دورالزكاة المالية ( الصدقة ) فى تزكية النفس عقيديا(8 ):
( لاَ يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُواْ فِي الْبِلادِ )
1 ـ عاش فى أزقة نيويرك يحلم بالثراء وشقة فارهة فى مانهاتن و تملك مزرعة فيها قصر كبير يقضى فيها عطلاته وأوقات فراغه . لتحقيق حلمه اضطر للعمل قاتلا محترفا ، استغرقه عمله ، ومقتضيات العمل من السفر و التخفى والهروب من ملاحقات البوليس والعصابات الأخرى ، حقق حلمه فتملك أكثر من شقة فى أكثر من مدينة ، واقتنى قصرا فارها تحيط به مزرعة فى منطقة نائية فى احدى الولايات . استيقظ من دوامة العمل على قول الطبيب له بأنه مصاب بالسرطان ، ولم يتبق له سوى بضع شهور قبل الموت . انتفض من الرعب ، فهو يعايش الموت و يلقى فى أحضانه الكثيرين طبقا لعمله قاتلا محترفا ، وهو يعرف أن مصيره القتل ، وطالما اقترب منه الموت فى مطارداته فأفلت منه ، وحياته هى لعبة الموت ، ولكن اختلف لديه الأمر وهو ينظر الى صور الأشعة والأورام تتشعب فى أحشائه والموت ينظر اليه من داخلها .
قرر الاعتزال ، ولكن لا مكان للاعتزال فى مهنته . بسبب طول خدمته وصداقاته مع رءوس العصابة التى يعمل لديها فقد وافقوا على اعتزاله بشرط أن يعطى تلميذه الأثير كل ما لديه من أسرار وخبرات.
رضى بالاتفاق ، وصحب تلميذه الأثير الى قصره السرى فى مزرعته النائية التى اعتاد أن يختفى فيها عن الأنظار وقت المطاردات . بعد الراحة من السفر أخذ يتجول فى القصر المجهز بكل أساليب الراحة و الرفاهية فاكتشف أنه ـ فى الزيارات القليلة التى جاء فيها للقصر ـ لم يعرف من القصر سوى المدخل وبعض أركان الجناح الذى كان يبيت فيه ،. اصطحب تلميذه ليريه المزرعة ، واكتشف أنه نفسه لم يتجول فى المزرعة من قبل ، ولم تتح له الفرصة للحديث مع العاملين فيها إذ كان يحرص على ان تبقى شخصيته غامضة عنهم.
انبهر بالجمال الذى نسى أن يتمتع به ، وندم على أن أضاع حياته بعيدا عن التمتع بما كان يحلم أن يتمتع به بعد أن أصبح ملك يديه . وتأسف أنه حين آن أوان الاعتزال والتمتع لم يبق له سوى شهور فى هذه الدنيا يعيش فيها ينتظر الموت الذى يقترب منه .
أفضى بكل هذا لتلميذه المخلص ، وأخذته مشاعره وهو يبكى حظه فاكتشف أنه يسير وحيدا. التفت يبحث عن تلميذه الوفى فرآه خلفه شاهرا مسدسا كاتم الصوت . عرف أن ( الشركة ) قد قررت تصفيته لأن بقاءه بكل ما يعرف أصبح خطرا عليهم ، وأنهم كلفوا بالمهمة أعز شخص لديه . حاول أن ينصح تلميذه ألا يقع فى نفس الخطأ الذى وقع هو فيه ، وأن يبحث له عن عمل آخر .. ولكن رصاصات المسدس كانت أسرع .
قبل أن يغمض عينيه حاول أن يسترق لمحة من الجمال المحيط به والذى كان ملكا له متمنيا دقيقة واحدة من الحياة ، ولكن الموت ضنّ عليه بهذه الأمنية .
2 ـ هى طبعا قصة من الخيال ، ولكنه الخيال الواقعى الذى ينبض بالواقع المؤلم لكل من أراد الدنيا وحاول تحقيق أحلامه فيها بكل السبل وبأخس الوسائل على حساب التقوى و الطهارة الخلقية .
