن (ت 874 ) . ونظرا لطول حكم هذا السلطان فإننا نتوقف مع السنوات الأولى والأخيرة فى حكمه لنتعرف على بعض مظاهر الظلم ، وموقف أكبر قضاة (الشرع ) .
ثانيا : لك يوم يا ظالم :!
1 ـ أقسى مرحلة فى السلطة المملوكية هى توطيد الحكم للسلطان الجديد ،الذى يريد التخلص من كل منافسيه القدماء ، ثم بعدها يتخلص من أصدقائه الذين ساعدوه فى الوصول للحكم وفى تثبيت ملكه . وبالتخلص من هذا وذاك ينعم بالانفراد بالحكم مستبدا .
بالنسبة للأشرف برسباى فلم يكتف بالتخلص من السلطان السابق المعزول محمد بن ططر ، بل توجس خيفة من السلطان الأسبق المعزول أحمد بن شيخ .ففي يوم الثلاثاء 16 شعبان 825 أمر السلطان برسباي بنفي الملك الأسبق ( أحمد بن المؤيد شيخ ) إلي الإسكندرية.
وكان منتظرا أن يتعظ الأشر ف برسباي مما حدث وأن يرجع عن الظلم ، ولكن الظلم كان السياسة الثابتة ، وكان الظالم يدفع الثمن في حياته ويدفعه أولاده بعد مماته ، ومع ذلك تتكرر القصة لتثبت أن الظالمين هم أغبي البشر .
2 ـ وعانى المصريون من هذا الصراع على السلطة فى بداية عصر برسباى :
فقد حدث مثلا في يوم الجمعة 7 شعبان سنة 826 أن هرب خصمه جانبك الصوفي من السجن في الإسكندرية واختفي ، فكان اختفاؤه سوط عذاب علي المصريين إذ كان أتباع السلطان يعتقلون الناس بتهمة إخفاء ذلك الأمير الهارب فيتعرضون للتعذيب الشديد ليعترفوا بمكانه . وظل البحث عنه ساريا واستمرت العقوبات وأنواع التعذيب حتى مات من الأبرياء كثيرون .
وفي شهر ذي الحجة سنة 826 جاءت وشاية للسلطان أن خصمه جانبك الصوفي قد اختفي في حارة الجودرية بالقاهرة ، فأرسل حملة إلي تلك الحارة ، وقاموا بتفتيش الحارة وإيذاء أهلها وضربوا أحد أعيانها واسمه ابن المزوق بسبب صلة مصاهرة بينه وبين الأمير الهارب ، ولم يعثروا علي شيء . وأمر السلطان بألا يسكن أحد في هذه الحارة فكانت حادثة شنيعة علي حد قول المؤرخ المقريزي !!
وقد صار هرب جانبك الصوفي نقمة علي الأبرياء من المصريين حتى صار من له عدو يريد إيذاءه يسارع بإبلاغ السلطات أنه يخبيء ذلك الهارب عنده ، وتأتي الشرطة لتعذب المتهم البريء وتنهب بيته .
وكان المقريزي ينقل أحداث الشارع المصرى متفاعلا معها ومتعاطفا مع ضحايا الظلم المملوكى ، خصوصا فى عهد برسباى ، حيث تكاثرت الأخبار وتكاثرت تعليقاته عليها بالاحتجاج والاستنكار . كان المقريزى يتألم لذلك الظلم المملوكي ويحتج عليه وهو يسجله كشاهد عيان فى تاريخه ( السلوك ) ،
3 ـ إختلف الوضع مع مؤرخ آخر كان يعاصر ذلك السلطان وينافقه ، إنه المؤرخ الفقيه المحدث المشهور ابن حجر العسقلاني فى تاريخه ( إنباء الغمر بأبناء العمر ) الذى يسجل أحداث عصره باليوم . إكتفى ابن حجر بنقل بعض ـ و ليس كل ـ وقائع الظلم ، وسجلها باختصار ، ودون أن يعقب عليها ، تملقا للسلطان الظالم وانحيازا له ضد المظلومين .
ابن حجر هو أشهر من قام بشرح البخارى فى كتابه ( فتح البارى ..). واشتهر بلقب (امير المؤمنين فى الحديث ).
