الجزء الأول
( 13):وعظ السلاطين : تغيير المناخ الثقافى بين معاوية ومبارك ( الجزء ال

آحمد صبحي منصور في الثلاثاء ٢٠ - أبريل - ٢٠١٠ ١٢:٠٠ صباحاً

أولا :
1 ـ نقصد به هنا درجة الحيوية أو الموات . الحيوية الايجابية التى تجعل الفرد والمجتمع حيا متفاعلا مستعدا للتضحية والقتال والوقوف دفاعا عما يعتقده أو ما يمتلكه أو ما يريده ، أو الموات السلبى والخمول الذى يجعل المجتمع دابة مطيعة يركبها المستبد ، وغاية طموح تلك الدابة هو توفير الحاجات الأساس أو الحد الأدنى منها .

2 ـ العادة أن المجتمعات النهرية الزراعية ذات المناخ المعتدل هى الأقرب للدعة و السكون والميل للتسامح والصبر على ظلم الحكام ، تنمو فيها الأمثلة التى تعكس هذه الثقافة مثل ( طاطى لها لما تفوت )(الصبر حرق الدكان ) ( إن كانت لك عند الكلب حاجة قول له يا سيد ) ( الباب اللى يجى لك منه الريح سده واستريح ) ( اللى يتجوز أمى أقول له ياعمى ). ولهذا تدعو الأم المصرية لابنها قائلة ( يكفيك شر الحاكم الظالم ) فالحاكم الظالم يترصد الجميع ممثلا فى الخفير و شيخ البلد والعمدة والمأمور ، وقديما ( المشد ) و( الخولى ) و ( الكاشف ) .

3 ـ مصر و الهند والصين وايران هى الأمثلة الكلاسيكية لتلك المجتمعات المستقرة ، وهى مستقرة لأنها لا تعرف الثورات إلا قليلا ، وهى مستقرة لأنها هى التى ازدهرت فيها الحضارات القديمة و استمر فيها نظام الدولة الثابتة مهما اختلفت فيها نظم الحكم أو جنسيات الحكام ، وسواء كانت مستقلة أو محتلة .

4ـ الأساس هنا أن البيئة الزراعية تضمن الحد الأدنى من ضروريات الحياة ، من ( العيش والملح ) وما يستر البدن ، هذه الاحتياجات البسيطة تدعو بها الأم المصرية لابنها ( الاهى ما يجوّع لك كبد ولا يعرّى لك جسد) ، وللحصول على الغذاء والكساء فلا بد من (الصبر) الى أن ينبت البذر وينمو الزرع وينتج الحقل . ولأن الحقول تحتاج الى النهر فلا بد من سلطة مركزية تتحكم فى الرى والصرف وتحمى الحقول وأصحابها من غارات البدو وغيرهم من الطامعين فى الثروة الزراعية . وبالتالى لا بد أيضا من ( الصبر ) على ظلم هذه السلطة ، فصاحبها ياتى و يغيب ليأحل محله غيره ، مثل الليل و النهار و الفصول الأربعة ، ومثلما يحمله النهر من بقايا حطام وأكوام زبالة يلقيها فى مصبه. ويبقى الفلاح ملح الأرض ، وتبقى الأرض أو الوطن ، ولذا يتحمل الفلاح الباقى الحاكم الزائل أملا فى أن يأتى بعده من يكون خيرا منه .

5 ـ وإن لم يأت ذلك المنقذ القائم بالعدل على حصانه الأبيض فلتأت به ـ ولو فى آخر الزمان ـ الأحلام الوردية والأديان الأرضية وأساطيرها الدرامية . ومن هنا انتشرت اسطورة ايزيس واوزوريس وابنهما حورس والعم الشرير ست ، وفيها تكون ايزيس الأم والزوجة التى تساند الزوج والابن و تهب الحياة للاسرة ، بينما يموت اوزوريس ليعود آخر الزمان حاملا أمل العدل للمظاليم . أثرت تلك العقيدة الفرعونية فى الديانات الأرضية ، وتشكلت منها عقائد المسيا المنتظر ونزول المسيح آخر الزمان ( والمسيح الدجال ) والمهدى المنتظر.

