إستنباط بعض أسباب كثرة الفتاوى النكدية
أيها الأخوة والأخوات الكرام، سلام اللــه عليكم...
من دراستى وتتبعى لما كتبه الغزالى وجمال الدين الأفغانى ومحمد عبده وأيضا رشيد رضا ، إليكم ما إستنبطت من هؤلاء العلماء الأجلاء بقدر المستطاع، فقررت أن اشارككم معى فى هذا الإستنباط لعله يلقى بعض الضوء على موضوع الفتاوى. هذه السطور مجرد إجتهاد شخصى يق&Elde;ى يقبل الخطأ والصواب...
أن إخفاق الكثير من محاولات التحديث الدينى يعود الى عدم القدرة على ادراك الأولويات، والانخراط في مشاغل فكرية واجتماعية تبتعد عن مرمى التحديث، ولاتلامس مرتكزاته الأساسية، ولم تظفر بصياغة ادواته المنهاجية، ذلك ان بعض رجال الدين يُتقنون فن الاثارة، واستفزاز الجمهور، من خلال إطلاق مايشبه المفرقعات التي تصدم وجدان المسلم، وعادة ما تقتصر محاولات هؤلاء على إذاعة مجموعة فتاوى فقهية بديلة، في قضايا حياتية حساسة يبتلي بها عامة الناس. فيختزل تحديث التفكير الديني في ذلك، ويخلع الناس ابتداء على مثل هذه المحاولات ودعاتها عناوين (الانحراف, والتجديف, والتبديع) وفيما بعد يصفونها بـ(الاصلاح، والتحديث، والتجديد)، بالرغم من ان التحديث لايمكن إختزاله في مجموعة فتاوى، بل ان عملية التحديث تنطلق من موقع آخر، يطاول البنى التحتية والهياكل الأساسية، والجذور والمنابع، ومصادر الالهام التي ترفد الرؤية الكونية، وتتغذى منها المفاهيم الاعتقادية، والافكار الكلامية، والاحكام الفقهية. بمعنى ان الفقيه مثلا لايستطيع أن يستنبط أحكاما مواكبة لعصره الا اذا تغلب على أساليب الاستنباط الفقهي الموروثة واستبدلها بأساليب أخرى، اذ ان المعرفة الفقهية محصلة لمنطق خاص يتمثل باصول الفقه، وما لم يتمكن الفقيه من تجديد أصول الفقه والافلات من منطق الفقه القديم فليس بوسعه تجديد الفقه.
إن تشكيل معرفة دينية مداعمة للعصر يتوقف على إعادة بناء لاهوت جديد أوفلسفة دينية تحدد لنا مكانة الانسان في العالم، ونمط العلاقة بينه وبين الله، وحقيقة الدين، وحدوده، ومجالات التدين، وطبيعة الظاهرة الدينية...الخ. وهذا النوع من الابحاث يتطلب التحرر من الابستمولوجيا الكلاسيكية، وتوظيف معطيات الابتسمولوجيا والعلوم الانسانية الحديثة في الدراسات اللاهوتية.
ولاريب أن آية محاولة لتحديث التفكير الديني لاتنفتح على رؤية مختلفة في تحديد مدلول لغة الدين، لاتستطيع أن تخطو آية خطوة جريئة إلى الامام، تبلور اجتهادا بديلا، يسهم في بناء تصور يواكب العصر للدين والتدين. فإن الجمود عند فهم حرفي سطحي للنص، لايمكن أن يقدم لنا فهما جديدا، بل يكرر دائما ما قاله القدماء، وينتهي إلى مواقف محلك سِر.
لقد كان استبعاد (رشيد رضاـ حسن البناـ سيد قطب) لتراث الفلاسفة والعرفاء والمتصوفة، ونعته بأنه تراث باطني ضال ومنحرف، ونفي الرعشة الروحية عن الاسلام، أحد أهم العوامل لتنامي التيار السلفي النصوصي الحرفي، وهيمنته على الحياة الثقافية والسياسية والاجتماعية في دنيا الاسلام اليوم. وعجز التفكير الديني لدى الاسلام الأصولي وقصوره في الانفتاح على ما يعانده من الأفكار.
التفسير استناداً للترتيب
يظن الدكتور الجابري وآخرون أن ترتيب سور القرءآن طبقا لوقائع النزول - تاريخيا - أكثر عوناً في فهم النص القرءآني ودلالته وبخاصة من حيث العموم والخصوص والسياق التاريخي وأكثر توافقا واتساقا مع مسار السيرة النبوية ومعهود العرب الاجتماعي والاقتصادي والفكري والحضاري.
