(1 )
( المنتظم فى تاريخ الأمم والملوك ) من أهم ما كتب المؤرخ الفقيه المحدث الحنبلى أبو الفرج عبد الرحمن ( ابن الجوزى ) المتوفى سنة 597 . وقد كتبه على مثال تاريخ الطبرى فى التأريخ لكل عام وباستعمال العنعنات بطريقة أهل الحديث ،أى روى فلان عن فلان. إلا إن ابن الجوزى كان يبدأ بأحداث العام ثم يختم الاحداث بالترجمة او التاريخ لمن مات فى نفس العام. يذكر ابن الجوزى قصة ملك كردى مجهول توفى على فراشه آمنا مطمئنا وقت الاضطرابات والمحن سنة 453 هجرية.هو سلطان كردى أعجوبة نحتاج الى وجود مثله فى عصرنا.
( 2 )
يقول عنه ابن الجوزى فى ( المنتظم )
( أحمد بن مروان أبو نصر الكردي صاحب ديار بكر وميافارقين.) أى سلطان ديار بكر وميارفارقين. (..استولـى علـى الأمـور بديـار بكـر وهـو ابـن اثنتيـن وعشرين سنة) أى منذ شبابه استولى على تلك المنطقة التى كانت ـو لا تزال ـ منطقة قلاقل وأزمات، خصوصا لأنها كانت تقع فى هذا العصرعلى الحدود مع الدولة الرومية البيزنطية ، ( وعمّر الثغوروضبطها،) الثغور هى مناطق التخوم العسكرية التى كانت تنطلق منها غزوات المسلمين مع الروم ، وتتلقى ضرباتهم. أى أن هذا الشاب لم يكتف بتوطيد سلطانه فى الداخل ، وانما قام باحكام سلطانه على الثغور فى مواجهة العدو الخارجى. ثم تبقى له وقت للمتعة ، يقول ابن الجوزى عنه ( وتنعم تنعمًا لم يسمع به عن أحد من أهل زمانه، وملك مـن الجـواري والمغنيـات مـا اشتـرى بعضهـن بخمسـة آلـاف دينـار واشتـرى منهـن بأربعة عشر ألفًا، وملك خمسمائة سرية سوى توابعهن وخمسمائة خادم، وكان يكون في مجلسه من آلات الجواهر ما تزيد قيمته على مائتي ألف دينار، وتزوج من بنات الملوك جملة.) .. يا للهول !!
لم يأته القلق إلا من جيرانه المسلمين ، حيث كان الأتراك السلاجقة الوافدون من أواسط أسيا الى الشرق الأوسط يسيطرون على مقاليد الخلافة العباسية ، و يطمعون فى كل إمارة وسلطنة خارج نفوذهم. وكانت ديار بكر و ميافارقين أقرب اليهم ، خصوصا وهى دولة مسالمة إزدادت بالأمن والسلام ثراءا وغنى فى عهد سلطانها أحمد بن مروان الكردى.