ابن حجر كان يخدم السلطان ويعمل لديه قاضيا للقضاة ، ولقد خان وظيفته كقاض للقضاة ومتحدثا باسم العدالة ، فلم يعترض على السلطان برسباى حتى حين كان ذلك السلطان الظالم يتلاعب بالشرع فيقتل البريء وهو يعلم ببراءته، كان ابن حجر قاضي القضاة المؤرخ يكتفي بذكر الحادثة دون تعليق أو استنكار ، فهو في حوادث سنة 826 فى تاريخه (إنباء الغمر ..) يذكر أنه وجد قتيل بإحدى القرى فأمسك الوالي بأهالي القرية وهو لا يدري هل القاتل منهم أم لا ، ورفع أمرهم للسلطان برسباى فأمر السلطان بقطع أيدي بعضهم وقطع أنوف البعض الآخر وأمر بقطع بعضهم نصفين ..!!.. هكذا بدون تحقيق ـ لأن أجدادنا الفلاحين كانوا بلا ثمن عند ذلك السلطان المملوكي، ولا يساوون شيئا عند قاضى القضاة ابن حجر .
4 ـ ومثله فى ذلك فى ذلك الوقت كان العينى قاضى القضاه والفقيه المحدث المؤرخ ، التزم نفس المنهج فى تاريخه : ( عقد الجمان ).، منهج الاختصار مع تحاشى التعليق ، بل تفوق العينى (قاضى القضاة ) بكتابة مناقب لبعض السلاطين الظالمين منافقا لهم مثلما فعل للمؤيد شيخ فى كتاب: ( السيف المهند فى تاريخ الملك المؤيد )، وللظاهر ططر فى كتاب ( الروض الزاهر فى سيرة الملك الظاهر ).
المضحك أن قاضى القضاة العينى كان منافسا لابن حجر ، وكان مثله ممن يعبد البخارى ، وممن شرح البخارى فى كتابه :( عمدة القارى) .
5 ـ والعادة أن يتكىء كل مستبد ظالم على من يبرر له ظلمه باسم الدين ، ومن العادة أن يمتطى كل مستبد ظالم حفنة من رجال الدين (الأرضى ) يرقصون فى مواكبه ويسبحون بحمده ، وهكذا كان الحكم ( العسكرى ) المملوكى يحكم مصر وسوريا ، ولذلك كان هناك ميعاد للبخارى، وهو مناسبة سنوية لترتيل البخارى طيلة شهر رمضان فى ضيافة السلطان .
والسلطان المملوكى كان يحسب أنه بذلك يحسن صنعا .! ، وإنه بذلك يكفّر عن سيئاته و يضمن غفران ذنوبه .
6 ـ ونعود للسلطان برسباى الذى لم يكف عن الظلم حتى عندما استعد للجهاد ضد قبرص التي كانت ترسل سفنها تهاجم السواحل المصرية والشامية . ومع أن برسباي أعلن الجهاد إلا أنه حرص علي تسخير الناس في إنشاء السفن ، وقام بغصب ممتلكاتهم ، مما جعل المقريزي يسخر منه ويشبهه بمن يصلي بغير وضوء وبدون أن يتجه للقبلة . يعني أن جهاده معدوم الثواب .
7 ـ ولأن الله تعالي لابد أن يعاقب الظالم في الدنيا قبل الآخرة فقد جعل من ذلك السلطان الظالم برسباى أمثولة وعبرة في آخر حياته .
صحيح أنه ظل حاكما للنهاية ، ولكن شاء الله أن يجعله عبرة فى نهاية عمره ، حين كان في أوج سلطانه ، إذ سلط عليه المرض الشديد وأسمع الناس صرخاته وهو يتألم . وكما كان يصرخ ضحاياه تحت وطأة التعذيب ، كان هو يصرخ من آلام المرض .ووصل به الألم الى ما يشبه الصرع والجنون .
بدأ مرض السلطان برسباى في شهر شعبان 841 فأسرع يتصدق علي الفقراء مع بخله الشديد ، معتقدا أن صدقاته من ماله السحت مقبولة عند الله جل وعلا ـ كما صوّر له فقهاء دينه السّنى .
لم تنفع صدقاته فى شفائه فقد اشتد عليه المرض في شهر شوال من نفس العام ، إلا إنه كان يتظاهر بالعافية ويخرج للناس حتى يقضى على الاشاعات التى تسرى بين الناس عن مرضه . وفى النهاية لم يعد يجدى التظاهر والتمثيل ، ولم يعد يتحمل الوقوف والخروج واستقبال الوفود فغلبته شدة المرض وألزمته الفراش ، أسيرا بين يدى الأطباء.