ومن المهم الاشارة هنا أن فكرة ترتيب القرءآن - زمنياً - فكرة قديمة، ظهرت في أوروبا في منتصف القرن التاسع عشر عدة محاولات علي أيدي المستشرقين لترتيب سور القرءآن ودراسة مراحله التاريخية. ولكن هذه الفكرة غير ذات جدوي أو قيمة وهي مستحيلة، لجملة أسباب؟.
ان أسباب النزول لا تستوعب القرءآن الكريم، لأن معظم آيات القرءآن الكريم نزلت ابتداء أي بدون سبب نزول خاص، فالآيات التي تتعلق بالعقيدة والإيمان والأخلاق وما يتصل بالكون والطبيعة والآيات التي تناولت قصص الأنبياء والأمم السابقة لا توجد لها أسباب نزول بل هناك آيات تشريعية لا تتعلق بأسباب النزول..
لا يمكن ترتيب سور القرءآن - زمنياً - لأن السورة الواحدة لم تكن تنزل دائما مرة واحدة ولذلك هناك آيات نزلت في المدينة ولكنها وضعت في سور مكية وهناك آيات مكية وضعت في سور مدنية .
وبناء عليه كيف يمكن ترتيب سور القرءآن - زمنياً - مع تداخل المكي والمدني؟
يقول د. صبحي الصالح وما أكثر الآيات التي وضعت في السطور علي حسب الحكمة ترتيباً وحفظت في الصدور علي حسب الوقائع تنزيلا واذا كان القرءآن الكريم ينزل علي الأسباب منجما تبعا لما تفرق من الوقائع فقد كان النبي الكريم يأمر بكتابة الآية مع ما يناسبها من الآية في المواضع التي علم من الله أنها مواضعها، رعاية للنظم القرءآني.
لقد تعرضت تصانيف القدامي أنفسهم في أسباب النزول للنقد الشديد وبخاصة كتاب أسباب النزول للواحدي و لباب النقول للسيوطي، ففيهما الكثير من الروايات المكذوبة، والمغالطات المنطقية والمبالغات العجيبة والغرائب المضحكة بل إن معظم روايات أسباب النزول متناقضة وباطلة ولا تعدو الروايات الصحيحة حول وقائع النزول وفي أحسن أحوالها، عن 200 آية من مجموع آيات القرآن التي تزيد علي 6000 آية فكيف يمكن ترتيب القرءآن بحسب النزول مع ندرته؟
مع أن الجابري بنفسه يشير الي أن المرويات تضخمت مع الزمن ودخلتها الاسرائيليات وبعض الروايات عكست الواقع الفكري والايديولوجي لزمن الراوي لا زمن الرسول والصحابة ومع ذلك يتمسك بترتيب القرءآن زمنيا.
ترتيب القرءآن - زمنياً - يَخّل بالنظم القرءآني البلاغي المعجز، ويناقض تناسب الآيات والسور وترابطها موضوعياً ويقطع الرابط المشترك بينها.
لهذا يقول جمال البنا في كتابه تفسير القرءآن بين القدامي والمحدثين بعد أن ينتقد القدماء في استسلامهم لهيمنة السند حتي فيما خالف المنطق والنص القرءآني إن أسباب النزول ليست لها الأهمية المظنونة، لأن الأغلبية العظمي من الآيات، توجيهات وأحكام عامة تكون العبرة فيها بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، ففي هذه الحالة لا يكون لأسباب النزول أهمية إلا إشباع الفضول.
أما قول بعض الكتاب: ان أسباب النزول من الأحكام بمثابة المذكرة التفسيرية التي تلحق بالقوانين ويعاد اليها لفهم ملابسات صدور القانون. فقياس غير صحيح ومعاملة للقرءآن كما لو كان أحد المراجع القانونية العادية وقد فات هؤلاء نقطة مهمة أشار اليها د. طه العلواني هي أن الرسول قام قبل وفاته توقيفاً بإعادة ترتيب آيات الكتاب وسوره، فقطعه بذلك عن أسباب النزول وعن تاريخ النزول وعن السياق الزمني، وذلك لحكمة عظيمة، منها بيان أن هذا الكتاب، كتاب مطلق عام وشامل لكل البشرية الي يوم القيامة وليس متوقفاً علي وقائع النزول.
أما ظن بعض الكتاب من أن إعادة ترتيب السور تبعاً لوقت نزولها لإلقاء الضوء علي ملابسات النزول وحتي يعي فهمها فهذا كله قياس للقرءآن علي الكتب العادية والقرءآن ليس كذلك.