6 ـ اجتذبت هذه الحالة المصرية انتباه عمرو بن العاص فقال ( مصر مطية راكب ) يعنى بالمثل المصرى ( بلد اللى يركب ) سواء كان الراكب فى عظمة صلاح الدين الأيوبى أو شجاعة الظاهر بيبرس ،أو كان فى جنون الحاكم بأمر الله الفاطمى ومحمد بن قايتباى ، أو عدل احمد بن طولون ،أو جشع السلطان برقوق ، أو وحشية السلطان أيبك ، أو جمال شجرة الدر أو قبح كافور الاخشيدى أو حكمة محمد على ، أو حمق عبد الناصر أو عشوائية السادات أو خيبة حسنى مبارك .
فى كل الأحوال يسهل على المستبد المصرى أن يفعل ما يشاء دون خشية من الشعب ، بل تهبط به مصر أو تصعد حسب مقدرته وشخصيته ، تعلو به مصر إن كان على مثال تحتمس أو رمسيس ، ويهبط بمصر إن كان من الصنف الخسيس. وإذا هبطت مصر هبط معها العرب ، وإذا صعدت وعزّت صعد معها وعزّ العرب .!

7 ـ المناخ الثقافى هنا له طابع مستمر ومستقر هو إيثار الصبر على التمرد . ولا يصل التمرد الشعبى إلا أن يكون مجرد هوجة لسبب طارىء يتعلق بأساس الحياة ( العيش والملح ) أى ( إكسير الحياة ) أو الضرورى جدا للبقاء حيا،أو بالتعبير الرائع الموجز (لقمة العيش )، والتى بدونها لا تكون هناك حياة أو ( عيش ) ، فرغيف الخبز فى الريف المصرى يقال عنه ( عيش ) أى حياة وعيش .
ويقسم المصرى بالعيش والملح ، ولو وجد كسرة خبز ملقاة على الطريق بادر بحملها فى إعزاز يقترب من التقديس وهو يقول ( بسم الله الرحمن الرحيم ).ويصبح أكل العيش والملح رابطة صداقة وأخوة حتى بعد طول خصومة وعداء . ( الملح ) هنا أرخص الادام ، وهو يمثل كل انواع ( الغموس ) أى ما يغمس فيه الخبز .
وكسرة الخبز أو لقمة العيش فى يد الطفل المصرى هى التجسيد المادى لقيمة الصبر ومعنى الأسرة المصرية . كسرة الخبز لها سيرة حياة متجددة ، تبدأ ببذرة الحنطة الى محصول القمح والدقيق و تنتهى الى الخبز . وفى كل تلك المراحل تتعاون الزوجة والبنت والأخت مع الرجل فى البيت والحقل ، ويقتسم الجميع موال الصبر والتحمل الى أن يتحول الصبر و القمح الى لقمة ( عيش ) فى يد الطفل ، يسير بها فى الشارع يأكل ، ويطلب طفل آخر منها ( كسرة ) فيعطيها له راضيا بالسليقة ، إذ لا مجال لمنع لقمة العيش عن الآخرين .
إذا وصل سوء الحال الى تهديد ( لقمة العيش ) هذه تنتفض الجماهير ، كما حدث فى انتفاضة الخبز فى عهد السادات ، أومن هنا نفهم تقاتل المصريين حول أفران الخبز فى الحضيض الذى أوصلهم اليه حسنى مبارك .!

8 ـ وخارج هذه الانتفاضات الفجائية الوقتية يكون من الاستثناء قيام الشعب كله بثورة مستمرة مثل ثورة 19 التى لم تأخذ حقها من الدراسة و التحليل برغم كثرة المكتوب عنها .
هذه الثورة الاستثنائية صنعتها عوامل شتى ، منها الانفتاح والتحديث الذى أقامه محمد على مع فرنسا والغرب ، وأثمر هذا التحديث العسكرى وعيا ثقافيا يطمح للتشبه بأوربا فى عصر الخديوى اسماعيل ، وواكب ذلك حركة تعليمية أوصلت الفلاحين المصريين المتعلمين الى قيادة الجيش فكانت ثورة عرابى ، وبهزيمتها جاء الاحتلال البريطانى.
الاحتلال البريطانى هو صاحب الفضل فى تطور الفكر المصرى الليبرالى ، فلم يكن احتلالا فظا غليظ القلب بل كان يسمح بنمو المعارضة الوطنية الى مدى معين ، لذا ظهر واشتهر مصطفى كامل الذى خرج من الطبقة الوسطى وكان يناضل داخل بريطانيا نفسها ، وتلاه رفيقه محمد فريد الذى كان يمثل الوطنية لدى الطبقة العليا .
هذه الليبرالية البريطانية ساعدت على نمو حركة الاصلاح الدينى و السياسى للامام محمد عبده ، وفى مدرسته تخرج سعد زعلول ، وقامت حركة ثقافية ليبرالية ارتقت بطموحات المصريين من مجرد ضمان الحصول على ( لقمة العيش ) الى قيمة أعلى وأكرم ، وهى الحرية بمعنى شامل وراق ، ليس التحرر من المستعمر الأجنبى فقط ، بل التحرر أيضا من الاستبداد المحلى ..

