لن يكون فيما نقول الكثير من التجاوز إذا زعمنا أننا شعب يدمن الموالد، نعشقها وننتظرها من العام للعام، وربما يتتبعها البعض ويذهب خلفها من إقليم لإقليم، حسب مواسم أولياء الله الصالحين وقديسيه، الذين ورثوا دور آلهة الأقاليم في ديانات مصر القديمة، والذين كانت تقام لهم الاحتفالات أيضاً بعد مواسم الحصاد، لتكون فرصة للاحتفاء بالحياة، قبل أن تهدد ثقافة الموت الوهابية الصحراوية الروح المصرية الأصيلة. . الموالد فرصة للفرح والمرح &aelcute; والانطلاق، بما يُخرج مكبوتات الكآبة والقهر والفقر طوال العام. . هكذا الحال طبق الأصل في ساحتنا أو شارعنا السياسي، فالمطلوب على الدوام وتوالي الفصول أن يكون هناك دائماً خيمة مولد منصوبة، نرى فيها شجيع السيما وهو يستعرض انتصاراته الوهمية، كما نرى الخبراء ببواطن الأمور وهم يصفون للعمدة "منين يروحوا المتولي"، وفي هذه "الزحمة يا ولداه، كام عيل تاه!!".
الآن مولد أو موسم "قانون الطوارئ"، بمناسبة التجديد الألفي أو المليوني له (تعبنا من العد)!!. . وفي هذه المناسبة يحلو الشجب والتنديد، وسواء كنا من صنف الموالدجية أم لم نكن، فلابد وأن نشجب استمرار مصر كل هذه الفترة تحت قانون الطوارئ، لكن ما يتجاهله الجميع، سواء عن عمد أو عن غفلة، هو أن الحالة المصرية بالتحديد، والتي تتشارك فيها مع جميع الشعوب التي نُكبت لعقود بالحكم البوليسي، ليست هي مشكلة العيش في ظل قانون معد لظروف خاصة واستثنائية تتعرض فيها البلاد لمخاطر، وتحتاج لقانون يتيح للإدارة سرعة الحركة ومرونة الإجراءات، بعيداً عن تعقيدات قانون الإجراءات الجنائية، الذي يوازن بين تحقيق العدالة بالقصاص، وبين ضمانات العدالة، عملاً بمبدأ "تبرئة ألف مجرم، خير من إدانة بريء واحد"!!. . فهذا المبدأ بلاشك عظيم ويحترم إنسانية الإنسان، لكنه في الظروف الاستثنائية، حين تتعرض البلاد مثلاً لخطر الإرهاب، فإنه لا يكون أمامنا متسع لرفاهية قانون الإجراءات الجنائية العادي، لأن "تبرئة مجرم واحد، قد تيح له قتل ألف بريء"!!
المشكلة الحقيقية في بلادنا، ليست الوقوع تحت ظل قانون استثنائي دون مبرر كاف، أو دون وجود ظروف استثنائية، فما يدوم لسنوات طويلة، لا يمكن بأي حال اعتباره استثناء!!. . المشكلة هي أن الأجهزة الأمنية قد تعودت وتبرمجت خلال عقود الحكم البوليسي الطويلة أن تدير ظهرها للقانون، سواء كان قانون طوارئ أم قانون عادي. . تبرمجت تلك الأجهزة أن إرادة الحاكم ورغباته هي القانون، وأن المواطن العادي لا كيان ولا حقوق له، خاصة إذا ما كان محل غضب صاحب السلطان، الذي قد يكون الجالس على العرش، وقد يكون أحد ذوي الحيثية، باختلاف مستويات تلك الحيثية، التي تصل أحياناً لأن يكون على صلة قرابة بمساعد في قسم شرطة، بما يتيح له إمكانية التنكيل بمن يكون على خلاف معهم من جيرانه!!
الأمر الملح إذن، والذي من العبث القفز عليه، لنتحدث عن حالة أكثر تقدماً أو أقل وبالاً، هو أن نلتزم جميعاً بالقانون، سواء كنا حكاماً أم محكومين. . حالتنا هي أن المسؤولين يسيئون استخدام سلطاتهم ضاربين عرض الحائط بالقانون، والمحكومون يتفنون ويتحايلون على القانون، وعلى القائمين على تفعيله، أو بالأصح على التظاهر بتفعيله. . فما حدث أخيراً من القبض على مجموعة من الشباب المسيحي بالعجمي بتهمة التبشير، رغم أنه لا توجد بالقانون المصري مثل هذه التهمة!!. . والأحكام التي تصدر في قضايا العائدين للمسيحية وما يتعلق بأولاد المسيحيين الذين أشهروا إسلامهم، وتأتي في حيثياتها أن "الإسلام هو الدين الأعلى"، رغم أنه لا القانون المصري العادي أو قانون الطوارئ ولا الدستور قد نص على أنه هناك دين أعلى وآخر أدنى، ليكون الأمر كله ليس أمر قانون عادل أو ظالم، طوارئ أو عادي، وإنما الأمر أمر تنحية القانون على جميع المستويات، والعمل وفقاً لقانون "المزاج والموائمات والتساهيل"، وهو بلا شك قانون أكثر جوراً من قانون الطوارئ.
نرى في الأفلام الأمريكية أن رجل البوليس عندما يقبض على مجرم، ويكون الاثنين منفردين دون وجود آخر مراقب لهما، يحرص رجل الشرطة على قراءة حقوق المتهم عليه، احتراماً لسيادة القانون الذي ينص على ذلك!!. . هذا الحرص والاحترام الشخصي للقانون، والمزروع في ثقافة وسلوك الناس جميعاً، وفي مقدمتهم بالطبع القائمون على صيانة الالتزام بالقانون، هو أمر جوهري لكي تحيا أمة في ظل العدالة والحرية وحقوق الإنسان.
مؤقتاً ولحين إشعار آخر فلتطبق الدولة أي قانون تراه مناسباً، قانون عادي أو طوارئ أو قانون إرهاب، أي قانون مهما كان سيئاً، هو في البداية والنهاية قانون، نعرف بموجبه ما لنا وما علينا، ويحدد لكل طرف سلطاته ومسئولياته وواجباته، أي سنستطيع بموجب القانون أن "نعرف رأسنا من رجلينا"، حتى لو كان هذا القانون "يضع رأسنا محل رجلينا"!!
إذا أدرنا وجوهنا لمن يناهضون قانون الطوارئ وقانون الإرهاب -المتعثر لدى الحكومة- "لغرض في نفس يعقوب"، أي لهؤلاء الذين لا يسعون حقيقة لسيادة القانون، وإنما لسيادة الإرهاب والإظلام باسم الدين، فإننا نقول للساعين بحق لحياة أكثر عدلاً وحرية في بلادنا، أننا ينبغي الآن أن نركز على شيوع ثقافة الالتزام بالقانون واحترامه على جميع المستويات، ومن القمة حتى القاعدة، فمهما كان تعسف وجور من هم في القمة، فإن عصف القاعدة واستهتارها بالقانون أشد وطأة في تخلف هذه البلاد، ربما بعدها لن يكون أي طرف بحاجة لقانون طورائ!!