إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آبَاءَهُمْ ضَالِّينَ

آحمد صبحي منصور في الأحد ٢٥ - أبريل - ٢٠١٠ ١٢:٠٠ صباحاً

لقد تعرض القرآن الكريم لاحدى الملامح الأساسية للشرك وهى تقديس الاسلاف واتباع ما ساروا عليه ورفض كلام الله تعالى اذا تعارض مع الثوابت المتوارثة بدلا من اصلاحها وتصحيحها بالقرآن الكريم.
الفطرة و العهد القديم مع رب العالمين
1 ـ ان العهد الذى أخذه علينا رب العزة ـ قبل أن نوجد فى المستوى الجسدى والحسى ، حين كنا مجرد أنفس ـ كان فيه التحذير من اتباع الآباء وتقليدهم فى ضلالهم.
فى هذا العهد الالهى يحذرنا ربنا جل وعلا من أن نقابله فى المرة التالية ـ اى يوم القيامة وقد نسينا ذلك العهد واعتذرنا بأننا وجدنا آباءنا ضالين فاتبعناهم!! اقرا قوله تعالى "( وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى شَهِدْنَا أَن تَقُولُواْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ أَوْ تَقُولُواْ إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِن قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِّن بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ .)(الأعراف172-174." .
هذا العهد هو الفطرة النقية البيضاء التى يولد بها كل انسان ( فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا) (الروم 30)". ثم تأتى العادات والثوابت الأجتماعية تؤكدها غواية الشيطان لتنسى الانسان تلك الفطرة النقية وتغطى عليها بالهوى والغرائز، بحيث يعاد تشكيل الشخصية الانسانية لتكون فردا من القطيع فى المجتمع يؤمن بآلهته المتوارثة دون نقاش ويقدس ما اعتاد الأسلاف تقديسه من بشر وحجر، لا فرق ان كان هذا الحجر صنما أو ضريحا أو مقبرة مقدسة، ولا فرق بين عبادة الاسلاف لدى الهنود الحمر والعرب لمسلمين والقبائل الافريقية.
2 ـ عند المصائب وعند الموت فقط تحيا فى الانسان فطرته وينبض فى قلبه العهد القديم مع خالقه جل وعلا ، ويتذكر الانسان ربه عند المصيبة والمرض وتوقع الموت فيهتف راجيا الغوث والعون. فاذا كان له من عمره بقية ونجا عاد الى ما كان عليه ونسى ما كان يدعو اليه. "(الزمر8 ، 49 )( يونس22 : 23 ).( الاسراء 67 : 69 )
3 ـ وبعد ان تدخل كل نفس الى جسدها فى الموعد المقرر سلفا من الخالق جل وعلا، وبعد ان تأخذ اختبارها فى هذه الحياة الدنيا وتترك جسدها بالموت وفى الموعد المقرر، وبعد انتهاء هذا الاختبار الدنيوى لكل نفس بشرية ينتهى هذا العالم بكل نجومه ومجراته وأرضه وأقماره وسماواته ليأتى عالم الخلود أو الملكوت الأعظم للخالق جل وعلا والذى يبدأ بيوم الحساب بعالم جديد خالد أزلى : (يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ وَبَرَزُواْ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ ) ( ابراهيم 48 ).
وفيه تتضح الحقائق ويظهر ان البشر فريقان: أقلية أخلصت لله تعالى الايمان والعمل، وأكثرية غرر بها الشيطان تحت شعارات شتى فكانت دون أن تدرى تعبد الشيطان لا غيره. تعبده فى صورة انصاب أوأضرحة وهى" رجس من عمل الشيطان"."المائدة 90" وتعبده فى الأحاديث الشيطانية – وحى الشيطان- "الأنعام 112-114 "..
فى يوم الحساب يقول تعالى لمن أضله الشيطان يذكرهم بالعهد القديم الذى أخذه عليهم حين كانوا أنفسا فى عالم الغيب قبل خلق الدنيا: (أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَن لّا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ وَأَنْ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنكُمْ جِبِلًّا كَثِيرًا أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ )( يس60 – 62.")