9 ـ بعد انهيار الحكم الفرعونى المصرى خضع المصريون لمختلف الغزاة الأجانب حوالى ثلاثين قرنا ، من الآشوريين والفرس والأغريق والرومان والعرب والأتراك والفرنسيين ، ثم الانجليز .
كان الانجليز هم أرقى مستعمر حكم مصر ، وأكثرهم رفقا بأهلها ، لم يقم الانجليز بارتكاب جريمة تعذيب لأى مصرى ، برغم من شيوع ثقافة التعذيب قبل وبعد الاستعمار البريطانى لمصر وحتى الآن. ولقد استغل مصطفى كامل حادثة دنشواى ضد انجلترة داخل انجلتره نفسها ، مع أن المحكمة فى دنشواى كانت مصرية صميمة ، ومع أن العادة قبل وبعد الاستعمار البريطانى ـ و حتى الآن ـ هو حق الحاكم فى قتل من يشاء بدون محاكمة أصلا.

10 ـ أتاح التعليم مع الليبرالية البريطانية ظهور وعى سياسى أشعل ثورة 19 وكان تمهيدا لتطورالحركة الوطنية التى طالبت بشيئين معا ( الجلاء والدستور) ، اى ( الجلاء ) لتحرر الوطن من المحتل الأجنبى ، و(الدستور) لتحرر المواطن من أى استبداد محلى . وهو تقدم فى الفكر الديمقراطى سبقت به مصر معظم أوربا ، ويكفى أن مصر افتتحت ثانى خط سكة حديدية فى العالم ، وكانت من أوائل من عرفت صناعة السينما ، وسبقت الشرق كله فى تكوين أول مجلس نيابى فى ستينيات القرن 19 فى عهد الخديوى اسماعيل.
كل ذلك قبل أن يقضى عليها الجراد ، اى العسكر الذى يحكم مصر من عام 1952.
ثورة 19 كانت هاجسا مزعجا للضباط المراهقين الذين قاموا بحركة الجيش عام 1952 ، ثم حولوها الى انقلاب ثم الى ثورة ، فى ظل تهميش لثورة 19 لما فيها من دعوة ليبرالية ودستورية .

11 ـ وبينما تم حرمان المصريين من فهم ثورة 1919 فان هذه الثورة هى التى ألهمت غاندى زعيم الهند ، والذى قام بتحرير الهند سلميا .والهند هى الأخرى إحدى أهم البيئات النهرية و الحضارية فى العالم.
والواقع أن نجاح غاندى فى ثورته السلمية يرجع الفضل فيه الى التحضر الانجليزى نفسه ، إذ تشبه غاندى بمصطفى كامل وخاطب الضمير الانسانى داخل الانجليز واستطاع أن يجذبه الى القيم التى عايشها غاندى نفسه وهو يعيش داخل المجتمع الانجليزى .
ولو ظهر غاندى اليوم فى عصر حسنى مبارك يدعو سلميا للحرية والديمقراطية مستخدما العصيان المدنى لكان مصيره التعذيب والاغتصاب فى سجون حسنى مبارك .!! وهذا ملمح من ملامح الاختلاف بين الثقافة الشعبية التى انحدرت لها مصر فى عصر مبارك ( المتوحش ) ، والثقافة الشعبية التى كانت عليها مصر منذ قرن من الزمان ـ وهى تحت الاحتلال الانجليزى ( المتحضر ).