النسخ في القرءآن
ما حقيقة القصة التي جاءت علي لسان بعض العلماء من مفسرين ورواة حديث أن ثمة آيات وربما سوراً قد سقطت أو رفعت أن القرءآن وقع فيه تحريف وهناك رواية منقولة عن عائشة رضي الله عنها تقول ان شاة أكلت بعض آيات القرءآن كانت تحت سريرها؟
ان الذي فتح الباب أمام هذه الروايات المشككة، مقولة النسخ في القرءآن لقد كانت هذه المقولة من أكبر الكوارث الفكرية التي انزلق اليها الاسلاف وانطلت عليهم فأجازوها جميعاً حتي قالوا انه الاجماع كما يقول الاستاذ جمال البنا في كتابه المتميز تفنيد دعوي النسخ في القرءآن الكريم. وقد بلغت بهم الجرأة علي كتاب الله أنهم ادعوا أن النسخ من خصائص هذه الأمة وأسرف بعضهم فقدر الآيات المنسوخة ب 565 آية، وبالغ بعضهم فقال ان السور التي لم يدخلها النسخ لا تزيد علي 43 سورة.
دعوي النسخ، دعوي كبيرة وعريضة ولع بها القدماء واستشرت بين المفسرين والمحدثين والفقهاء حتي لا تكاد تجد عالماً إلا وله كتاب في الناسخ والمنسوخ واعتبروه علما وصنفوه من ضمن شروط المجتهد ومن لا يعرف الناسخ والمنسوخ لا يعد فقيها.
حشد السيوطي في كتابه الإتقان في علوم القرآن كماً هائلاً من الروايات المنسوبة الي كبار الصحابة، مضامينها أن هناك آيات وسوراً حذفت أو سقطت أو نسخت، منها أن عائشة قالت: كانت سورة الأحزاب تقرأ في زمن النبي 200 آية، فلما كتب عثمان المصحف، لم نقدر منها إلا ماهو الآن.
وقول عمر : لا يقولن أحدكم أخذت القرءآن كله، وما يدريه ما كله! قد ذهب منه قرءآن كثير. وهناك رواية أن سورة الاحزاب كانت لتعدل سورة البقرة وعن أبى حذيفة : ما تقرؤون رُبعها، يعني سورة براءة وتزعم بعض المصادر أن سورتي الحفد و الخُلع كانتا في مصحف بعض الصحابة وعن عمر انه سأل عبدالرحمن بن عوف : ألم تجد فيما أنزل علينا أن جاهدوا كما جاهدتم أول مرة قال: سقطت فيما أسقط من القرءآن. وعن ابن عمر أن رجلين قرآ سورة عند الرسول فقاما ذات ليلة يصليان فلم يقدرا منها علي حرف فجاءا الي الرسول فقال: إنها مما نسخ.
ومن مبالغاتهم العجيبة أنهم قسموا النسخ الي ثلاثة أقسام
ما نسخ تلاوته وحكمه معا، ومثلوا له بقول عائشة كانفيما أنزل عشر رضعات يُحرمن، نسخن بخمس معلومات، فتوفي رسول الله وهن مما يقرأ منالقرءآن.
ما نسخ تلاوته دون حكمه، وشاهده المشهور آية الرجمالشيخ والشيخة اذا زنيا فارجموهما البتّة نكالا من الله وهذا ليس من جنس القرءآن فيشيء.
ما نسخ حكمه دون تلاوته. وهو جل ما ينصرف اليه معني النسخ عندهم، أوصله بعضهم الي 565 آية وخفضها آخرون الي 66 آية.
ومن المهم الاشارة الي أن معظم العلماء المعاصرين المدققين في قضية النسخ، أبلوا في تفنيد دعوي النسخ وقلصوا الآيات المدعي نسخها الي عشرين آية ثم جاء آخرون وقلصوها الي آية أو آيتين يحتملان التأويل - أيضا - وفي هذا المجال يجب الاشادة بجهد الدكتور الجابري في تفنيده دعوي النسخ بأدلة وبراهين قاطعة ولكن يجب أن نتذكر أن الجابري مسبوق بعلماء أجلاء تصدوا لقضية النسخ منذ بدايات القرن الماضي ولعل أبرز هؤلاء جمال البنا في كتابه الذي صدر عام 1982 بعنوان الأصلان العظيمان: الكتاب والسنة، رؤية جديدة ومنهم د. صبحي الصالح في كتابه مباحث في علوم القرءآن الذي قال: الولوع باكتشاف النسخ في آيات الكتاب أوقع القوم في أخطاء منهجية كان خليقاً بهم أن يتجنبوها لئلا يحملها الجاهلون حملاً علي كتاب الله.