8 ـ لم توجد خارج مصر فى عصر برسباى مستشفيات ألمانية وأمريكية يثق السلطان الفرعون في أصحابها ويطمئن للعلاج لديهم ، لذا أضطر للعلاج فى الداخل على يد طبيبين مصريين ،إلا إن علاجهما لم ينقذه من آلام المرض ، إذ استمر به المرض يعذبه ، ولم يعد الواء مجديا فى تخفيف الألم ، فامتد المرض الى نفسيته ، فكلما ازدادت آلامه ازدادت شراسته ووساوسه وسوء ظنه بالناس ، وتراءت له أشباح ضحاياه تتوعده ، وتوهم أن الجميع يتآمرون عليه ، ومنهم الطبيبان ، فاتهم الطبيبين اللذين يعالجانه بالتقصير في علاجه ، ثم اتهمها بالتآمر على حياته وأمر بتوسيطهما ـ أي قطعهما نصفين !!. فتم تقطيعهما نصفين .!!
9 ـ وتزايد الألم علي السلطان برسباى أكثر وأكثر حتى ظل عشرين يوما نائما علي قفاه ، وكان إذا أفاق يصرخ وينطق بما لا يفهم ، ثم يظل في إغمائه . ثم اجتمعت عليه الأمراض المختلفة من إسهال وإمساك وصرع وهذيان وآلام شديدة بالمعدة والأمعاء . وبسبب سوء حالته تنازل عن الحكم لابنه وريثه ولى عهده .
ثم منعوا من زيارته بعد أن أصبح مرض الصرع يلازمه ، وظل كذلك إلي أن مات عصر يوم السبت 13 ذي الحجة 842 .
10 ـ وأصبح موته فى عصره عبرة لكل ظالم .
وفى التعليق على مرضه قال عنه المقريزي:.
يرثي له الشامت مما به يا ويح من يرثي له الشامت .!!
ثانيا :
1 ـ إن الله تعالي يقول " (مَن يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ )( النساء : 123) ، فلابد لمن يرتكب السيئة أن يعاقب بها فى الدنيا والآخرة . والله تعالي يعاقب الظالم في الدنيا ويعاقبه في الآخرة ويقول تعالي عن الظالمين : ( لَّهُمْ عَذَابٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَشَقُّ وَمَا لَهُم مِّنَ اللَّهِ مِن وَاقٍ ) ( الرعد 34 ). والمؤمن الذي لا يظلم أحدا يعيش حياته آمنا في الدنيا والآخرة يقول تعالي " (الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ)( الأنعام : 82 ).
2 ـ وأحداث التاريخ تأتي تصدق أحكام القرآن ، فالظالم يدفع الثمن في الدنيا قبل الآخرة ، والذي يرفع يده ليصفع بريئا لابد أن يأتي اليوم ليذوق نفس الألم الذي أذاقه للبريء ، وقد يظل متمتعا بسطوته كما كان الأشرف برسباي ولكن الله تعالي يسلط عليه المرض فلا يغني عنه سلطانه شيئا . وأولئك الذين عذبوا الأبرياء في السجون عاشوا شيخوختهم تطاردهم أشباح المظلومين وإن نجوا من تقلبات السياسة لم ينجوا من العلل والأمراض والكوابيس واللعنات والاحتقار .
وكل أموال الدنيا ومواكبها لا تساوي أن يعيش الإنسان شيخوخته آمنة سعيدة متمتعا برضي الله وحب الناس والله تعالي يقول: ( لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَلَدَارُ الآخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ ) ( النحل /30 )
ختاما :
1 ـ حكم برسباى خمسة عشر عاما ميلاديا فيما بين ( 1422 : 1437 ) بالتاريخ الميلادى . ويحكم حسنى مبارك مصر منذ ( 1981 ـ ...). أى ضعف حكم برسباى .
ومن الممكن أن تعيد قراءة هذا المقال وتضع اسم ( مبارك ) مكان اسم ( برسباى ) لترى تشابها غريبا بين الشخصين ،لأن مبارك يشبه برسباى على المستوى الشخصى والخلقى بل وفى صحته وفى مرضه ، ولأن الحكم العسكرى المملوكى ـ بوجه عام ـ هو الأب الشرعى للحكم العسكرى فى مصر منذ حركة الجيش عام 1952 ، . أى تحت حكم العسكر الحالى وبقيادة حسنى مبارك تقدمت مصر الى الخلف لتعود حوالى 560 عاما الى الوراء .
بل هناك ما هو أنكى .
2 ـ فى عصر المماليك العسكر كان الاستبداد هو الثقافة السائدة ، وكان المماليك فى إنسجام مع ثقافة عصرهم ، يرون الاستبداد حقا شرعيا للحاكم. اما الآن فالعسكر المصريون فى تناقض مع ثقافة عصرنا القائمة على الديمقراطية و الشفافية وحقوق الانسان والحرية الدينية والفكرية .