12 ـ هنا ندخل على التحول الثقافى الخطير الذى حدث فى عصر حسنى مبارك بحيث يؤخر حدوث ثورة شعبية كالتى حدثت فى مصر عام 1919 . وهو تحول يتشابك مع مثيل له حدث مع معاوية وتكوين أول حكم وراثى مستبد فى تاريخ المسلمين .
نبدأ بعمنا معاوية .

ثانيا:
ننتقل الآن الى الجزيرة العربية حيث نتعامل مع نموذج ثقافى مختلف .

1 ـ هنا صحراء قاحلة ، فيها الماء سلعة تتقاتل فى سبيلها القبائل ، ويكون العشب المؤقت المتنقل سبب الاستقرار المؤقت ، فالعشب هو الوطن المتحرك ، والقبيلة هى الدولة المتحركة التى تسعى خلفه ولكن حدودها بقدر ما تستطيع سيوف القبيلة الدفاع عنه ، والانتماء هنا ليس للأرض والوطن أو المكان الثابت ولكن للنسب الذى يربط أبناء القبيلة بصلة الدم والقرابة . والقبيلة كدولة متحركة لها زعيم أو شيخ أو ( قيل ) أو ملك أو أمير . وكل ذكور القبيلة هم جند القبيلة وجيشها المحارب ، والرجل هو كل شىء ، فهو المسئول عن المعاش وعن الحماية ، أما المرأة فهى مجرد متاع وممتلكات للأب أو الأخ أو الزوج ، أو حتى الابن . وللقبيلة علاقات متنوعة مع القبائل الأخرى ، من الحرب الى الحلف ، وهناك من ينزوى وينضم الى القبيلة الكبرى من عشائر تتحالف مع القبيلة الكبرى ، وبمرور الزمان قد تكتسب ( جنسيتها ) أو نسبها ، كما يتردد فى مصادر أنساب العرب .
العمل الاقتصادى للقبيلة هو الرعى ( سلميا ) والاغارة على القبائل الأخرى لسلب ممتكاتها ، والممتكات هنا ليست مجرد المال والابل والغنم ولكن أيضا النساء و الأولاد ، لذا يرتبط السلب والنهب بالسبى والاسترقاق .
فى هذه الثقافة البدوية يشترك العرب فى المدن ( قريش فى مكة ، هوازن فى الطائف ، الأوس والخزرج فى يثرب ) مع الأعراب فى البوادى ، من ربيعة ومضر و قيس ( العرب الشماليون ) فى نجد شمالا ومن كلب وقضاعة ( العرب اليمنيون القحطانيون ) فى الشام .
وبينما نعمت قريش بسكنها حول البيت الحرام بالحصول على الأمن والرخاء الاقتصادى برحلة الشتاء و الصيف فان بقية العرب عاشوا فى قتال مستمر ، كان اسلوب حياة لهم يقوم على مشروعية اجتماعية هى الاستحلال ، أى استحلال ما فى يد الغير طالما تقدر عليه وطالما لا يستطيع الدفاع عنه. وبالاغارة لك الحق فى ملكية ما حصلت عليه بسيفك ، وتؤول اليك المرأة السبية وتدخل فى طاعتك وتهبك نفسها لأنها مملوكة لمن يغلب ولمن يستطيع حمايتها .

2 ـ وببعض التأويل والتحريف الدينى ـ بعد الاسلام ـ تحول هذا الاستحلال الاجتماعى فى الجزيرة العربية الى استحلال دينى قامت على اساسه دول متحركة مثل حركتى الزنج والقرامطة ، أو دول مؤقتة مثل حكم الهاشميين (الأشراف ) للحجاز ، والدولة السعودية الأولى و الثانية و الثالثة الراهنة.