بمقياس الدنيا الظاهرى وبالرؤية السطحية لأهل الدنيا المفتونين بها فهو ذو حظ عظيم . رصيده فى البنوك يتزايد ، مرتباته تتكاثر ،وأرباحه تتعاظم ، وله العديد من المساكن و السيارات والخدم والحشم . وبتلك الرؤيا ينظر اليه الخدم فى مزرعته وقصره ، ويتمنون أن يكونوا مثله . مثلهم فى ذلك مثل العوام فى قصة قارون .
فقد خرج قارون على قومه فى زينته فتمنى الرعاع ان يكونوا مثله ، واعتبروه ذا حظ عظيم ، ونصحهم العقلاء المؤمنون أن الحظ العظيم هو لمن أراد الآخرة وسعى لها سعيها وهو مؤمن فاستحق ثواب الله جل وعلا :(فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِّمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلا يُلَقَّاهَا إِلاَّ الصَّابِرُونَ فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِن فِئَةٍ يَنصُرُونَهُ مِن دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ المُنتَصِرِينَ وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلا أَن مَّنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا وَيْكَأَنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ ) ( القصص 79 : 82).
بغض النظر عن المواكب والمظاهر فأنت لا تعرف ما يعانيه صاحب الموكب ، أنت تتمنى أن تكون مثله ، وهو فى الحقيقة يتمنى لو استطاع أن يعيش حياته مثلك أنت ، مستمتعا بحريتك فى السير كيف تشاء ، وفى الأكل وفى النوم وسائر الأشياء البسيطة التى تفعلها دون أن تحمد الله جل وعلا عليها، ولكنه يتعذر عليه ان يفعلها مثلك لأن المواكب لها مستلزماتها التى تجعل صاحب الموكب أسيرا لها .
3 ـ ذكرت احدى الصحف الجزائرية أن الرئيس مبارك واسرته يملكون أرصدة مالية فى الخارج تبلغ اربعين مليارا ، وذكرت ممتلكاتهم العقارية من القصور وغيرها .
وبغض النظر عن مدى صحة ودقة الارقام فالذى لا جدال فيه أن :
3 / 1 ـ مبارك وأسرته يمتلكون الكثير من المليارات والكثير من القصور فى مصر وخارجها .
3/ 2 ـ مبارك لا يجد وقتا للتمتع بتلك القصور ولا حتى لأن يسافر اليها .
3 / 3 ـ وهو حتى فى قصوره التى ينام فيها فى مصر تحت الحراسة المشددة لا يتمتع بالاستغراق فى النوم العميق الذى يتمتع به الملايين من ضحاياه من الساكنين فى القبور والعشوائيات وعلى السطوح .
3 / 4 ـ المليارات التى يملكها مبارك لا يحتاج فعلا لها ، وهو غير قادر على الاستفادة منها ،أى يحمل وزرها دون فائدة يجنيها منها ، أى هو يملك سرابا يقال عنه مليارات ،أى يملك فى الحقيقة صفرا . وبهذا الصفر وذلك السراب يتساوى مبارك مع ضحاياه ممن أفقرهم وأجاعهم .
3 / 5 ـ وأولئك الجوعى من الفقراء يلتهمون الخبز وما تيسر لهم بشهية هائلة ، ويشربون الماء الملوث ، ويتجشأون فى راحة . أما مبارك فقائمة طعامه يحددها له أطباؤه ، وحتى ما لذّ منها وطاب يتلكأ فى بلعومه بلا مذاق ، فقد تعود ـ حتى الملل ـ على كل ما لذ وما طاب ، و(بالملل) أصبح يأكل ليس لأنه جوعان ولكنه لأنه ( غذاء عمل ).
