(11 )الأحكام الشرعية القرآنية فى زكاة المال

آحمد صبحي منصور في الأحد ٢٠ - يونيو - ٢٠١٠ ١٢:٠٠ صباحاً

مقدمة :
تشريع الصدقة فى القرآن لم يرد فيه مطلقا لفظ الزكاة ، وانما جاء بلفظ الانفاق وايتاء الأموال و الصدقات.
وتراث المسلمين الفقهى يخالف ذلك كله ، ليس فقط فى اختيارهم لمصطلح الزكاة بمعنى مخالف للقرآن ولكن أيضا فى تشريعات الصدقة ذاتها.
ونعطى لمحة سريعة عاجلة :
فعندهم وطبقا لمصطلحاتهم فان الزكاة :
(ا)- تجب بالحول - أى اخراج الزكاة بعد مرور عام وليس قبل ذلك ، أى على الجائع أن ينتظر عاما ليأخذ حقه.
(ب)- وليس اخراج الزكاة عن كل ما يملك الانسان بل على أصناف محددة مثل الذهب والفضة – اى لا زكاة عندهم على بقية المعادن مثل النحاس والقصدير والبلاتين .. الخ . ..ولا زكاة عندهم على الجواهر والمعادن الثمينة مثل الماس واللؤلؤوالياقوت - وعروض التجارة – وليس على البيوت والايجارات -والزروع والمواشى – وليس على مزارع الدواجن مثلا .
(ج)- وبشرط أن يبلغ ما يمتلكه الانسان حد النصاب .
( د )- ثم قرروا اخراج الزكاة فيما يزيد عن النصاب – زكاة بنسبة محددة - تتراوح بين ربع العشر ونصف العشر.
هذا كله يتناقض مع القرآن الكريم.
ونبدأ بلمحة عامة ، ثم بعض التفصيل :

أولا : لمحة عامة :
( ا )
موعد إخراج الصدقة : وجوب الصدقة بمجرد مجىء الرزق وليس بعد الحول

1 ـ فالصدقة واجبة عليك بمجرد ان يأتيك رزق من الله – عندها يجب اخراج حق الله تعالى فيه دون انتظار لمرور عام او الحول كما يقول الفقهاء بل بمجرد الحصول عليه ، أو بالتعبير القرآنى (وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ ) الأنعام 141 ) .
2 ـ فليس هناك وقت معين لاخراج الزكاة بعد الحول كما يقال ، بل وصف القرآن الكريم المتقين الصالحين بالانفاق باستمرار سرا وعلانية ، ليلا ونهارا (الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ) البقرة 274 )
فالفقيرأو المسكين الجائع لا ينتظر حتى الحول ليأخذ حقه من الزكاة المالية .
3 ـ ولكن المشهور فى الدين السنى إخراج الزكاة بعد أن يمر حول أو عام . وعلى عادة الدين السنى الأرضى فقد وضعوا أحاديث تؤكد هذا الإفك ، ومنه حديث أبي داود "وليس في مال زكاة حتى يحول عليه الحول .." وقول ابن عمر " من استفاد مالا فلا زكاة عليه حتى يحول الحول .." وهناك رواية مالك في الموطا " لا تجب في مال زكاة حتى يحول عليه الحول " .
ولكن فى الدين السماوى : ( الاسلام ـ القرآن الكريم ) فالأمر مختلف كالعادة .
فى الاسلام الزكاة تعنى تزكية النفس بالأعمال الصالحة و بالتقوى . ومن تزكية النفس التصدق بالمال، أو تزكية المال و تطهيره ونماؤه بالانفاق فى سبيل الله تعالى وفق ما حدد رب العزة جل وعلا.وتزكية النفس عملية يومية تشمل المداومة على الصدقة وبقية العبادات ابتغاء وجه الله جل وعلا.
(ب )
إخراج الصدقة عن أى دخل يأتى للمؤمن ، فالرزق يشمل كل انواع الايراد والكسب وليس مقتصرا على أنواع معينة

