مقدمة :
تحت عنوان حاسم وجازم يقول ("الإفتاء المصرية" تحسم الجدل: والدا الرسول "ناجيان من النار" ) قالت الأنباء :( حسمت دار الإفتاء المصرية الجدل حول مصير والدي الرسول محمد (ص)، فأكدت أنهما "ناجيان وليسا من أهل النار")
أولا :
هذا يستدعى وقفة قرآنية :
1 ـ المسلم فى صلاته يكرر 17 مرة قراءة الفاتحة ، وفيها أن الله جل وعلا وحده ، هو ( مالك يوم الدين )، ولكن اتضح لنا مؤخرا أن مالك يوم الدين ليس هو الله جل وعلا ولكن دار الافتاء ( بالتاء وليس بالسين ) المصرية . والدليل فى هذا الخبر الذى يحكم مسبقا ـ وقبل مجىء يوم الدين ـ بأن والدى النبى لن يدخلا النار وبالتالى فهما فى الجنة . بمعنى آخر فالأخ المفتى ( بالتاء وليس بالسين ) قد أصدر أمرا لرب العزة ـ قبل مجىء يوم الدين ـ بألأ يدخل والدى النبى للنار ، ومن حسن الحظ أن فضيلة المفتى ( بالتاء وليس بالسين ) لم يقرن هذا الأمر وذاك النهى بتهديد رب العزة وتخويفه من غضب دار الافتاء ( بالتاء وليس بالسين ) المصرية . هذا التطور الخطير فى صلاحيات ومخصصات دار الافتاء (....) وذلك النفوذ الأعظم للمفتى (..) قد وصل الى التحكم فى الآخرة ويوم الدين ، وبالتالى ننتظر الخطوة التالية وهى تغيير الفاتحة لتؤكد أن صاحب الفضيلة ( باللام وليس بالحاء المهملة ) هو مالك يوم الدين .
2 ـ والمسلم القارىء للقرآن الكريم يقرأ قوله جل وعلا آمرا خاتم المرسلين أن يعلن بكل وضوح أنه لا يعلم الغيب ولا يدرى ماذا سيحدث له او للآخرين فى الدنيا والآخرة (قُلْ مَا كُنتُ بِدْعًا مِّنْ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ وَمَا أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ مُّبِينٌ )(الأحقاف 9 )ولكن اتضح لنا أن المفتى المصرى يعلم الغيب الالهى الذى لا يعلمه خاتم النبيين ،أى إن منزلته فوق مستوى الحبيب المصطفى عليه السلام .!! ، وهذا طبيعى فطالما جعل نفسه فوق مستوى رب العزة يأمر وينهى رب العزة فمن المنتظر أن يكون مقامه أعلى من مقام النبوة .
3 ـ والمسلم القارىء للقرآن الكريم يقرأ تأكيد رب العزة لخاتم المرسلين ـ عليهم جميعا السلام ـ بأنه ليس له من الأمر شىء ، وأن موضوع تعذيب المشركين أو الغفران لهم مرجعه لله جل وعلا وحده (لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَن يَشَاء وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاء وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ) ( آل عمران 128 : 129 )، وبالتالى فطالما ليس للنبى محمد عليه السلام من الأمر شىء فلا يصح أن يكون لغيره من البشر أى شىء ،أو أى تدخل فى قبول التوبة او العذاب يوم الدين . ولكن إتضح لنا أن دار الافتاء ( ...) وأن المفتى ( ...) لهما كل شىء ، من أصغر ساعى يعمل فيها الى المفتى نفسه ، والسبب بسيط ومؤلم أن قوله جل وعلا للنبى (لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ) وهذا خطاب للنبى ومن هم على مستوى النبوة ، أما فضيلة ( باللام وليس بالحاء المهملة ) المفتى ( بالتاء وليس بالسين ) فهو أرفع مقاما وأسمى منزلة من الأنبياء والرسل .يكفى أن فضيلته معين من الحزب الوطنى الديمقراطى ، ويحظى بتقدير لجنة السياسات .