3 / 6 ـ وأتذكر أننى تعرضت للقبض على مرتين فى عصر مبارك ، الأولى عام 1987 ، حين حاصر جيش صغير مسكنى فى المطرية بالقاهرة ، وحملونى فى سيارة أمن مركزى تسبقها وتتلوها أرتال من عربات الحراسة المدججة بالأسلحة الخفيفة والثقيلة . وحين كانوا ينقلوننى من سجن مزرعة طرة الى حيث التحقيق معنا فى نيابة أمن الدولة العليا فى منطقة الجبل الأصفر ، كنت أتمتع بنفس الموكب ، عشرات السيارات المدججة بالسلاح فى المقدمة و المؤخرة لحراستى . وكل جريمتى أننى كاتب ومفكر سلاحى الوحيد (قلم جاف ) بخمسة قروش وقتها . وهم يعرفون ذلك ، ولكنه الاصرار على أن يكون لى (موكب ) .
وتكرر نفس الوضع حين عدت من أمريكا عام 1988 ، قبضوا علىّ فى المطار ، ونقلونى فى نفس الموكب الى مقر أمن الدولة فى لاظوغلى . ولم يكن معى سوى أوراقى وكتبى ، ومعى طبعا السلاح المحرم مصريا وهو ( قلمى الجاف ) بخمسة قروش.
كل هذا الحشد والاستنفار الأمنى خوفا من القلم الجاف يعكس مقدار الهلع الذى يعانيه مبارك .
السؤال هنا عن الفارق بين موكب الرئيس مبارك والمواكب التى يعدها زبانية الرئيس مبارك عند اعتقال أمثالى ؟ ..
3 / 7 : أترك التفكير فى الاجابة للقارىء العزيز ، ولكن أقول : إن مبارك وأى حاكم مستبد عندما يصادر حرية الناس ويحتكرها لنفسه فإنه فى الواقع يصادر حريته هو . صحيح أنه يجعل الشعب يعيش فى سجن كبير باتساع الوطن كله ، وصحيح أنه يضع الأحرار فى سجون كئيبة مغلقة ، ولكن صحيح أيضا أنه يسجن نفسه داخل جب من الرعب والخوف من الانتقام والشك والحذر من أى تمرد أو شغب أو ثورة. لذا يلجأ الى إعداد نوعين من المواكب ، مواكب لحمايته عندما يتحرك خارج سجنه الذى يقيم فيه (أى قصره ) ومواكب أخرى لحراسة المعتقلين ممن جعلهم خصومه ، من دعاة الاصلاح والحرية.
ومع أنه متأكد من أنهم مسالمون لا حول لهم ولا قوة لأنه هو الذى استأثر لنفسه بكل الحول والقوة، إلا إنه بسبب رعبه من المجهول لا بد أن يقيم لهم مواكب ليتأكد أنهم (تحت السيطرة) بالتعبير الأمنى. وكلما إزدادت جرائم المستبد إزداد تحرزه وخوفه ورعبه،واستحكم سجنه لنفسه ، وتكثفت مواكبه ليظهر للعالم أنه لا يزال يسيطر ويتحكم ، لذا لا بد ان يبتسم أمام الكاميرات وهو يخفى داخله الرعب و القلق من الغد والخوف من المصير، ولا بد أن يبدو صحيحا معافى قويا حتى لا يطمع فيه الجنرالات المتحفزون للاطاحة به عند ضعفه أو مرضه.
3 / 8 : الذى يؤرق مبارك أكثر أنه مثل بطل القصة السابق ـ القاتل المأجور ـ لا يستطيع الاعتزال والخروج الى المعاش ،لأنه لو ترك السلطة فسينتقل الى ضريح من الرخام لو ترأفوا بحاله. أما إذا أرادوا التنكيل به فى أواخر عمره فسينقلونه من السجن الذهبى أو القفص الذهبى الى سجن أبى زعبل ليعيش تحت رحمة المساجين من ضحاياه، وياويلها من عيشة هباب ، الموت أرحم منها .!..
الذى يؤرق مبارك أكثر وأكثر ليس خوفه على نفسه فقط ، فقد بلغ أرذل العمر ، ولكنه الخوف على أسرته ، فالمستقبل المعد لهم بعده يتراقص بين السجن والقبر ، مع بعض الرتوش الأخرى كالمطاردة والاعتقال ، و مواكب أخرى مثل التى تنعمنا بها فى عهده الكئيب . أى اختيار بين شيئين أحلاهما مرّ علقم . وهو أيضا مثل بطل القصة السابق لا يستطيع الافلات بنفسه وأسرته.