ويستفاد من قوله جل وعلا (وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ ) الأنعام 141 ) وجوب اخراج الزكاة المالية عن أى رزق يأتى للمؤمن ، فالحصاد ليس فقط فى الزرع وانما يشمل مجىء الرزق من مرتب أو مكسب تجارى أو ريع آت من تأجير عقار وغيره.
ولقد تكرر فى القرآن قوله جل وعلا ( ومما رزقناهم ينفقون ):( البقرة 3 – الانفال 3 – الحج 35 – السجدة 6 – القصص 54 الشورى 38 ) للتأكيد على أن كل رزق يأتى يجب إخراج الزكاة المالية عنه ، بغض النظر عن نوعيته طالما كان حلالا .
واستعمال الجملة الاسمية فى هذا الأمر التشريعى (ومما رزقناهم ينفقون )يزيد من التأكيد والحث على التنفيذ.
( ج )
إخراج الصدقة عن أى دخل يأتى للمؤمن ، قليلا أو كثيرا ، عند السعة وعند العسرة والحاجة وليس مقتصرا على بلوغ الدخل حد ( النصاب )

1 ـ وتكرار قوله جل وعلا ( ومما رزقناهم ينفقون ) يؤكد أيضا وجوب الزكاة المالية عن أى كمية من الرزق أو الدخل تأتى للمؤمن ، قليلا كان أم كثيرا ، فهم ينفقون حتى وهم لا يملكون الفائض ، وحتى وقت العسرة والحاجة أى يؤثرون على انفسهم ولو كان بهم خصاصة. ( الحشر 9 )
واستعمال الجملة الاسمية فى هذا الأمر التشريعى (ومما رزقناهم ينفقون )يزيد من التأكيد والحث على التنفيذ.
2 ـ : والمؤمنون حقا هم الذين ينفقون من أحب ما يملكون من حيث الجودة ( وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ) البقرة 177 ) (وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا ) الانسان 8 )
وفى كل الأحوال لا ينفقون الا من الكسب الحلال الطاهر الذى لم يدخله سحت أو سرقة أو اختلاس أو ظلم أو جور كما هو السائد فى عصرنا . ان الله تعالى يقول :( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حميد ) البقرة 267 )

( د )
ليست هناك نسبة محددة معينة لمقدار الزكاة من ربع العشر أو غيره :