دعوة النبى محمد قومه لنبذ الثوابت التراثية الضالة :
1 ـ ومن هنا كانت الرسالات السماوية تنزل للتصحيح والاصلاح وارجاع الأمور الى نصابها الصحيح ، أى بترك الباطل الذى تسامح فيه الناس وتركوه دون نقاش أو اعتراض فاستفحل وتضخم وتورم واصبح متحكما فى الأجيال التالية على أنه من الثوابت وما وجدنا عليه آباءنا.
2 ـ وقد كان خاتم النبيين عليه وعليهم السلام يدعو قومه الذين حرفوا ملة ابراهيم الى تصحيح عقائدهم بالقرآن، وكانوا يرفضون تمسكا بتراث الاسلاف ( وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا )وتأتى اشارة القرآن الكريم لدور ابليس فى ترسيخ عبادة الاسلاف تعلق على مقالة الجاهليين فى التمسك بتراث السلف الذى يدعوهم لعذاب السعير : ( أَوَلَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ ) ( لقمان21").
ويقول جل وعلا فى نفس الموضوع : ( وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُواْ بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا ) أى يرفضون القرآن الكريم تمسكا بالتراث الذى ألفوا ووجدوا عليه آباءهم . ويأتى التعليق من رب العزة يتهم الأسلاف بالجهل والضلال (أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلاَ يَهْتَدُونَ ) ثم يصف رب العزة الأسلاف وتابعيهم على الضلال بأنهم مواشى وأنعام فى تلك الصورة البلاغية التشبيهية التمثيلية التى تتضمن حقيقة علمية خفية:(وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُواْ كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لاَ يَسْمَعُ إِلاَّ دُعَاء وَنِدَاء صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ) ( البقرة 170 : 171 ).
ويتكرر نفس المعنى فى قوله جل وعلا : (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُواْ حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلاَ يَهْتَدُونَ )( المائدة 104 )، وكما قلنا فى أبحاث سابقة فالرسول هنا هو الرسالةأو القرآن.
3 ـ بل إن الله تعالى يجعلها قاعدة عامة فى عقلية المشركين وتدينهم الفاسد فى كل زمان ومكان. فيقول عن تمسك قريش بثوابتها وتراثها وسلفها ( الصالح ): ( بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّهْتَدُونَ ) أى انهم على هدى السلف الصالح يسيرون ، وعلى ما أجمعت عليه الأمة يتمسكون.
وتأتى الاية التالية لتجعلها قاعدة مستمرة فى كل مجتمع اذا سيطرت على المجتمع أقلية تحتكر الثروة والسلطة وتستعين بكهنوت دينى يحمى مصالحها ويحافظ على أوضاعها الظالمة ضد أى دعوة للعدل .، والاسلام دين العدل كما هو دين العقل. تقول الآية التالية فى تأكيد تلك القاعدة السياسية الاجتماعية:(وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إِلاَّ قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ ) (الزخرف 22-23 ).
4 ـ ان من اعجاز القرآن فى مصطلحاته واشاراته الاجتماعية لفظ "المترفون" وهى تلك الطبقة النى تحتكر الثروة والسلطة على حساب الفقراء الجياع ، ويكون وجودهم نذيرا باهلاك المجتمع على نحو ما فصلناه فى بحث لنا سبق عن قوانين الاهلاك فى الامم.
وثقافة التقليد وعبادة الأسلاف اذا سادت فهى التى تدل على هذه الحالة المتردية وتبررها وتؤكد استمرارها لأن المترفين حين يتحكمون فى المجتمع يتحول البشر لديهم الى مجرد ارقام ومتاع متوارث ، يتوارثه المترفون فاجرا عن فاجر ، يرفضون الاصلاح تمسكا بالفساد والظلم . وعلى هذا سارت ولا تزال تسير عليه الحياة السياسية والاجتماعية للعرب المسلمين منذ الفتنة الكبرى وحتى الآن.