3 ـ الصراع المسلح المستمر هو السبب فى عدم وجود دولة مستمرة مستقرة فى الجزيرة العربية ، يستوى فى ذلك إن قامت الدولة على اصول عشائرية قبلية أو على أساس دين أرضى أو سماوى. فى كل الأحوال هناك معارضة مسلحة لا تلبث أن تثور وتقضى على تلك الدولة ،وتجعل القاعدة هى وجود دولة مؤقتة أو متحركة وليست مستقرة مستمرة .
ولو افترضنا أن دولة الاسلام العربية ظلت محصورة فى الجزيرة العربية لانتهى عمرها سريعا . وهذا مفهوم من بزوغ حرب الردة بمجرد وفاة النبى محمد عليه السلام. ولو لم تصدّرقريش حيوية العرب العسكرية فى غزو البيئات النهرية خارج الجزيرة العربية ما قامت للعرب المسلمين دولة خارج جزيرتهم العربية . بل إن الجزيرة العربية عادت الى ظلام الجاهلية وغرقت فيه منذ العصر العباسى الثانى ، بعد انتقال الأضواء وتركزها فى البيئات النهرية ، واستقرار حكم العرب القرشيين فيها ، سواء من الأمويين أو العباسيين أو الفاطميين .
ولولا البيت الحرام وفريضة الحج لانقطع الاتصال بين الجزيرة العربية و العالم الخارجى بعد منتصف القرن الثانى الهجرى .

4 ـ استفاد العرب من شيوع ثقافة الصبر والخنوع فى البيئات النهرية التى احتلوها فتأكد سلطانهم ، خصوصا وقد تم صبغ ذلك الاحتلال بأديان أرضية تشرع العدوان وتسوغ ظلم السلطان وتوجب طاعته وتحرم الخروج عليه .
ومن هنا تفاعلت ثقافتان متناقضتان فى احتلال العرب للبلاد النهرية ، هما ثقافة تلك الشعوب : الخمول والصبر ، أى (ثقافة الموات ) أى عدم التفاعل إلا قليلا ، وثقافة العرب وهى التفاعل والصراع الى درجة القتل أى ( ثقافة الموت) . بايجاز (تقافة الموات ) النهرية وثقافة ( الموت) الصحراوية .
وكان الاسلام وسطا بين الثقافتين .

5 ـ نزل القرآن الكريم بثقافة مختلفة تقوم على أساس التفاعل الايجابى ليقوم الناس بالقسط وبالأمر بالمعروف والنهى عن المنكر . والمعروف هو المتعارف عليه من قيم العدل والحرية والسلام ، والمنكر هو الظلم والاعتداء والبغى والفحشاء، مع إعلاء قيمة الصبر (الايجابى ) الذى يدفع للهجرة فى سبيل المعتقد عند وقوع الاضطهاد ، ويدفع بالمؤمن للصبر على القتال دفاعا و ليس عدوانا ، مع التمسك بفضائل الرحمة والرأفة والرفق والاحسان .
وتركزت الآيات المكية فى تعليم ( لا اله إلا الله ) وتعليم الجانب الخلقى ، ثم جاءت تفصيلات التشريع فى الآيات المدنية ،خصوصا فى تجريم وتحريم الاعتداء وأن تكون الحرب دفاعية فقط وملجأ أخير لتعزيز السلام وليس للبدء بالعدوان . وأدى عسف قريش بالمسلمين الى الهجرة الى المدينة وتأسيس أول ـ وآخر ـ دولة اسلامية حقيقية فى السنوات العشر الأخيرة فى حياة خاتم المرسلين ـ عليهم جميعا السلام.
وتداخل التشريع القرآنى فى الجهاد مع خطاب قرآنى كان يتوجه بالخطاب المباشر للمسلمين يحثهم على نبذ ثقافة العرب (المسماة بالجاهلية ) وأهمها موالاة القبيلة والنسب والمصالح الاقتصادية على حساب الانتماء للقيم العليا التى جاء بها الاسلام .
كان المهاجرون فى المدينة يعانون من الغربة والتردد بين نوعين من الانتماء والولاء : الانتماء الجاهلى لقريش أعظم قبيلة عربية ، هذا الانتماء الذى يوجب نصرة اخيك ظالما أو مظلوما ،أى نصرة قريش الظالمة وموالاتها فى حربها العدوانية ضد دولة الاسلام ، أو الانتماء الى دولة الاسلام وقيمها العليا المناقضة لقيم الجاهلية .
وكثيرة هى الآيات التى تكررت وعاتبت المهاجرين على تذبذبهم فى موضوع الموالاة والانتماء. بدأ هذا مع أول استقرار المهاجرين فى المدينة (سورة الممتحنة 1 : 9 ) ( الأنفال 72 ـ ) وظل بعدها ( المجادلة 22 ، آل عمران 28 ) واستمر الى أواخر التنزيل (المائدة 54 : 58 التوبة 23 : 24 ) .