1 - وخلافا لما قاله الفقهاء فان الله تعالى لم يحدد نسبة معينة لاخراج الصدقة ، لأن الأساس فيها هو التنافس فى الخير والسعى لتزكية النفس والتعامل المباشر مع الله تعالى. فالذى يسارع فى الخير هو المتقى الذى ينفق فى السراء والضراء ( آل عمران 133- 134 ) وكل المتقين مدعون للتنافس فى هذا المضمار . والتنافس يتنافى مع تحديد نسبة معينة لمقدار الزكاة المالية أوالصدقة .
2 ـ وللقرآن الكريم نداء شديد الوقع يجعل المتصدق كمن يقرض الله تعالى قرضا حسنا ، والله تعالى سيرد له الأجر مضاعفا .( البقرة 145) ( الحديد 11 )( التغابن 17 ) (المزمل 20)
3 ـ ومع ذلك فان الله تعالى جعل للمؤمن مقياسا يتصرف على أساسه فى الاحوال العادية ، وهو الاعتدال فى الانفاق العادى ، والاعتدال فى الانفاق فى سبيل الله تعالى بالصدقة ، أى ينفق المؤمن معتدلا على حاجاته دون اسراف ، ثم ما يزيد عن حاجته فهو لله تعالى صدقة.
*لقد سألوا النبى محمدا عن المقدار الذى ينبغى أن ينفقوه صدقة فنزل الوحى يقول انه "العفو ". والعفو فى مصطلح القرآن هو الفضل والزائد عن الحاجة.( وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ ) البقرة 219 ) .
*وقبلها فى مكة نزل تشريع القرآن يؤكد على ذلك التوسط فى الانفاق العادى وفى اخراج الصدقة بحيث لا يقع المؤمن فى التبذير أو الاسراف (وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا ) الفرقان 67 ) (وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا ) (----وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا) الاسراء 26 – 29 )
4 ـ وفى كل الأحوال فالمؤمن هو الذى يجعل بينه وبين نفسه حقا محددا معلوما لديه للصدقة يلتزم باخراجه ابتغاء وجه الله تعالى عن كل مال يصل اليه ، وهذه صفة من صفات المتقين : (وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ ) المعارج 24 -25 ) ( وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ ) الذاريات 19 )
( ه )
مستحقو الزكاة المالية :
1 - والصدقة لها نوعان من المستحقين :
1 / 1 : هناك صدقة يعطيها المؤمن للدولة الاسلامية بمفهومها القرآنى الحقوقى القائم على العدل والديمقراطية المباشرة ، وهى تقوم بجمع الصدقات وتوزيعها على مستحقيها المذكورين فى قوله تعالى :( إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ) التوبة 60 ).
الدولة هنا هى التى تحدد وتعين مستوى الفقير، والمسكين ، والغارم ،و المؤلفة قلوبهم ، والعاملين عليها وابن السبيل اى الأجنبى الغريب السائح الزائر الذى يجب اكرامه وليس تكفيره وقتله - وعتق الرقيق – اى اذا كان هناك من لايزالون رقيقا – ولا يزال الرق موجودا بصفة غير رسمية فى بعض دول الخليج برغم الغائه رسميا من السعودية سنة 1962 – أولئك هم مستحقو الصدقة الرسمية من الدولة.
1 / 2 : وهناك مستحقون للصدقة الفردية، وهم أقارب المؤمن المتصدق ومن يعرفهم من اليتامى والمساكين وابن السبيل المار ببيته، وقد سئل النبى محمد عليه السلام فى هذا الموضوع فلم يفت كعادته وانما انتظر الاجابة من الوحى فنزل قوله تعالى (يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ ) البقرة 215 )
2 - لقد جعل الله تعالى من صفات المتقين الأبرار الصادقين انهم ليسوا فقط الذين يراءون الناس بالتوجه للصلاة صوب المشرق والمغرب ، ولكنهم الذين يؤمنون ايمانا حقيقيا بالله تعالى واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين ، ثم يعطون المال صدقة لمستحقى الصدقة من الأقارب واليتامى والمساكين وابن السبيل ومن يسأل الناس احسانا ، ويقومون باطلاق سراح المستعبدين – اذا كان ثمة استرقاق لا يزال موجودا ، وهم الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة والذين يوفون بالعهد والصابرين فى الشدائد والمصائب وفى الجهاد :( لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ ) البقرة 177 )
3 ـ والملاحظ هنا ان الآية الكريمة قامت بالفصل بين الصدقة واقامة الصلاة وايتاء الزكاة، اذ تكلمت على ايتاء المال صدقة للمستحقين بعد صفة الايمان مباشرة ، ثم بعد الصدقة ذكرت اقامة الصلاة وايتاء الزكاة وصفات أخرى كريمة لتجعل فاصلا بين ايتاء الصدقة ومفهوم اقامة الصلاة وايتاء الزكاة ، وقد سبق تحليل معنى إقامة الصلاة وايتاء الزكاة بأنه التقوى وسمو الخلق الناتج عن الاخلاص فى تأدية العبادات .
وقد تكرر هذا الفصل بين اقامة الصلاة وايتاء الزكاة وبين تشريع الصدقة فى موضعين آخرين فى القرآن الكريم ، ففى الحديث عن الميثاق الذى أخذه رب العزة على بنى اسرائيل فى عهد موسى جاء الأمر باقامة الصلاة وايتاء الزكاة ثم الايمان بالرسل وتأييدهم ، ثم اعطاء الصدقة ، ولو كانت اعطاء الصدقة هو نفسه الزكاة ما جاء هذا الفصل بينهما ( وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا وَقَالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلَاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ) المائدة 12 ) وجاء الاقراض أيضا بمعنى الصدقة تاليا للعبادة وقراءة القرآن وقيام الليل واقامة الصلاة وايتاء الزكاة فى خطاب للنبى محمد عليه السلام وأصحابه فى بداية اقامتهم فى المدينة.:( فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا ) المزمل 20 ).
أخيرا : وإلى مزيد من الشرح نقول :
( أ )
ما هو مقدار الزكاة ؟
1 ـ يلفت النظر أن القرآن حدد النصاب في الميراث بالنصف والثلثين والثلث والربع والسدس والثمن، وجعل ذلك من الحدود وحذر من يتعداها بالخلود في النار "4/12 :14 ".ويلفت النظر أيضا أن القرآن حدد نسبة النصف من الصداق للمطلقة قبل الدخول بها "2/ 237 ".
وفي نفس الوقت فإن التحديد الصارم لمقدار الزكاة أو الصدقة لم يأت في القرآن الكريم، والسبب أن الميراث وحقوق المطلقة من حقوق البشر التي لابد من تحديدها بالدقة منعاً للخلاف بين الناس، أما الإنفاق في سبيل الله فهو تعامل خاص بين الله تعالى والعبد ويعود نفعه على المجتمع، لذا اكتفى القرآن فيه بالضوابط دون تحديد نسبة ليتيح الفرصة للتسابق في الخير ولينمي في نفس المؤمن عوامل التقوى ومحاسبة النفس والضمير، أى أن يتمكن المؤمن من " تزكية نفسه" وذلك هو هدف الزكاة ومعناها .