عودة الصحابة والمسلمين للجاهلية وتقديس التراث والثوابت :
1 ـ وتأبى ديانات المسلمين الأرضية إلا أن يتحقق فيها اعجاز القرآن فى الآية السابقة : (وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إِلاَّ قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ).إذ تتكرر فى أدبياتهم الحديث عن "الأمة" "وما اجمعت عليه الامة" بمثل ما تشير اليه الآية الكريمة عن قريش، ويضيفون مصطلح السلف كتعبير آخر عن السلف المهتدى لقريش أو السلف الصالح لديهم ، مع انه فى المرة الوحيدة فى القرآن التى أتى فيها لفظ السلف بمعناه المعروف جاء بما بما يدل على الآباء الضالين، وفى نفس سورة الزخرف حيث يقول تعالى عن قوم فرعون: (فَلَمَّا آسَفُونَا انتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفًا وَمَثَلاً لِلْآخِرِينَ) ( الزخرف55 : 56 ). ففرعون هو ( السلف الصالح ) لأصحاب الديانات الأرضية فى كل زمان ومكان ، وهم جميعا يقدسون التراث الدينى و الترتيب الطبقى الاجتماعى والسياسى القائم على الظلم ، وهم جميعا يجعلون الكهنوت الدينى خادما للاستبداد و الفساد والظلم والبغى .
قالها فرعون وقومه الطغاة فى مواجهة موسى متمسكين بما وجدوا عليه آباءهم :(قَالُواْ أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا ) ( يونس 78) وقالتها قريش الباغية الطاغية لخاتم النبيين تتصنع الدهشة و الغفلة:(مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الآخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلاَّ اخْتِلاقٌ )( ص 7 )
وبنفس الضلال والجهل يقولها اليوم فقهاء الأديان الأرضية للمسلمين وطغاتهم واتباعهم : ( هذا ما أجمعت عليه الأمة ) ويفتخرون بالسلف وينسبون أنفسهم للسلفية . أضلهم الشيطان وأعماهم وسيظلون فى هذا العمى يعمهون الى أن يقال لهم : (أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَن لّا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ وَأَنْ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنكُمْ جِبِلًّا كَثِيرًا أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ )( يس60 – 62.")
2 ـ واذا كانت عادة المترفين اذا سيطروا أن ينشروا عبادة الأسلاف والتقليد فهى أيضا عادتهم فى الكفر بالدين الحق الذى يدعو الى العدل والمساواة والقيم العليا، يقول تعالى : (وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إِلاَّ قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُم بِهِ كَافِرُونَ وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالا وَأَوْلادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ ) ( سبأ 34 : 35 ). و"القرية" فى المصطلح القرآنى بمعنى المجتمع .
والآية هنا تضيف ملمحا آخر من ملامح المترفين وعبادة الأسلاف، هو اعتقادهم الثابت بدخولهم الجنة وانقاذ انفسهم من النار بأموالهم ، أى يسرقون الأموال ويأكلون حقوق الفقراء ظلما وعدوانا ثم يعطون جزءا منها لرجال دينهم للتكفير عن السيئات وشراء قراريط فى الجنة أو قصور فيها حسبما تصل بهم أكاذيب شيوخ دينهم المفترى. واذا كان سهلا عليهم ابتياع الجنة باليسير من بعض اموالهم فلماذا يحتاجون الى الايمان الذى يأتى لهم به الرسل والدعاة المصلحون المنذرون؟ خصوصا وأن هذا الأيمان يقوم على العدل الذى يتطلب تغييرا جذريا فى بنية المجتمع وعقليته واعادة لهيكلته، وستكون على حساب مصالحهم وما صار ـ بمرور الزمن ـ حقوقا مكتسبة لهم ولأولادهم من بعدهم..
3 ـ لقد نزل القرآن الكريم يصف الملأ القرشى بالمترفين فى الآيات السابقة من سورة الزخرف. وقال يخاطبهم: (أَفَبِهَذَا الْحَدِيثِ أَنتُم مُّدْهِنُونَ وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ) ( الواقعة 81 : 82 )، أى يكذبون بحديث الله تعالى فى القرآن بسبب اقتصادى بحت، هو حرصهم على امتيازاتهم الاقتصادية الهائلة.