لا شك أن كل هذه المشاعر تؤرق مبارك فى خلواته وفى مواكبه على السواء.
3 / 9 : حقيقة المستبد ..أنه نوع مختلف من المساجين ، سجين سجن نفسه بظلمه ، وكبّل ط معصميه بالقيود وحاصر نفسه بالحراس والجنود. ولكن الحراسة لا تعطيه الاحساس بالأمن ، بعد أن أضاع على الشعب الأمن، فكوابيس الرعب وأشباح الضحايا تجعله يتوقع الغدر من أقرب الناس اليه ، لذا لا يأمن الحراس ، ويتخوف أن تستدير مدافعهم اليه ، وتنقلب قلوبهم عليه ، ويتلقون الأوامر بقتله وسحله من أقرب الأعوان وأصدق الخلان . ينظر المستبد السجين المحاصر فى شك وارتياب الى اقرب أتباعه وأخلص أنصاره يحاول أن ينفذ الى سرائرهم و يتحسب لأنفاسهم ، وهى حياة كلها قلق وعذاب .
هذه هى مشاعر المستبد السجين المسكين . تنظر اليه عيون الغافلين تقول ( يا ليت لنا مثل ما أوتى فلان إنه لذو حظ عظيم ) بينما المستبد المسكين (السجين) يتمنى لو عاد به الزمن ليكون واحدا من الناس ، مجرد وجه بين الملايين ، يتسكع فى الشوارع ويتسوق من المتاجر يأكل الطعام ويمشى فى الأسواق ،لا يطارد أحدا ولا يطارده أحد ، وينام قانعا هانئا بلا كوابيس .!
3 / 10 : ملكة هولنده تتجول فى الشارع تركب دراجتها دون خوف ، وكذلك رئيس الاتحاد السويسرى وربما رئيس وزراء الدنمارك والنرويج والسويد و نيوزلنده ، وقبلهم وبعدهم تقف البنت نعناعة تبيع الورد فى الميدان بينما يتقافز الواد شحتة مثل العفريت بين السيارات فى توقفها فى إشارات المرور بالقاهرة يبيع مناديل الورق و يتظاهر بتلميع زجاج السيارة،اما عم عوض بائع الفول فمن بعد صلاة الفجر وهو يعد (قدرة الفول ) ثم يصطحبها معه الى الميدان حيث يقف فى ركنه المعروف، ويتجمع حوله الناس يأكلون طبق الفول بالزيت الحار والبصل الأخضر والخبز الطازج . وهكذا يعيش أولئك ويتحركون بلا مواكب حراسة تحميهم لأنهم لم يظلموا أحدا ، وليس عليهم (طار ) أو ( ثأر) أو مطلوبون ومطاردون من أحد .
المحتاجون للحماية المكثفة أغلبهم زعماء المافيا: (زعماء العالم السفلى وزعماء العالم الثالث) ..
4 ـ تنظر النساء لها بحسد ، وينظر لها الرجال فى رغبة ، وآهات الاعجاب تحيط بصورتها فى المجلات و الاعلانات و الأفلام ، ولا تستطيع السير فى الشارع إلا فى حراسة واستعداد امنى حتى لا تسود الفوضى فى الشارع . هى الممثلة الفنانة فلانة . بشبابها وجمالها وقوامها تأسر الجميع ، ويحلم بها ملايين المراهقين من العاشرة الى السبعين ، و تتمنى كل أنثى أن تتمتع بقوامها وسحرها وابتسامتها وأنوثتها وملايينها ومعجبينها . ماذا بقى لها من متع الدنيا لم تحصل عليه ، وكل ما تريده تحصل عليه؟ . يحسدها كل محروم ومحتاج .
عفوا .. أيها المحتاج .. كل ما تراه مجرد ماكياج .