6 ـ مع التعصب القبلى أو الولاء القبلى كان هناك أيضا الانتماء للمال .
فى الاسلام لا وجود لاحتراف دينى ، والداعية لا يسأل الناس أجرا ، وكذلك الأنبياء ، بل مفروض التضحية فى سبيل الله بالنفس والمال .
ولكن المال مقدم على حياة النفوس فى الجاهلية حيث يتقاتل الناس فى سبيل المال، ويتحول المال الى اله معبود ، من أجله كانت قريش تعاند الهدى مع علمها بأن القرآن هدى ، ولكن هدى القرآن يعارض مصالحها الاقتصادية ( القصص 57 ) ( الواقعة 81 : 82 ) .
ولذا قيل عن أحد زعماء القبائل وقتها إنه ( الأحمق المطاع )، لأنه (كان إذا غضب ، غضب لغضبه مائة ألف سيف لا يسألونه برهانا ). هذا ما قيل عن (الأقرع بن حابس ).
أى مع انه ( أقرع ) و( ابن حابس ) و( أحمق ) إلا أنه كان مطاعا فى قبيلته مهما قال ومهما فعل ، وخلفه مائة ألف سيف فى طاعته وفى الولاء له . لماذا ؟ لأنه فى حمقه كانت لا تستمر صداقاته أو تحالفاته مع القبائل الأخرى ، لأن الهدف الأساس له هو توفير الغنائم لقبيلته من أى طريق وبأى سبيل ، فوصفه العرب من خارج قبيلته بالأحمق المطاع . وهنا يكون التعبير الصادق عن ثقافة الجاهلية التى تناقض الاسلام .

7 ـ ولم يكن الصحابة سواءا فى مدى وعمق تمسكهم بالاسلام ،أو حتى فى حفظهم للقرآن الكريم .وفى القرآن الكريم تقسيمات للمنافقين ، وأنواع من المؤمنين منهم السابقون والذين خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا ومنهم المرجفون فى المدينة و الذين فى قلوبهم مرض ، والموصوفون بالخيانة .
ومن تاريخ المسلمين نعلم أن من المسلمين من تأخر اسلامه مثل عمرو وخالد وأبى هريرة، ومنهم من كان صبيا عاش فى مكة لم ير النبى إلا وقت فتح مكة ، وظل فى موطنه مكة الى أن مات النبى فى المدينة ، أى لم ير النبى إلا سويعات ، مثل عبد الله بن عباس ومعاوية بن أبى سفيان .
وعايش السابقون ـ زمنا ـ الاسلام حوالى 23 عاما فقط . أسلموا كبارا بعد تشرب كامل لثقافة الجاهلية ، ونستثنى منهم من أسلم صغيرا ولازم النبى محمدا عليه السلام مثل على بن أبى طالب . وبعد السابقين زمنا هناك من تأخر اسلامه . وهناك من أسلم مضطرا بعد طول عداء للاسلام ، ليحافظ على مكانته وليركب الموجة الجديدة ، ثم يحيد بها حيث يريد فى الوقت المناسب . وهذا هو حال أبى سفيان وابنه معاوية والحكم بن العاص وابنه مروان , وهو أيضا حال العباس بن عبد المطلب وابنه عبد الله ، ومنهم جاءت الخلافة الأموية و العباسية ، وعادت الثقافة الجاهلية خلال أديان أرضية ، أهمها السّنة .