ماذا فعل السلطان الكردى العبقرى؟ يقول عنه ابن الجوزى : ( وكان إذا قصـده عـدو يقـول: كـم يلزمنـي مـن النفقـة علـى قتال هذا؟ فإذا قالوا: خمسون ألفًا بعث بهذا القدر أو مايقع عليه الاتفاق، وقال: أدفع هذا إلى العدو وأكفه بذلك . وأمن على عسكره من المخاطرة.)أى كان يقدر حساب الربح والخسارة فى المواجهة الحربية ، فيحسب تكلفة حربه مع هذا العدو الطامع فيه ، ثم يرسل اليه بالأموال التى كان سينفقها فى الحرب معه ليؤكد الصداقة معه ، وبذلك يحقن الدماء هنا وهناك. هذا بالطبع مع احتفاظه بجيش قوى رادع يجعل الاعتداء عليه مهمة صعبة وثقيلة على من يفكر فيها.وكان ما يدفعه للطامعين المعتدين على قدر قوتهم وتكلفته فى حربهم اذا حاربوه. ولذلك أعطى أكبر مبلغ من المال لطغرلبك السلجوقى أقوى الحكام فى عهده، أعطاه ما كان يعرف بجبل الياقوت، يقول ابن الجوزى عن السلطان الكردى أحمد بن مروان ( وأنفذ للسلطان طغرلبك هدايا عظمية ومنها: الجبل الياقوت الذي كان لبني بويه، وابتاعه من ورثـة الملـك أبـي منصـور بن أبي طاهر، وأنفذ مع ذلك مائة ألف دينار عينًا. ) أى أنه ابتاع ( جبل الياقوت ) من ذرية آخر ملوك بنى بويه الذين سيطروا على الخلافة العباسية قبل السلاجقة ، واحتفظ به لأزمات الدهر ، وبه استطاع أن ينقذ نفسه ومملكته من حرب شاقة مع أقوى سلطان سلجوقى فى عصره. ونتابع ما قاله عنه ابن الجوزى : (ووزر له أبو القاسم المغربي نوبتين) أى صار وزيرا له مرتين ( ووزر له أبو نصر محمد بن محمد بن جهير،) أى استوزر مشاهير الحكماء من خارج مملكته. وبالتالى أصلح أحوال الناس فى عهده بالسلام و الرخاء ، يقول ابن الجوزى ( وراجت الأسعار في زمانه، وتظاهر الناس بالأموال ووفد إليه الشعراء وسكن عنده العلماء والزهاد) أى لحق به وهاجر اليه الشعراء و الأدباء والزهاد وهم المثقفون فى هذا العصر ، وبالتالى راج العلم والأدب ونقفقت سوق الثقافة مع الرخاء الاقتصادى والأمن. لم يتمتع البشر فقط فى عهد هذا السلطان بل شمل الطيور الوافدة على بلده بالأمن و الغذاء، يقول ابن الجوزى عنه ( وبلغه أن الطيور في الشتاء تخرج من الجبال إلى القرى فتصاد ( أى يصطادها الناس ) فتقدم ( أى أمر ) بفتح الأهراء ( أى مخازن الغلال والحبوب ) وأن يطرح لها مـن الحـب مـا يشبعهـا، فكانت في ضيافته طول عمره.) وفى النهاية يقول عنه (تـوفى في هذه السنة عن سبع وسبعين وقيل عبر الثمانين سنة وكانت إمارته اثنتين وخمسين سنة. ) أى عاش حوالى ثمانين عاما منها 52 عاما فى الحكم تنعم فيها بالسعادة والمتعة.
(3 )
هذا السلطان الكردى العبقرى المجهول حقق التشريع القرآنى فى معادلة السلام القائم على القوة الذاتية. إن الله تعالى يقول ( وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم ) ( الأنفال 60 ) المستطاع من القوة يبدأ بالفرد الجندى الذى لا بد أن يقتنع أنه يملك بلده وإنه صاحبها لكى يدافع عنها دفاعه عن بلده وأملاكه. لا يمكن ـ فى عصرنا هذا ـ أن يقاتل فرد مخلصا فى بلد يملكها مستبد حاكم بأمره ، ولذلك تنهزم دائما النظم الديكتاتورية لأنها هزمت شعوبها و أذلتهم ، فلا ننتظر من جندى مهان هو وأهله أن يضحى بنفسه فى سبيل نظام حكم لم يستفد منه سوى الاذلال و مصادرة الحقوق. بالعنصر الانسانى الحر تقوم القوة الحربية باقصى استطاعة ممكنة لها كما جاء فى القرآن الكريم ، ثم تكتمل بالاستعداد المادى اللوجيستى والحربى . تلك القوة الحربية الضاربة ليست للاعتداء على أحد ولكن لارهاب من يعتدى فقط ، يقول تعالى ( ترهبون به عدو الله وعدوكم ) هو عدو لله لأنه يعتدى على الآخر المسالم ، والله تعالى لا يحب المعتدين ، وقد قال للمسلمين فى تشريع القتال للدفاع فقط ( وقاتلوا فى سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا ان الله لا يحب المعتدين ) ( البقرة 190 ). هذا المعتدى ـ عدو الله تعالى وعدو المسالمين ـ لا بد من مواجهته بالاستعداد العسكرى بكل طاقة ممكنة ، ليس للاعتداء عليه وبدء حرب معه ولكن لردعه مقدما عن الاعتداء ، فطالما يرى بلدا قويا فسيفكر ألف مرة قبل الاعتداء عليه.. أى أنه بالاستعداد الحربى باقصى قوة مع التمسك بالسلام يتم تحقيق السلام ويتم حقن الدماء هنا وهناك . هذه هى نظرية الردع فى القرآن الكريم، وهى مرتبطة بمنظومة متكاملة من التشريعات التى تحافظ على حقوق الانسان والديمقراطية المباشرة وتحريم الطغيان و البغى والظلم والعدوان ، بحيث يكون الفرد مالكا للدولة على قاعدة المساواة مع غيره من المواطنين بغض النظر عن العرق و الجنس والمذهب والاعتقاد. وبهذا الفرد القوى تقوم الدولة القوية المسالمة.