4ـ والمسلم القارىء للقرآن الكريم يعرف قوله جل وعلا لخاتم المرسلين على سبيل الاستفهام الانكارى : (أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ أَفَأَنتَ تُنقِذُ مَن فِي النَّارِ ) ( الزمر 19 )، أى لا يستطيع خاتم المرسلين أن ينقذ شخصا من العذاب طالما حكم الله تعالى عليه بدخول النار . ولكن من السهل أن يرد مفتى (...) الحزب الوطنى قائلا : يا عم دماغنا بقى .. قلنا ده عن النبى ..ودى مرحلة احنا تجاوزناها تنفيذا لتوجيهات السيد رئيس الجمهورية .!!
5 ـ والمسلم القارىء للقرآن الكريم يعرف التأكيد القرآنى المتكرر بأنه لا معقب لحكم الله جل وعلا يوم الدين ،( وَاللَّهُ يَحْكُمُ لاَ مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ ) ( الرعد 41 ) وأنه جل وعلا لا يبدل القول لديه : (مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَا بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ ) ( ق 29 )، أى أن كلمته جل وعلا هى الأولى وهى الأخيرة وهى الوحيدة ، أما سائر الخلق يوم القيامة فلن يستطيع أحد منهم ـ بما فيهم الأنبياء والملائكة ـ أن يتلفظ إلا بعد الإذن الالهى : (رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الرَّحْمَنِ لا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطَابًا يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا لّا يَتَكَلَّمُونَ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا ذَلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ )( النبأ ـ 37 ـ ) أى لا يملك أحد من الخلق أن يبدأ بخطاب رب العزة مالك يوم الدين ، فى هذا الموقف الرهيب عند العرض حيث يشهده الخلق جميعا صفا انتظارا للحساب (ذَلِكَ يَوْمٌ مَّجْمُوعٌ لَّهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَّشْهُودٌ ،وَمَا نُؤَخِّرُهُ إِلاَّ لأَجَلٍ مَّعْدُودٍ ،يَوْمَ يَأْتِ لاَ تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلاَّ بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ) (هود 103 ـ ). ولكن هذه الآيات الكريمة لا تتمتع عندهم بالتقديس او الاحترام لأنها تتنافى مع توجهات الحزب الوطنى الحاكم ، ولأنها تعنى أن السيد رئيس الجمهورية سيقف فى الصّف مثل بقية الخلق ، وهذا لا يجوز طبقا للبروتوكول ، فالسيد ( بالدال وليس بالسين ) رئيس الجمهورية هو الذى يعين فضيلة ( باللام وليس بالحاء ) المفتى ( بالتاء وليس بالسين ) ، وفضيلة المفتى هو المتحكم فى يوم الدين ، وبالتالى فكل ما يخالف توجهات السيد الرئيس لا يستحق الاحترام حتى لو كان دين الاسلام .
6 ـ والمسلم القارىء المتدبر للقرآن الكريم يتساءل عن موقف المفتى والأزهر ودار الافتاء من تلك الآيات القرآنية وغيرها ؟ ألا يقرءونها ؟ ألا يؤمنون بها ؟ ألا يلتزمون بها فيما يقولون وما يعملون ؟ والاجابة صاعقة ، فأولئك قوم يؤمنون بأن القرآن ناقص وأتى البخارى وغيره لاكمال النقص فيه ، وأن القرآن غامض وجاء فلان وفلان لشرحه وبيانه ، وأن القرآن يحتاج للبخارى بينما لا يحتاج البخارى ورفاقه للقرآن . وبالتالى فلهم فى السّنة كل ما يحتاجون ، وهى توفر لهم فرصة الاختلاف والجدال واتباع الأهواء مهما تباينت واختلفت ، وهم يختارون منها ما يشاءون ويتركون ما يريدون. لا يدرى المفتى إنه يكرر كفر قريش ومزاعمهم التى ردّ عليها رب العزة فى أوائل ما نزل من القرآن الكريم :(مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ أَمْ لَكُمْ كِتَابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَمَا تَخَيَّرُونَ أَمْ لَكُمْ أَيْمَانٌ عَلَيْنَا بَالِغَةٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ إِنَّ لَكُمْ لَمَا تَحْكُمُونَ )(القلم 36 ـ)
ثانيا :
هذا يستدعى وقفة حداد مستمرة على أحوال مصر .