لكى تصل هذه الممثلة الى تلك الصورة فقد خضعت لعمليات تصنيع وترقيع ودعاية وتجميل وتدريب تمت بها إعادة صياغتها من الفتاة السابقة الساذجة التى كانت عاملة فى كوافير أو طالبة فى الجامعة الى كائن صناعى يدار بالريموت كنترول ليدر دخلا فى الماكينة الرأسمالية ، وتظل تلعب الدور المرسوم لها الى أن تصبح سلعة غير قابلة للاستهلاك فيلقون بها الى الزبالة .
كل هذا الجمال المتوهج وكل هذه الألوان هى مساحيق خارجية وألياف صناعية تغلف الفتاة المسكينة بحيث لو جلست قرب مدفأة لانصهر أغلبها من الزيوت والشمع والأصباغ وألياف النايلون ، ولن يتبقى منها سوى مومياء شبح يخيف الأطفال .
كل هذا الجمال المتوهج يسجن داخله إنسانا تعسا ، هو تلك الفتاة التى كانت فراشة حرة تأكل ما تريد وتتصعلك كيف تشاء، ولكن شاء سوء حظها أن تقع فى هوى أضواء الشهرة فجذبتها الأضواء ووقعت الفراشة فى نار المصباح فاحترقت. أصبحت المسكينة تأكل بحساب وتعايش الجوع الحقيقى حفاظا على رشاقتها ، وتخضع لعمليات تجميل وعمليات تدريب وتنظيم وتعليم حتى يمكن استغلالها بكل المستطاع قبل ان تتسلل التجاعيد لوجهها .
كل هذا الجمال المتوهج مجرد زائر عابر لا بد له أن يرحل ، مثله مثل الشباب . وعندما يولى الشباب ومعه الصحة يدخل الانسان فى مراحل أخرى . يتقبلها المؤمن العاقل ، ويجزع منها الغافل . يقول جل وعلا ( وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ أَفَلا يَعْقِلُونَ ) ( يس 68). وقليل من البشر هم الذين يعقلون .
ومسكينة تلك المرأة التى تقوم حياتها وكينونتها على الجمال فقط تعمل له وتقلق من أجله و تتكسب منه . ستفقده سريعا ،و ستعيش بعده ـ إن عاشت ـ تتحسر على سحرها الماضى، وتسترجع بالدموع صور الجمال الذى ولى .
ومن العجائب أن هذا ينطبق أكثر على الفنانات و ممثلات الاغراء . تحتفظ ذاكرة السينما بجمالهن المبهر ليكون حسرة لهن فى الشيخوخة ، ومفترض أن يكون هذا عبرة للجيل القادم ، ولكن قلّ من يعتبر لأن الأساس هنا هو إيثار الدنيا والغرور بمواكبها وزينتها .
أخيرا .. كل هذا الجمال المتوهج هو مجرد زينة ..والزينة بطبيعتها زائلة . والذين يؤثرون الحياة الدنيا على الآخرة لا يدركون أن تلك الزينة عرض زائل ، وهم فى صراعهم حول تلك الزينة الزائلة ينسون تزكية انفسهم بالأعمال الصالحة الباقية التى تنجيهم من عذاب السعير ، وتجعلهم متمتعين بالخلود فى النعيم .
5 ـ كل ما سبق مجرد خواطر مستقاة من حقائق قرآنية :
5 / 1 : يقول رب العزة يضرب مثلا للحياة الدنيا : (وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاء أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاء فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُّقْتَدِرًا) أى هذه الدنيا مجرد زرع يكبر ويزدهر ثم يضمحل ويندثر. وبعد هذا المثل شديد البلاغة والايحاء تأتى الآية التالية بحقيقة تقريرية تقول:(الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلا ) ( الكهف 45 : 46 ). أى أن المال والبنون مجرد زينة زائلة ، وأن الباقى الصالح النافع هو عمل الصالحات لمن أراد الآخرة وسعى لها سعيها وهو مؤمن .