2 ـ ثم إن المؤمن في نهاية الأمر هو الأدرى بحقيقة الدخل الذي يأتيه وهو أعلم من غيره من البشر بحدود إمكاناته ومدى الضروري في استهلاكه ومدى ما يستطيع الإنفاق به في سبيل الله ، ومتى ينفق ومتى يؤثر على نفسه ومتى يكون الوقت الأنسب والمقدار الأمثل إلى آخر تلك التفصيلات الدقيقة شديدة الخصوصية في أحواله المادية والعائلية والإجتماعية والتي لا يطلع عليها إلا المولى الأعظم سبحانه وتعالى.
وإذا كان الانسان يستطيع أن يخدع مصلحة الضرائب ـ وأحياناً ما يفعل برغم تحديد النسب الثابتة فيها ـ فإنه لايستطيع أن يخدع الله جل وعلا الذي يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، والمؤمن يعلم أن ربه تعالى يراه ويعلم خباياه ويكافئه إذا تصدق ويعاقبه إذا بخل وأمسك. وبذلك التعامل المباشر مع الله تعالى تنمو التقوى فى قلب المؤمن ، وتكون له مساحة يتحرك فيها بالصدقة صعودا وهبوطا وهو يعلم أن الله تعالى يراه، وهو جل وعلا على كل شىء رقيب ، وعلى كل شىء شهيد .
من هنا كان الأنسب هو الضوابط التقريبية لا الحدود الثابتة.

3 ـ وجدير بالذكر أن القرآن بينما يحدد النسب الصارمة في الميراث فإنه يترك المجال مفتوحاً أمام إجتهاد المؤمن في الخير في موضوع الوصية عند الموت.
فالقرآن يجعل الوصية عند الموت حقاً مكتوباً على المتقين إلا أن مقدارها يخضع للمتعارف عليه وبتقدير الموصي نفسه مع مراقبة المحيطين به حتى لايحدث إجحاف في الوصية. والهدف هنا أن الوصية تعامل قبيل الموت بين الموصي وربه، ولذلك فيه مجال مفتوح للخير بينما تظل باقي التركة خاضعة للنسب المقررة في الميراث من النصف والربع والثمن. وبذلك دخلت الوصية في مجال التقدير دون تحديد نسبة صارمة شأنها شأن الصدقة.
ودليلنا أن الوصية لها مستحقوها الذين أوصى القرآن إعطاءهم الصدقة، فالله تعالى يقول عن الصدقة الفردية: (يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلْ مَا أَنفَقْتُم مِّنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللّهَ بِهِ عَلِيمٌ )( البقرة 215 ) فالصدقة الفردية للوالدين والأقارب واليتامى والمساكين، ويقول تعالى عن الوصية:(كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِن تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ )( البقرة 180 ) فالوصية هنا أيضاً للوالدين والأقربين والصدقة والوصية بالمعروف الذي يخضع للضوابط وليس بالنسب الثابتة المحددة.

4 ـ وكيف يحدد القرآن نسبة محددة للصدقة والزكاة وهو يدعو المؤمنين للتسابق في الإنفاق في سبيل الله؟..
فالله تعالى الغني عن العالمين يجعل الصدقة قرضاً ويقول لنا : (مَّن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً وَاللّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) ( البقرة 245 ) (إِن تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ ) (التغابن 17 ) (مَن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ ) (الحديد 11 ) .
ويقول تعالى في المسارعة إلى الخير :( وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاء وَالضَّرَّاء وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ) ( آل عمران 133 ـ )فهنا دعوة للتسابق والمسارعة للزكاة والصدقة في كل حال من اليسر والعسر.
وحيث يوجد هذا الأسلوب فلا يمكن أن تتخيل وجود نسبة محددة. فالتسابق في الخير ينفي وجود النسبة الثابتة فى الصدق وزكاة المال.