8 ـ ومع العداء بين العباسيين والأمويين إلا إنهم تمسكوا بأسس هذه الثقافة الجاهلية ،وهى التعصب و جمع المال بالسحت و العدوان.
فى ميدان التعصب نراهم جميعا قد مارسوا التعصب القبلى لقريش وتفضيلها على سائر العرب ، وربطوا ذلك بالدين الأرضى فحصروا فيها الامامة و الحكم ،÷ فصنعوا حديثا يقول ( الامامة فى قريش ). ثم داخل دائرة قريش يضيق التعصب ليكون تعصب الأمويين ضد أبناء عمومتهم الهاشميين ، والعكس ، ثم تضيق الدائرة فيتعصب العباسيون ضد العلويين ، ويتعصب الأمويون من ذرية مروان بن الحكم ضد أبناء عمومتهم من أبناء أبى سفيان ، ثم يضيق التعصب أكثر وأكثر فيتعصب الخليفة لابنه ضد أخيه ، فيعزل أخاه ويولى ابنه محله .
وفى جمع المال تجدهم يتشابهون . فابن عباس يخون ابن عمه عليا بن أبى طالب الذى عينه واليا على البصرة ، وحين رأى ابن عباس اهتزاز حكم الخليفة ( على ) فإنه لم يقف الى جانبه كما يمليه عليه واجب الولاء الوظيفى باعتباره واليا عند (على ) بل كما يمليه عليه واجب القرابة كونه ابن عم الخليفة . غلب عليه حب المال فهرب وحمل معه فى هربه بيت مال البصرة ، وطلب الحماية من أخواله فى الصحراء . خسة ودناءة لا مثيل لها فى ذلك الوقت ، ومع ذلك فابن عباس أحد روافد الدين السّنى ، وجد الخلفاء العباسيين ، وقيلت فى فضله أحاديث ..
وفى المقابل جمع الأمويون كل ما يقدرون على جمعه من أموال فى ولايتهم على الشام ومصر ، وجاءتهم الفرصة فى خلافة عثمان (الأموى ) فتحكموا فيه وفى ايرادات الدولة الى أن تسببوا فى قتله ، وتركوه محاصرا دون نصرة لأنهم كانوا يريدون فقط قميصه الملوث بدمائه ليستغلوه فى حرب (على ) للوصول الى الحكم ، وهذا ما تحقق فعلا . وبوصولهم للحكم أصبحوا يتحكمون فى ثروة معظم العالم المعروف من حدود الهند والصين الى جنوب فرنسا.
وللانصاف نقول إنهم لم يكونوا وحدهم فى جمع المال السحت ، فقد فعل مثلهم كبار الصحابة ، خصوصا زعماء الحرب الأهلية : الزبير بن العوام و طلحة بن عبيد الله ، وعمرو بن العاص وآخرون ، تركوا ميراثا من الاقطاعات و القصور و أرادب من الذهب .
وفى مواجهة عبادة المال السحت هذه وقف الى جانب العدل والعفة والنزاهة قلة من الصحابة تزعمها على بن أبى طالب ومعه أبو الدرداء و أبو ذر. ولكن طغيان الثقافة الجاهلية حملهم الى متحف التاريخ ليفسح الطريق للأمويين ثم العباسيين .

9 ـ بايجاز .. فان ثقافة الاسلام ذات ال 23 ربيعا لم تصمد أمام ثقافة الجاهلية التى أعادتها قريش من خلال الأمويين الذين أقاموا ملكهم باستخدام المال ، وبذلك تم التغيير الثقافى المشار اليه . وبالمال استطاع معاوية استمالة شيوخ القبائل ، يعطيهم بلا حساب أو بحساب حسب ولائهم له ومدى حاجته اليهم .
وبهذه الثقافة برزت نوعية جديدة من زعماء القبائل ، ليس مؤهلها السبق فى الاسلام أو الخشية من الرحمن ولكن المقدرة على الحصول على اموال للقبيلة من الخليفة فى دمشق ، والخليفة يعطيه بقدر الولاء للخلافة و بقدر ما تقدمه قبيلته من جند للغزو فى الخارج وفى محاربة الخصوم فى الداخل . من هنا نفسر هزيمة (على ) ومقتل ذريته فى كربلاء ، حيث كانت قلوب الناس مع الحسين ولكن سيوفهم عليه لأن سيوفهم تبع لجيوبهم .
انتهى عصر الولاء للقيم الأخلاقية التى جاء بها الاسلام ، وأصبح الولاء للمنفعة الشخصية للقبيلة و لشيخ القبيلة وأفراد القبيلة .
هذا هو التغيير الذى أحدثه الأمويون وساعد على توريث يزيد خلافة معاوية .

10 ـ نعود الى وجعنا الدائم : مصر . لنرى تغيير المناخ الثقافى فى عهد مبارك

 

اجمالي القراءات 13751