فاذا تساءلنا عن منبع هذه الثروة عرفنا انه رحلة الشتاء والصيف والايلاف الذى كان يجعل قريشا تعيش آمنة فى مكة، ويجعلها تنقل التجارة العالمية بين الهند وأوربا والتى تأتى الى اليمن والشام فتنقلها قريش بين اليمن والشام فى رحلتى الشتاء والصيف. تقطع قوافلها الفيافى فى الصحراء دون ان تتعرض لها القبائل التى تعيش على السلب والنهب. والسبب هو أن قريش تقوم على رعاية الحرم فى مكة، وقد أباحت لكل قبيلة أن تضع صنمها الخاص بها فى الحرم المكى لتقوم قريش على رعاية كل تلك الأصنام مقابل حماية تجارتها السنوية وأمن اهلها فى اقامتهم وترحالهم. والملأ القرشى الذى يحترف التجارة والشطارة يعلم ان عبادة الأصنام خزعبلات وان الهدى فى القرآن الذى جاء به محمد الذى أسموه من قبل بالصادق الأمين. ولكن المشكلة أن دعوة محمد والقرآن فيه القضاء التام على تجارتهم وجاههم وكهنوتهم. لذا قالوها صراحة"لو اتبعنا الهدى الذى جئت به يامحمد وتركنا عبادة الأصنام لأكلتنا العرب من كل جانب، هذا ما حكاه عنهم رب العزة": (وَقَالُوا إِن نَّتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا)( القصص 57َ )
اذن الحرص على استمرار الترف على حساب الجياع والفقراء هو الذى دفع الأمويين ـ قادة قريش فى الحرب والتجارةـ الى اضطهاد المؤمنين الأوائل ومعظمهم من الفقراء والضعاف . ثم أدى الاضطهاد ـ كالعادة ـ الى خلق اوضاع جديدة . اذ نشر الدعوة وكان حجة لكل ناقم على قريش ـ من قبائل نجد :من قضاعة وقحطان ومن ربيعة" ـ الى أن تنضم للاسلام كيدا فى قريش وتحررا من سلطانها واستغلالها، وواكب ذلك هجرة المسلمين الى يثرب ومن فيها من الأوس والخزرج من قبائل قحطان ـ فاصبح للاسلام دار. وقد تابعت قريش المسلمين بالحرب قبل ان يأتي للمسلمين الأذن بالقتال الدفاعى، وتللك حقيقة قرآنية سكتت عنها السيرة.
4 ـ وانتهى الصراع الحربى لصالح المسلمين ، وادرك الأمويون أن مصالحهم التجارية والسياسية تحتم عليهم الدخول فى الدين الذى طالما حاربوه، فدخلوا فيه أفواجا قبيل موت النبى محمد واحتلوا موقع الصدارة بعده فى خلافة ابى بكر مما أثار عليهم خصومهم من القبائل النجدية فكانت حرب الردة بعد موت النبى ، وفيها تسلل الأمويون بخبرتهم الحربية لقيادة الجيوش، وبعد اخماد حركة الردة اتيح للامويين استغلال الاسلام فى الفتوحات العربية وكانوا عماد القيادة فيها,
وبعد توطيد الفتوحات اصبحوا يحكمون الشام والعراق باسم الاسلام، ثم حكموا المسلمين جميعا من وراء ستار فى خلافة ابن عمهم عثمان بن عفان وجعلوه يعذب ويضطهد خصومهم من المسلمين الاوائل فى عهده للمرة الثانية, وكانوا يعذبونهم فى مكة فى بداية الاسلام ثم عذبوهم ثانيا فى الكبر والشيخوخة فى خلافة عثمان . وأدى سرقتهم للثروة فى عهد عثمان الى اشتعال الثورة عليه ومقتله.