يقف العسكر المصريون بقواتهم المسلحة الموجهة ضد الشعب المصرى الأعزل المنزوع السلاح والمنزوع الحماية ـ يحرمونه من التمتع بالحرية والديمقراطية وحقوق الانسان التى يتمتع بها البشر فى معظم بلاد العالم . ويستخدمون ضده أساليب التعذيب والقهر التى كانت معتادة فى العصر المملوكى والتى أصبحت مستهجنة ومستقبحة فى عصرنا.
3 ـ مع الظلم المملوكى فقد كانت لهم ايجابيات لا ينكرها مؤرخ منصف . معظم الآثار فى القاهرة تنتمى للعصر المملوكى . لم يهتموا ببناء قصور لهم ،إذ كانوا جنودا عسكريين ، يعيش السلطان فى القلعة متفرغا للحرب و السياسة والتآمر أومواجهة التآمر ، بينما يحرص على بناء المؤسسات الدينية ويوقف عليها الأوقاف ، وفيها يتعلم الصبيان والشباب مجانا بل ويأخذون الرواتب .
الآن فالعسكر المصرى يسير على سنة المماليك فى الظلم والاستبداد وتوزيع مصر الى إقطاعات بينهم ، ولكن لم نسمع أن واحدا منهم تبرع لاقامة مستشفى أو دار لرعاية الأيتام أو ( سبيل ) بالمصطلح المملوكى . وإذا كان السلطان المملوكى وكبار عسكره يعيشون فى القلعة فإن العسكر المصرى الحاكم يعيش فى قصور مترفة ناعمة ، لا يجد أحدهم وقتا للتعرف على حجراتها وإمكاناتها ، بينما يسكن المصريون القبور و العشش و العشوائيات ،أو يزدحم رب الأسرة مع أولاده وبناته فى حجرة واحدة .
4 ـ مع الظلم المملوكى فقد كانت مصر فى عهدهم تأخذ مكانتها فى المنطقة بل والعالم . كانت تمثل القوة (الاسلامية ) الكبرى عالميا فى مواجهة أوربا ، وكان فيها الخلافة العباسية ، وكانت حدود الدولة المملوكية تمتد من برقة غربا ومن شمال السودان جنوبا الى جنوب الأناضول وشمال سوريا والعراق شرقا .
المماليك هم الذين هزموا لويس التاسع وأنهوا الحملات الصليبية الآتية من اوربا ، وهم الذين دمروا الوجود الصليبى نهائيا فى الشام ، وهم الذين أوقفوا وأنهوا الزحف المغولى ، وهم الذين احتكروا التجارة الشرقية وجعلوا البحر الأحمر بحيرة مغلقة حماية للحجاز الذى كان بأماكنه المقدسة تابعا لهم ، والذين كانوا سادة البحر المتوسط. ثم إن السلطان برسباى هو الذى فتح قبرص وأسر ملكها واعاده اليها حاكما تابعا للقاهرة .
أى كان المماليك سادة الحرب وسادة السياسة ، وبهم ارتفعت مصر الى مكانتها اللائقة ، هذا مع أنهم لم يكونوا مصريين فى الأصل والمنبت .
حكم العسكر المصريون منذ 1952 فحققوا أكبر خيبة عسكرية وسياسية وحضارية وانسانية فى التاريخ المصرى ، وهو أطول تاريخ فى العالم . لا يدانيهم فى خيبتهم وفشلهم إلا نجاحهم الساحق فى قهر وتعذيب وإذلال الشعب المصرى .
5 ـ وفى ظل هذا القهر والظلم يتوجه المصريون لله جل وعلا أن ينتقم لهم ممن ظلمهم وقهرهم وسلب حقوقهم ، وجعل بقية شعوب العالم تسخر (منهم ) أو تتحسر (عليهم) أو تشمت ( فيهم) .
وربما لو قرأ هذا المقال مصرى مقهور لبادر بالوضوء والصلاة داعيا الهأ جل وعلا أن يجعل نهاية حسنى مبارك وعذاباته أشد وأنكى من نهاية برسباى .
أحسن الحديث :
( وَلاَ تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأَبْصَارُ مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُؤُوسِهِمْ لاَ يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاء وَأَنذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُواْ رَبَّنَا أَخِّرْنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُّجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ أَوَلَمْ تَكُونُواْ أَقْسَمْتُم مِّن قَبْلُ مَا لَكُم مِّن زَوَالٍ وَسَكَنتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُواْ أَنفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وَضَرَبْنَا لَكُمُ الأَمْثَالَ وَقَدْ مَكَرُواْ مَكْرَهُمْ وَعِندَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِن كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ فَلاَ تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انتِقَامٍ ) ( ابراهيم 42 : 47 ).
ودائما : صدق الله العظيم