أى إنه بغض النظر عن صيانة الدماء و الأعراض والأموال والموارد وتجنب المعاناة فإن التكلفة للاقتصادية للسلام أقل كثيرا من تكلفة الحرب. نقول التكلفة الاقتصادية للسلام لأن السلام الحقيقى لا بد له من استعداد عسكرى قوى يؤازره ويصونه ويحميه.لا يعنى السلام أن تكون ضعيفا ، بل على العكس ، فكونك ضعيفا يغرى العدو المعتدى بالاعتداء عليك , لا بد من صيانة السلام من امتلاك قوة تردع بها من يفكر فى الاعتداء عليك مسبقا ، ثم تلتزم بالسلام و التعايش السلمى مع الاخرين فى الخارج ،مع صيانة العدل والحقوق فى الداخل. لا يعنى الاستعداد العسكرى حشد السلاح وتخزينه وتكوين جيش قوى ليقوم بحماية الحاكم المستبد. التجارب أثبتت أن هذا الجيش المدجج بالسلاح لا يستأسد إلا على الشعب المسكين فاذا اشتبك مع عدو خارجى أسرع يفكر بقدميه هاربا من المواجهة.
(4 )
لا بد فى فهم القرآن الكريم من التعرف على مصطلحاته ، وعلى سبيل المثال فان مصطلح الارهاب فى الآية الكريمة السابقة ( ترهبون ) تعنى حقن الدماء ضمن نظرية الردع للعدو المدمن على الاعتداء على الغير. وهذا يخالف مصطلح الارهاب فى عصرنا والذى يعنى قتل المدنيين. وفى النص السابق المنقول عن ابن الجوزى يقول عن السلطان الكردى (أحمد بن مروان أبو نصر الكردي صاحب ديار بكر وميافارقين ) اى هو صاحب أى مالك تلك المملكة، وهذا هو المصطلح السائد وقتها ، فثقافة العصور الوسطى كانت تجعل المملكة ملكا خالصا للسلطان بما عليها من بشر و حجر وموارد. اما فى عصرنا فقد تغير الأمر أو هو فى سبيله الى التغير..أى أن المصطلحات تتغير فى اللغة العربية ، ولذلك لا بد لكى نفهم القرآن أن نقرأه وفقا لمصطلحاته وليس وفقا لمصطلحاتنا أو مصطلحات التراث. ولكى نفهم التراث أيضا لا بد من فهم مصطلحاته أولا.
( 5 )
نعود للسلطان الكردى، ونرى إنه حقق بمفهوم عصره أكبر تقدم للأفراد فى مملكته بالكرم و الجود والاحسان والرخاء فضمن أن يكون لديه جند يدافعون عن بلد ـ إن كانوا لا يملكونه ـ إلا أنهم ينعمون فيه بالرخاء و الأمن. وهذا هو أقل قدر ممكن من حقوق الانسان..