ومن المبالغات أنهم قطعوا أوصال الآية الواحدة فزعموا أن أولها منسوخ وآخرها ناسخ. إن بعض المفسرين ظنوا أن أليس الله بأحكم الحاكمين مما نسخ بآية السيف مع أن هذا الكلام لا يقبل النسخ ولا التخصيص فإن الله أحكم الحاكمين أبدا ً . وبالمناسبة كلمة " سيف " لم تذكر فى القرءآن الكريم ولا مرة واحدة.
وقد أحسن الدكتور الصالح حين وصف عمل هؤلاء الذين تجرأوا علي كتاب الله بالقول بالنسخ من غير دليل يقيني متواتر بأنهم أساءوا الأدب مع الله.
يجب أن يكون واضحا ومؤكدا لكل قاريء مسلم أن القرءآن الذي بين أيدينا يقيني ومتواتر، ما سقط منه حرف، وما تغيرت فيه كلمة، وما نسخت منه آية، وكل الروايات والأقوال والنقول الموجودة في الكتب التراثية التي تتحدث عن سقوط آية أو كلمة أو نسخها، نحن غير ملزومين بها، وغير مطالبين بتصديقها بسبب بديهي وبسيط جدا.. ان القرءآن نقل إلينا بالتواتر اليقيني فأي قول بالسقوط أو النسخ يجب أن يكون يقينياً متواتراً حتي نأخذ به، فلا يقبل خبر الآحاد ولو كان صحيح السند الي الصحابي لثلاثة أسباب:
لا يقبل خبر الآحاد في القرءآن لأن القرءآن عقيدة والعقيدة لا تثبت بالآحاد لأن الآحاد ظني والعقيدة لا تثبت بالظن،
إن قول الصحابي هذا ناسخ وهذا منسوخ أو أن سورة الأحزاب كانت تقرأ في زمن النبي 200 آية فلما كتب عثمان المصحف سقط منها بعضها . هذا القول لا نقبله، لاحتمال أن يكون ذلك اجتهاداً منه وقد يكون مخطئا في اجتهاده أو أن ذلك محمول علي الكتابة التفسيرية التي كتبها الصحابي في مصحفه الخاص به، مثل اجتهاد الصحابة في ترتيب مصاحفهم الخاصة باختيار شخص لا يلزمون به أحداً، ولو كان الصحابي يعتقد حقا ان ما سقط قرءآنا وأوسعه أن يسكت حين استنسخت اللجنة الرباعية المصحف الإمام في عهد عثمان ولتمسك بموقفه ودافع عنه.
إن القرءآن الكريم يقول في أكثر من آية إنه لا تبديل لكلمات الله، لا مبدل لكلماته ويقول: إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون فكيف تتأتي هذه النقول المهزوزة مع الحفظ؟
ان القول بالنسخ هو الذي جرأ البعض ليقول أن آية السيف نسخت 124 آية، وهي الآيات التي تتعلق بالسلام والتسامح وحرية العقيدة والمودة مع المخالفين في الدين والدعوة بالحكمة والحسني والحوار البناء وفتح الباب للقول بحرب الابتداء أو الهجوم المسمي جهاد الطلب والذي علي أساسه قسم الفقهاء الدنيا الي دار إسلام ودار حرب وانتقل الي ثقافة وأدبيات القاعدة وزعيمها في القول بالفسطاطين، وكل ذلك لغو لا قيمة علمية أو معرفية له، إذ لا يوجد أدني تناقض بين آيات القتال التي سموها آية السيف وآيات السلام، فآيات القتال لمن يقاتلنا ويعتدي علينا وآيات السلام لمن يسالمنا ويصالحنا والقرءآن لم ينزل ليضرب بعضه بعضاً ولا يأتيه الباطل أبداً ولكن القرءآن يراعي ظروف المجتمعات وتحولاتها ولكل حالة ما يناسبها من الأحكام بحسب قدرة المجتمعات وامكاناتها وتطورها وعلي ذلك فآيات الصفح والسماح والعفو لا تتعارض مع آيات القتال كما تصوره عشاق النسخ المولعون به.
أمثلة من كتاب إبن الجوزى فى نواسخ القرءآن..