5 ـ وكان معظم الثائرين من اعراب نجد ، وهم صنف من الصحابة لم يقع فى النفاق ولكنهم تقلبوا بين الاسلام والكفر عدة مرات فى جيل واحد :
اسلموا كيدا فى قريش ، ثم ارتدوا كراهية فى عودة قريش للساحة ، ثم عادوا للاسلام بالهزيمة فى حركة الردة، ثم أصبحوا جندا للفتح ، ثم اختلفوا مع قادتهم القرشيين فى توزيع الغنائم حينما وجدوا عثمان يخالف طريقة عمر فى التوزيع العادل للثروة بين العرب، لذا دخل أعراب نجد فى طور جديد ، أصبحوا الثوار على عثمان ، وانتهت ثورتهم بقتله وتنصيب على بن أبى طالب مكانه فأصبح اسمهم شيعة "على" فى ذلك الوقت. الا أنهم احسوا انهم لايزالون تحت قيادة "على" القرشى ومعه آله من بنى هاشم والقرشيين فتحركت فيهم عقدتهم ضد قريش فأتعبوا عليا وناكفوه بشقاقهم ولجاجهم واستطالتهم عليه حتى أفشلوه فى معركة صفين بعد أن كاد يهزم معاوية ، واضطروه تحت التهديد الى أن يسحب مقدمة جبشه وهى على وشك أن تقتحم فسطاط معاوية. فاضطر على الى أن يأمر الأشتر النخعى قائد مقدمة جيشه للتراجع بعد ان هدد أعراب نجد بتسليم "على" نفسه الى العدو ان لم يمتثل "على" للتحكيم. وبعد قبول"على" للتحكيم مرغما خرجوا هم انفسهم عليه يتهمونه بالكفر لأنه رضى بالتحكيم فأصبح كافرا ويطالبونه بالتوبة من الكفر. وبذلك دخلوا فى طور جديد هو الخوارج وهم الذين قتلوا عليا وظلوا فى حرب مستمرة ضد الحكم الأموى القرشى الى ان أسهموا فى اسقاطه.
اذن خلال جيل واحد من الصحابة تجد نفرا منهم تقلب حسب مصالحه السياسية من عداء النبى والاسلام الى الدخول فى الاسلام الى استغلال الاسلام فى الفتوحات وغزو الأمم الأخرى، كما فعل الأمويون . وتجد الصحابة الآخرين من اعراب نجد ـ فى اطار العداء التقليدى بين الحجاز ونجد ـ قد تقافزوا حربيا بين الدخول فى الاسلام والخروج منه، وفى كل مرة تجد لهم توصيفا جديدا. وفى كل مرة تجد لهم آلاف الضحايا.
وهنا نتأمل قوله تعالى فى هذه السورة المدنية التى تتحدث عن بعض الصحابة فى عصر النبى وتعطى حكما مستقبليا عليهم تؤكد استمراره بعد نزول الآية وهو ما حدث فعلا وتاريخيا بعد انتهاء الوحى :( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ ثُمَّ كَفَرُواْ ثُمَّ آمَنُواْ ثُمَّ كَفَرُواْ ثُمَّ ازْدَادُواْ كُفْرًا لَّمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلاَ لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلاً) ( النساء 137 ) .
6 ـ وضاع الاسلام بين قريش ونجد منذ ذلك الوقت وحتى الآن. فلا زلنا ننعم بالفتنة الكبرى حتى الآن. والمسلمون لا يزالون حتى الان حيارى تائهين بين نوعين من السلفيات، سلفية نجد وسلفية الحجازوآل البيت والتشيع.
"نجد" لا تزال حاضرة تسيطر بمذهبها السلفى على عقول المسلمين ـ وابن عبد الوهاب ولد فى نفس المكان الذى عاش فيه مسيلمة الكذاب والذى شهد اكبر أدوار حركة الردة . وقريش حكمت المسلمين منذ وفاة النبى الى تدمير الدولة العباسية سنة 658 ، باسم الراشدين ثم باسم الأمويين ، ثم العباسيين. حتى بعدهم كان هناك من "الأشراف" من حكم فيما يشبه الاستمرار فى المغرب والحجاز. وحتى الآن لا تزال قريش تحكم دولا عربية يزعم ملوكها الانتماء الى نسل "على " الهاشمى القرشى مثل الأردن والمغرب. ومعظم زعماء الشيعة يرصعون صدورهم بالانتساب لآل البيت ، ومنهم محمد خاتمم رئيس ايران السابق .