( ب )
الحق المعلوم فى الزكاة المالية مع عدم وجود نسبة في الزكاة

القرآن لم يحدد نسبة في الزكاة ومع ذلك يقول : (وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَّعْلُومٌ لِّلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ ) (المعارج 24 ـ ) فكيف يكون هناك حق معلوم دون تحديد نسبة ؟
إن العبادات كلها وسائل للتقوى، ينطبق ذلك على الصلاة والصيام والحج كما ينطبق على الزكاة التي تهدف إلى السمو بالنفس وتزكيتها ، وذلك يكون بالتعاون المباشر مع الله تعالى ومحاسبة النفس على ما تنفق وعلى ما يأتيها من رزق وعلى ما ينبغي إخراجه من ذلك الرزق لوجه الله تعالى ، وهو يعلم أن الله مطلع عليه وإنه لاملجأ من الله إلا إليه، وبذلك يتربى المؤمن على تقوى الله ويتحقق الهدف من فريضية الزكاة ، وأساسها التسابق في رضى الله.
والمؤمن يعتبر الزكاة حقاً مفروضا عليه للمستحقين، بمعنى أنه يضع فى عقيدته أنه إذا رزقه الله تعالى مائة دينار فان حقه من المال معظم ذلك المبلغ ، والباقى هو حق عليه للمستحقين ، وهو الذى يقدر نسبة هذا الحق ، وهو الذى يقوم باخراج ذلك الحق ، وهو فى كل ما يفعل يعلم أن الله تعالى محيط بما يعمل.
وهذا الحق المفروض هو ما حرص القرآن على تأكيده فيقول تعالى " (وَآتُواْ حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ ) ( الأنعام 141 ) ويقول تعالى عن حقوق الأقارب والمسكين وابن السبيل : (وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ ) (الاسراء 26) (فَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ ذَلِكَ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ) ( الروم 38)إذا هو حق له في مالك وأنت مدين لهم بذلك الحق. وللسائل والمحروم أيضاً حقوق في مالك (وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِّلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ ) ( الذاريات 19 ).
والمؤمن طالما عرف أن عليه حقاً للمحتاجين والسائلين وأولي القربى كان عليه أن يضع بنفسه النسبة الملائمة لظروفه الثابتة والمتغيرة وحسب احتياجه ودخله حسب حاجة المحتاجين حوله ، ثم لابد أن يلتزم بأداء ذلك الحق الذي عليه لهم حتى يكون ذلك الحق شيئا معلوما له كلما جاءه رزق. وحينئذ ينطبق عليه قوله تعالى : (وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَّعْلُومٌ لِّلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ ) (المعارج 24 ـ ) .
وحين يحدد المؤمن بينه وبين ربه تعالى حقاً يكون معلوماً لديه فإنه بذلك يتعامل مع الله مباشرة ويحتل مرتبة المتقين المحسنين ، وهنا يتحقق المراد من الزكاة ، زكاة النفس وتطهيرها وسموها.
( ج )
وهناك نوعان من الصدقة :
1 ـ الصدقة التي يجمعها الحاكم المسلم في توقيت سنوي محدد أو يجمعها سنويا حسب حالة كل ممول. . وتقوم الدولة الاسلامية بتوزيعها على الفقراء والمساكين والموظفين العاملين عليها والمؤلفة قلوبهم الذين تريد الدولة استمالتهم وفي عتق الرقاب وتحرير الرقيق وفي مساعدة الغارمين وفي ضيافة ابن السبيل وفي الجهاد في سبيل الله أى الدفاع عن الدولة وفى الدعوة للحق بالتى هى أحسن ..
2 ـ الصدقات التطوعيةالتى يقوم المسلم بإنفاقها بنفسه كل يوم.
3 ـ وقد يكون للصدقات الرسمية موعد سنوي ولكن الصدقة التطوعية كل يوم وفي كل الظروف ..
4 ـ وكما حدد القرآن مستحقي الزكاة الرسمية في آية " :( إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ) التوبة 60 ).فإنه حدد مستحقي الصدقة الفردية التطوعية في قوله تعالى " يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ : البقرة 215 ".