وقد يقال ان كبار العلماء القدامي أقروا النسخ ونقول ان ذلك تأثر بهيمنة الاسناد وروح العصر وقد يقال ان القرءآن بنفسه صرح بإمكانية النسخ في آياته في الآية ما ننسخ من آية أو نُنسها نأت بخير منها أو مثلها وهل بعد تعبير القرءآن تعبير؟!
وفات هؤلاء أن القرءآن الكريم لا يستخدم كلمة آية بمعني النص القرءآني ولكن بمعني الحُجة، والدلالة، والبرهان، والمعجزة التي تثبت النبوات، واذا أراد القرآن الاشارة الي النصوص يستخدم كلمة آيات ولو راجعت المعجم المفهرس لألفاظ القرآن وجدت أن كلمة آية وردت في 82 موضعاً، ولا توجد آية بمعني نص أو جملة قرءآنية والمقصود بالآية - هنا - ما ننسخ من آية.... المعجزة أي معجزة الاسلام القرءآن التي نسخت المعجزات السابقة.
ان عقيدتنا الثابتة وعقيدة كل المسلمين أنه لا سقط ولا حذف ولا نسيان ولا سهو في توثيق القرءآن، ولا يضر القرآن شيء أن أكلت شاة وريقات أو أكثر، فيها آيات، لأن القرءآن - من قبل ذلك ومن بعد - محفوظ وموثق في صدور آلاف الصحابة يتلونه آناء الليل وأطراف النهار ويسمعونه من الرسول خمس مرات في اليوم وكان الشخص يمر ببيوت الصحابة في غسق الدجي يسمح فيه دوياً كدوي النحل بالقرءآن، فالكتابة ليست الأساس في حفظ القرءآن لأن الاعتماد علي الذاكرة والحفظ وكان العرب مشهورين بقوة الحفظ والذاكرة وكان النبي سيد الحفاظ وأولهم والله سبحانه وتعالي تكفل بحفظ كتابه وجمعه في صدر الرسول حين قال له: لا تحرّك به لسانك لتعجل به، إن علينا جمعه وقرآنه .
ان الاعتماد في نقل القرءآن علي حفظ القلوب والصدور لا علي خط المصاحف والكتب . ولكن اضافة الي الحفظ أمر الرسول بكتابة القرءآن فور نزوله - أولا بأول - وكانوا يكتبون في العُسُب و الرقاع و الأكتاف و اللخاف ونهاهم عن كتابة أي شيء غير القرءآن حتي تتوفر جهودهم وهممهم علي القرءآن وحده ، وكان الرسول يُملي القرآن عليهم ويوقفهم علي ترتيب الآيات ومكان كل آية من سورتها وأختها. وأخيراً يهمنا أن نذكر ما أكده د. محمد عبدالله دراز في كتابه الفذّ مدخل الي القرءآن الكريم إن هذا المصحف هو الوحيد المتداول في العالم الاسلامي - بما فيه فرق الشيعة - منذ ثلاثة عشر قرناً من الزمان ويضيف ما أكده المستشرق لوبلوا في قوله القرءآن هو اليوم الكتاب الرباني الوحيد الذي ليس فيه أي تغيير يذكر . وقول موير لا يوجد إلا قرءآن واحد لجميع الفرق الإسلامية المتنازعة.
نزع القداسة عن القرءآن
ولنقرأ ما يقوله الجابري من انتشار سهولة تفسير القرءآن الكريم لدي العلماء وحتي لدي العامة فبسهولة يجري الاستناد الي النص القرءآني وتفسير النصوص بحيث يتم تكفير الناس استناداً لهذا التفسير؟
نقد النص المقدس غير مطروح ولا ينبغي لمسلم، لكن نقد الفهم والاجتهاد والتفسير مطلوب دائما لأن النص القرءآني مفتوح لكل زمن ولكل مجتمع، والمفسرون القدامي إنما فهموا النص في ظل معطيات زمنهم ومجتمعهم وروح عصرهم وهذا سر اختلافهم وتعدد تفاسيرهم، وتجديد المفهوم الدينى، إنما يعني تجدد فهم النص تحرراً من تفاسير معوقة للنهوض أقامت حواجز وسدودا بيننا وبين الآخر وعطّلت تفاعلنا مع العصر وعزّت روح الممانعة في مجتمعاتنا بدلا من التفاعل النقدي الخلاق مع التراث ومع الآخر وجعلتنا نبحث عن حلول لمشكلات العصر في حلول القدامي لمشاكل عصرهم.