1 ـ فى يوم 3 يونيو عام 1899 م - 24 محرم 1317 هـ تعين في منصب المفتي الامام محمد عبده ، وبعده بأكثر من قرن من الزمان تعين كاتب صحفى مغمور ليكون مفتى مصر ، كل مؤهلاته ثانوية عامة وشهادة بعدها من الأزهر ، ولكن يتمتع برضى الحزب الوطنى والنفوذ السعودى . أى اننا بفضل الوهابية نتقدم للخلف بسرعة هائلة ، بدلا من أن نبنى على اجتهاد محمد عبده نصل الى مفتى التبرك ببول النبى وشيوخ رضاعة الكبير الثعبان الأقرع .
وهذا التقدم للخلف تحت حكم العسكر تراه فى كل المجالات . لقد تمخض جبل ثورة 23 يولية فولد حسنى مبارك ، وأنجب عصر حسنى مبارك فئرانا كثيرة ومختلفة أصبحت تتزعم الثقافة و الفن والفكر والافتاء الدينى . بعد عبد الوهاب وام كلثوم أصبحنا نسعد بروبى وشعبان عبد الرحيم و أبو الليف ، وبعد محمد حسين هيكل والزيات وحتى محمد حسنين هيكل ومصطفى وعلى أمين أصبحنا ننعم بسمير رجب ثم رؤساء تحرير الاهرام والاخبار والجمهورية وروز اليوسف ..وبعد طلعت حرب فى الاقتصاد الوطنى عشنا عصر أحمد عزّ والمغربى ، وبعد الامام محمد عبده جاء زقزوق وجمعة والطيب والشرس والقبيح ..
أى تقزمت مصر لتصبح فى قامة حسنى مبارك ، واختار مبارك أقزاما أدنى منه ، وبدلا من أن يعلو السقف فى مصر فكريا وحضاريا ومعرفيا فقد وصل الى الحضيض ، ( هل نسيتم صفر المونديال )؟!!
ولكن فى المقابل فان حسنى مبارك جعل مصر تنافس أحط دول العالم الثالث والرابع فى الفساد و الاستبداد والتعذيب .
2 ـ من أسف أن المفسى ودار الافساء لم تصدر فتوى تحتج على التعذيب والقتل للناس فى البيوت والشوارع ، أو تحتج على السرقة والفساد والنهب العام لمصر ، وانتشار الجوع بين الأغلبية الكاثرة وانتشار الترف والتخمة بين الأقلية الواحد فى المائة .
بل على العكس تقوم دار الافساء وفضيحة المفسى بالتعاون مع شيوخ (الذى هر ) بالهاء الناس عن الثورة والغضب باصدار فتاوى مضحكة باكية من التبرك ببول النبى والتداوى ببول الابل الى رضاعة الكبير . ثم فى الوقت الذى يسجدون فيه للحاكم المستبد خضوعا وخنوعا فانهم يعتدون على رب العزة ، ويزعمون التحكم فى يوم الدين . لم يكفهم التحكم فى الدنيا فأضافوا التحكم فى الآخرة ، ولم يقتنعوا بالتحكم فى الناس فزعموا لأنفسهم حق التحكم فى رب الناس .أى ظلموا الناس وظلموا رب الناس .
أخر السطر :
من حق المسلم المتدبر للقرآن الكريم أن يتساءل عن جدوى الحاجة للمفتى ودار الافتاء فى أى مجتمع ناهض متحضر ؟
المفتى و داره فى الافتاء والشيوخ الكهنة الآخرون هم من مستلزمات الاستبداد والاستعباد ، ولهذا فسيظل أولئك عارا على مصر ودليلا على تأخرها وابتعادها عن منهج الاسلام.
أخيرا : خير الكلام :
يقول جل وعلا :( وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لافْتَدَوْا بِهِ مِن سُوءِ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَبَدَا لَهُم مِّنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ ) ( الزمر 47 ).
ودائما : صدق الله العظيم .!!