5 ـ الدولة الإسلامية تتعامل مع شرائح وسجلات رسمية في توزيع الزكاة المالية ،ولا تتعامل مع أشخاص محددين. وعليها أن تضع حدا لمستوى الفقير المحتاج للصدقة ، ومن هو أفقر الفقراء أو المسكين ، ومن تنطبق عليه مصطلحات الغارمين و المؤلفة قلوبهم..وفى سبيل الله ..ليس مجرد التعريفات الفقهية أو القانونية ولكن التحديد الاقتصادى ومستوى الدخل. وبعد هذا التقنين تضع قواعد التوزيع لتلك الشرائح فى كل مدينة و قرية وحىّ. ثم تقيم دورا لإيواء العجزة وكفالة الأرامل واستضافة أبناء السبيل ورعاية المرضي .
ولكن السجلات الرسمية وبيوت الخير لا يمكن أن تستوعب كل المستحقين خصوصا أن هناك من يدخل دائرة الحرمان كل يوم. ماذا يكون مصير أولئك ؟ هنا يكون دور الصدقة الفردية التطوعية لتسد النقص وتستوعب ما تعجز الدولة عن رعايتهم ـ خصوصا فى أوقات المحن و النكبات .
وفى الأوقات العادية هناك أفراد مستحقون ، و فقراء يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف لا يمدون أيديهم الى أحد ، و يستنكفون من تسجيل أسمائهم لدى الجهات الرسمية . ومفروض أن يعرفهم المسلم الذي يتصدق بماله.

6 ـ هذا المسلم هو أعرف بالمستحقين من الأفراد،وعليه أيضا أن يعطى أقاربه وجيرانه ومعارفه وأولهم الوالدان والأقربون واليتامى والمساكين وابن السبيل. وهنا لا يكون التوقيت سنويا ، بل في كل يوم وفي كل الظروف. إذا مرض الوالدان هل تقول لهما : سوف أعالجكما حين يحول الحول ؟ إذا سقط بيت فى الحى و تشرد سكانه هل سينتظرون فى العراء الى ان يحول الحول ؟ هل لو دخل قريب لك أو صديق أو جار المستشفى هل ينتظر الى الحول لتعطيه حقه ؟
يقول تعالى عن الصدقة الفردية التطوعية " الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ : البقرة 274 " إذن هو إنفاق مستمر ليل نهار ولا ينتظر حتى يحول الحول.
ولأنه مستمر ليلا ونهارا فلا يهتم صاحبه إذا كان ذلك سرا أو علانية المهم أن يرضي ربه ، لذا فلا خوف عليه ولا يحزن . ويقول تعالى " الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ : آل عمران 134 " .
إذن هو إنفاق في الغنى والفقر ، في العسر واليسر ، في الربح والخسارة في السراء والضراء ، وليس مثل صاحب اللحية والمسواك والجلباب والملايين يكتنز الأموال عاما بعد عام وهو يخدع الناس بمعسول الكلام والحوقلة والبسملة ، وكأنه لم يقرأ قوله تعالى " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ : التوبة 34 .
إن السائل – أو المحتاج الذي يسأل المعونة – له حق ، وللمحروم حق ، وحين يأتي الإيراد شهريا أو يوميا فلابد من إخراج ذلك الحق " وَآتُواْ حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ : الأنعام 141 " والمسكين الجائع يحتاج ثلاث وجبات يوميا ، وابن السبيل يأتي في أي يوم ، والأقارب قد يحتاجون في أي وقت ولابد لكل منهم أن يحصل على حقه " وَآَتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ: الإسراء 26 " " فَآَتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ ذَلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ : الروم 38 "
المؤمن بدين الله تعالى السماوى ينسى عبارة " حتى يحول الحول .. " أما اصحاب الديانات الأرضية فيشرعون لأنفسهم ما يحبون... وفى دينهم لا بد أن ينتظر الجائع و المحروم و المحتاج (حتى يحول الحول.)..!!..

اجمالي القراءات 100197