إن الدراسات الحديثة المعتمدة علي مناهج معرفية معاصرة تخدم النص القرءآني وتضمن تفاعله وواقع مجتمعاتنا بأكثر مما فعله القدماء الذين حشوا التفاسير بكم هائل من الاسرائيليات والخرافات وفتحوا باب النسخ فعطلوا عمل الآيات المنسوخة من غير حجة ولا برهان.
ولو اطلعت علي كتب التفاسير لأدركت مقدار بعض المفسرين في حق كتاب الله وكيف فرغوا التوجيهات القرءآنية من مضامينها الانسانية العامة تأثرا بروح عصرهم وتماشيا مع الوضع السياسي القائم المُلك العضوضي وخضوعاً لهيمنة الاسناد فامتلأت التفاسير بمرويات ضعيفة. ويقول الشيخ عبدالمنعم النمر إن القرءآن الكريم لم يحظ بتفسير مروي عن الرسول ولا عن صحابته إلا في آيات قليلة جدا.ً
دخلت ثلاث مجموعات مجال التفسير: اللغويون والمذهبيون والإخباريون، اللغويون ركزوا علي الصناعة اللغوية والنحوية وفرغوا النص من مضمونه وأرادوا أن ينزلوا القرءآن علي قواعدهم فإذا أعياهم انزلقوا الي قول مالا يحمد، وأما المذهبيون فحاولوا اثبات مذاهبهم بتعسف التفسير وأما الإخباريون فانشغلوا بالاسرائيليات من خلق آدم وحتي قيام الساعة .
ولا يعد هذا النقد أو تلك الدراسة نزعاً للقداسة فالقدماء ما تركوا، صغيرة ولا كبيرة مما يتصل بتاريخ القرءآن وتدوينه وتفسيره إلا وبحثوه وتعمقوا فيه والمكتبة القرآنية تعد بالآلاف وهي الأضخم في المكتبة التراثية، ويبقي أن نحمد للجابري كتابه مدخل الي القرآن فقد صحح كثيراً من المقولات والمفاهيم والآراء والنظريات وأعاد للعلم القرءآني اعتباره الصحيح. وإن كنا نختلف معه في بعض آرائه عن عدم أمية الرسول صلي الله عليه وسلم وترتيب سور القرءآن حسب النزول.. ولكن جهده بوجه خاص في نقض مفهوم النسخ في القرءآن أمر جدير بالتنويه.
وأما فيما يتعلق بتهم التكفير استناداً لانتشار التفاسير بين الناس فلا أظن العلة محصورة في انتشار التفاسير وكان ذلك داء مزمنا ملازما للثقافة المجتمعية التي تحكمها نزعات تعصبية واقصائية وتسلطية موروثة ومازالت تعمل عملها في تشكيل تصرفات وسلوكيات الناس تجاه بعضهم بعضا وفي تحديد مواقفهم وفي تصنيفهم لبعضهم بعضاً فهذا شيوعي وذاك علماني وفلان زنديق أو فاسق.. الخ
وذلك مسؤولية التربية أولاً والتعليم ثانيا والخطاب الديني ثالثاً والاعلامي رابعا.. يجب أن تتفق كافة الأطياف المجتمعية علي أن التكفير ومثله التخوين خطان أحمران لا يجوز لأحد أن يقذف بهما الآخر المخالف له ويجب أن نتفق علي تحريم ذلك ومقاضاة من يقترفه.
نحن لا يخالجنا شك فى أن كل ما روى من أحاديث عن نسخ، وإضافة، وزيادة، فى القرءآن، إنما هو جزء مما أشار إليه القرءآن الكريم عندما قال ﴿.. وَالْغَوْا فِيهِ..﴾ وقد ركبت لها أسانيد ثقات حتى لا يُشك فيها، وجازت الحيلة على المحدثين لأنهم أسرى الإسناد.
تفاعلت هذه العوامل كلها ما ائتلف منها أو ما اختلف وسارت قدماً خلال قرنين أو ثلاثة وضعت فيها أسس المعارف الإسلامية، وقدمت للدولة الإسلامية المتشحة بعباءة الخلافة، والمجتمع بعلاقاته الاقتصادية والاجتماعية الأطر، والأسس التى تقوم عليها، ويجد فيها سنده التشريعى.