وهم يتناسون أن القرابة لا تعنى شيئا فى دين الاسلام فأبولهب هو عم النبى ، وآزر هو أب ابراهيم . ونوح لم يغن شيئا عن ابنه وزوجته وكذلك الحال مع لوط وزوجته. وفى المقابل نجد من أعظم النساء فى القرآن تلك الأميرة المصرية التى تزوجت فرعون موسى اشد الناس كفرا وكانت من أعظم الناس ايمانا.
نعود الى نجد وقريش لنقرر ان العداء بينهما لايزال محتدما على المستوى الاقليمى داخل الجزيرة العربية والدولة السعودية، وعلى المستوى الدينى والمذهبى بين الوهابية النجدية والحجازية الشيعيةوالصوفية.وهذا العداء يؤكد اننا لازلنا نعيش فى نفق الفتنة الكبرى وسلفها غير الصالح ، هى الداء أو هو المرض المتوطن فى بلادنا التى تمنع علاج هذا المرض المتمكن بالقرآن حتى يظل الاسلام الحق منفيا مبعدا عن الساحة.ولذلك فانهما مع ذلك العداء بينهما فانهما معا يقدسون بعض الصحابة ويمنعون النقاش الحر من المساس بالصحابة المقدسين لديهم.
7 ـ ان الشيطان لم يقدم استقالته بعد ظهور الاسلام. مهمته مستمرة الى نهاية العالم. عن طريقه بدأ عصيان الصحابة بعد موت النبى من بيعة السقيفة الى الفتوحات وما ترتب عليها من الحروب الاهلية. ومن عجب أن القرآن الكريم نبأ بما سيحدث بعد موت النبى من حروب أهلية واستمرار للصراعات الجاهلية ولكن على مستوى اوسع ، وكيف أن اصابع الشيطان خلف هذا الخروج عن تشريع الاسلام
8 ـ ان الله تعالى يقول عن العرب فى عصر النبى محمد عليه السلام " ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لإِلَى الْجَحِيمِ إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آبَاءَهُمْ ضَالِّينَ فَهُمْ عَلَى آثَارِهِمْ يُهْرَعُونَ وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الأَوَّلِينَ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا فِيهِم مُّنذِرِينَ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنذَرِينَ "." الصافات 68-73."
قد يقول قائل : انه ليس هناك جديد فى هذه الآية لأنها تصف ما كانوا عليه من التقليد وعبادة السلف، وقد تغير ذلك بالاسلام. فنبذوا تقديس السلف وعاشوا بالاسلام وماتوا عليه. وعليه فان الآية الكريمة تتحدث عن فترة زمنية كانت وانتهت.
ونتمنى أن يكون هذا الرأى صحيحا ، ولكنه ليس صحيحا لأن السياق فى الآيات هو عن الآخرة، أى أن الله تعالى هنا يتحدث عن أولئك العرب من أصحاب النار الذين شهدوا النبى وعاصروه وبعضهم عاش بعده، وبعضهم آمن ثم عاد لما كان عليه من الضلال ، أو بتعبير القرآن الكريم"( إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آبَاءَهُمْ ضَالِّينَ فَهُمْ عَلَى آثَارِهِمْ يُهْرَعُونَ ). لم يقل رب العزة حسب السياق اللغوى بالتعبير بالماضى: انهم الفوا آباءهم ضالين فهرعوا على آثارهم..التعبير فى الماضى يفيد انتهاء الحدث ، أما التعبير بالجملة الأسمية" فهم على آثارهم " يدل على الثبوت والاستمرار شأن العادات المتحكمة الراسية الباقية. ، ثم يأتى التعبير بالمضارع "يهرعون" ليفيد التكرار .والتفسير الحقيقى للآيات الكريمة هو ما أسموه بالفتنة الكبرى وعواقبها فى الآخرة..
9 ـ هؤلاء هم الصحابة الذين جعلوهم أئمة الهدى فى الأديان الأرضية ..

اجمالي القراءات 15042