وظهر هذا كله كتطور طبيعى، بل بدا أمراً رائعاً فقد وضعت قواعد وأسس كل المعارف الإسلامية من حديث، أو تفسير، أو فقه، أو عقيدة، ولم يخطر ببال أحد من الذين اشتركوا فى هذه العملية أنهم ابتعدوا عن قيم قرءآنية ، لأن عملية التحول تأثرت تأثراً تدريجياً، ثابتا بالعوامل التى كانت تفقد النصوص القرءآنية مضمونها الثورى خاصة وأن المعالجة كانت أشبه بتقطيع أوصال الإسلام ومعالجة كل جزء على حده، وفرض التخصص ضروراته وأولها العناية بالجزء على حساب الكل.. ففى علوم القرءآن كان هناك الذين يفسرونه تفسيراً لغوياً، أو مذهبياً، أو بالآثار كما كان هناك مجموعة أخرى عنيت بقضايا مثل النسخ أو أسباب النزول أو استخلاص الأحكام، وفى الحديث كان هناك علم الرواية وعلم الدراية.. وفى الفقه كان الفقه ينعزل شيئاً فشيئاً عن أصول الفقه، ووراء الجميع، وفى أصل اتجاهاتهم كانت روح العصر تسيرهم دون أن يعلموا فما كان يمكن لثورية القرءآن التى قامت فى المدينة، وعلى يدى الرسول نفسه أن تستمر، لقد قبض الرسول، وتوارى الصحابة واحداً بعد آخر فلم تأت المائة حتى كان أخرهم يلفظ أنفاسه، واتسعت الرقعة من "أم القرى وما حولها" إلى إمبراطورية شاسعة لها مقتضيات واحتياجات وتربطها روابط وعلاقات وتواجه قضايا ومشكلات تختلف تماماً عما كان عليه الأمر فى المدينة.
ولو قدر لأحد الصحابة أن يبعث فى عهد المتوكل ببغداد أو الفاطميين فى مصر أو عبد الرحمن الناصر فى الأندلس لصعق لما يرى من افتراق بعيد بين ما كان يألفه ويفهمه أيام الرسول وما يلمسه فى هذه المناطق وما يتحدث به هؤلاء الأئمة الأعلام.. ولم يستشعر أحد من هؤلاء الأئمة هذا الافتراق لأنه حدث تدريجيا وعبر مراحل تسلم كل واحدة إلى الأخرى فلم يلحظ أحدهم الاختلاف لأنه كان كمن يشاهد نفسه فى المرآة يوما بعد يوم وشهراً بعد شهر فلم تروعه أثار السن، ولو أنه لم ينظر فى المرآة منذ أن كان فى العشرين مثلا حتى أصبح فى الخمسين لراعه الفرق الكبير.
ونحن بالطبع أبعد ما نكون عن أن ننتقد الأئمة الذين وضعوا أسس هذه النقلة، لأن هذا كان أمراً طبيعياً بعد أن ُصفيت الثورة مع مقدم الملك العضوض، ثم ما تلا ذلك خلال قرنيين حافلين بالأحداث والعوامل التى كانت تطور، وتكيف وتغير النظر فى النصوص القرءآنية والأحاديث النبوية وكان بعضها بعيداً كل البعد عن أصول الإسلام، كتلك النقول المسهبة عن التوراة فى كتب التفسير، أو الأحاديث الموضوعة أو طريقة معالجة المنطق الأرسطى، ولكنها تزيت بزى الإسلام وأقحمت فيه عن طريق روايات جازت عليهم لأنها استمدت الشرط الشكلى (كالسند مثلا) ومن المؤكد أنه لم يخطر ببال أحد من الأئمة الأعلام أن ما يقوم به يفرغ نصوصاً قرءآنية من مضمونها الثورى، أو يجافى السنة الفعلية للرسول، فلعله لو تنبه لتردد، ولكن مثل هذا التنبه ما كان يمكن أن يحدث لأن الغمار والتيار والسياق وتدافع الأحداث وتوالى عوامل التحول كلها حالت دون ذلك، وأنظر مثلاً إلى ثورة المفسرين على أبى مسلم الأصفهانى وهو المفسر الوحيد الذى أنكر النسخ فقالوا أنه "جاهل بهذه الشريعة المحمدية جهلاً فظيعاً وأنه "من شياطين المعتزلة" وأن إنكاره للنسخ "لا يصح من مسلم ممن يدعى إسلامه إلا بتأويل" وأنظر كذلك الاستقبال العدائى للطوفى الذى أعلن فكرته عن أن المصلحة هى أول مقاصد الشريعة، وتأمل المعارك التى شغلت معظم حياة ابن تيمية مع فقهاء المذاهب، والتى لم يخلص منها إلا بفضل طلاقة لسانه وثبات جنانه، ومع هذا سجن مراراً، وقل مثل هذا على ابن حزم وابن رشد وكانا من خيار الفقهاء.
ما نريد أن ننتهى إليه هو أنه بتأثير قوى عديدة حدثت عملية تحول تدريجية انتهت بنقلة – تكاد تكون نوعية – جردت القرءآن الكريم من مضامينه الثورية – ومع أن هذا لم يكن مقصوداً على وجه التعيين – من المفسرين والفقهاء والمحدثين الذين مارسوا هذه العملية وأحلوا محلها مضامين تدعم الحفاظ، إلا أنها انتهت إلى هذه النهاية لأنها كانت حكم العصر ومقتضى التطور.
وأخذت هذه العملية التدريجية الطويلة شكل تفسير القرءآن الكريم تفسيراً يجعله كتاب قصص وحكايات، ومعلومات وليس رسالة هداية وثورة، إيثار المنهج التقليدى النقلى على المنهج التحرّرى القرءآنى وتسخير السنة لتبرير ذلك مما شل ملكة التفكير، خاصة بعد إغلاق باب الاجتهاد، إقحام مضامين لاهوتية أفسدت عقيدة الله وشقت وحدة الأمة -وأدت فيما أدت إليه- إلى ظهور التصوف، وغيره من الاتجاهات.
متى يتعلم الأزهر أنه جامعة وليس كنيسة أو محكمة تفتيش
مرة أخرى نعود إلى هذا الموضوع الذى كنا قد ظننا إننا انتهينا منه، وأن الأزهر قد فطن إلى أن إيكال أى مهمة تتعلق بمصادرة الفكر المخالف إنما توقعه فى شر المآزق وتلوث سمعته، وتكسبه عداء الأحرار ثم لن يصل عمله هذا إلى إلا إعطاء شهرة للمادة المصادرة بحيث تصبح من أكثر المطبوعات انتشاراً، فإذا صودرت فى القاهرة طبعت فى بيروت وغيرها، وسربت إلى مصر، أو كتبت على الإنترنت، ويصبح مؤلفوها أبطالاً وتصبح المصادرة موضوعاً للتنديد والتبكيت. والأزهر بعد هذا جامعة مهمتها هى نشر المعرفة ودعم كل بحث عن الحقيقة وإفساح المجال لكل رأى ما دام صاحبه يؤمن به ويدافع عنه بحجج من المنطق حتى لو كان مخطئاً لأن الخطأ جائز على الجميع "وكل بنى آدم خطائون" ولكن سماحة وعبقرية الإسلام أنه يكافئ المجتهد المخطئ لأنه بذل جهداً وأن لم يوفق للصواب.
إنها لسُّبه أن يعطى بعض رجال الأزهر الضبطية القضائية فما بنى الأزهر ليكون "قسم بوليس" ولا عين علماؤه للقبض على الكتاب والمفكرين. وملاحقة المخالفين هذا قلب للأمور.. وقلب إلى السيئ. وإننى لأعجب لتهرب المسئولين وتسترهم وراء ألفاظ وعجزهم عن حماية الدستور الذى يقرر حرية الفكر.
والأحاديث غير القرءآن. فالقرءآن كما يعلم الفقهاء متعبد بلفظه ولا يمكن تغيير كلمة، وقد حفظه الله تعالى من كل تحريف. ومن هنا يحق حمايته. أما الأحاديث فكما يعلم كل من لديه مبادئ الثقافة الإسلامية أنها تعرضت لغارة كاسحة من الوضاعين الذين وضعوا الأحاديث ترويجا لدعاواهم أو كيداً للإسلام، أو حتى "حسبة" كالذى وضع الأحاديث فى فضائل كل سورة وثواب كل واحد يقرأها فالناس أنصرفوا عن القرءآن إلى الفقه. وحتى لو لم تتسرب مئات الأحاديث إلى ما يسمونه "الصحاح" فإن تسوية الأحاديث بالقرءآن تجاوز يأباه الإسلام.. ويأباه القرءآن نفسه.
والأنكى من هذا كله "الكتب الدينية" ومعنى هذا أن المجتمع يريد أن يتحكم فى الفكر الإسلامى، وفى كل ما يكتب عن الدين. لقد قرر الإسلام حرية الفكر، وحرية الإيمان وحرية الكفر وحث على الفكر والنظر والاجتهاد وذم الغافلين يقول اللـــه سبحانه:
(والذين إذا قيل لهم اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا) 2:170
فما لهؤلاء القوم لا يفقهون حديث....ا