5 / 2 : أما الذى أراد الدنيا وانشغل طيلة حياته بتلك الزينة فان تلك الزينة تتحول الى عذاب وحسرة له فى الدنيا ، إذ انهمك فى الصراع من أجلها وطغى وبغى ليستحوذ لنفسه على أكبر جزء منها . وليس هذا الصراع هينا أو مريحا ، إنه ارهاق للأعصاب وفقدان لراحة البال ، وتوقع للخسارة والسقوط والسجن والقتل ، وحتى لو نجح وكسب الى حين فكل ما يكسبه هو رزق وهمى ، مجرد أرقام وحسابات وأوراق،وحتى أملاكه العينية من قصور و أطيان زراعية لا يجد الوقت والفراغ للتمتع بها ، ولو وجد الوقت فان الهموم تصاحبه وتنكد عليه ،أى يتحول هذا الرزق الوهمى الى شقاء له فى الدنيا ، ثم يكون عذابا له فى الآخرة.
5 / 3 :وقد يقال إنه يريد تأمين مستقبل الأولاد .
حسنا ،هل سألتم أولاده ما هو الأفضل لهم ؟أن يغدق عليهم أمواله أم يعطيهم حقهم فى حنانه ؟ أيكون لهم مجرد خزنة مال أم والدا يربى ويرشد ويرعى ؟.!
المشغول بالصراع من أجل الرزق الوهمى يترك رعاية أطفاله للخدم والمربيات ، ويعوض انشغاله عنهم بمنحهم الأموال ، فتتحول تلك الأموال الى عنصر تدمير للأولاد ، فهى أموال زائدة عن الحاجة فلا بد ان ينفقوها فى المخدرات والموبقات يدمرون أنفسهم بأيديهم .
وفى كل الأحوال يتحول أولئك الأبناء الى مصدر قلق لأبيهم ،أى تتحول (زينة الحياة الدنيا ) من ( المال والبنون ) الى شقاء لمن أشقى نفسه بالدنيا ، وأعرض عن تزكية نفسه بالتقوى .
5 / 4 : ومهما تألق السطح الخارجى بمظاهر النعيم ومواكب الجاه والرفاه فإن البؤس كامن يدعو كل مؤمن عاقل ألا يقع فى إعجاب هذا السطح المزخرف الذى يخفى تحته شقاءا فى الدنيا ، ويضمر لصاحبه خلودا فى النار.
ولنقرأ فى ذلك قوله جل وعلا ينهى النبى محمدا عن الاعجاب بأموال المنافقين وأولادهم لأنها ستكون عنصر عذاب لهم فى الدنيا :(فَلاَ تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُم بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ) ( وَلاَ تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَأَوْلادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَن يُعَذِّبَهُم بِهَا فِي الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ) ( التوبة 55 ، 85 ).
اما فى الآخرة فسيكون ما جمعوه من مال بالسحت وبالبخل عنصر تعذيب لهم إذ يتحول ذلك المال الى نار تطوقهم وتكويهم :(وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَّهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَّهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُواْ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ) (آل عمران 180 ) (وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لأَنفُسِكُمْ فَذُوقُواْ مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ)(التوبة 34 : 35)
إن الله جل وعلا نهى النبى محمدا عن الاعجاب بأموال المنافقين وأولادهم ، ونهاه أيضا عن الاعجاب بزينة الدنيا التى يبدو ان الكفرة يتمتعون بها، فقال له ربه: (وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِّنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى)( طه 131).
فالأول هو زهرة الحياة الدنيا ، تبدو زهرة يانعة جميلة ثم تذبل وتصير حطاما وزبالة ، وتلك الزهرة هى موضع الفتنة والاختبار ، وهى مهلكة المتصارعين على الرزق الوهمى ، أما الرزق الباقى والدائم والخالد فهو رزق الجنة لمن أراد الآخرة وسعى لها سعيها وهو مؤمن.
وفى كل الأحوال لا تنشغل بذلك المتاع الظاهرى والديكور المحيط بهم فهو زيف :(لاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِّنْهُمْ ) ( الحجر 88 )
ونهاه أن يغتر بتقلب الذين كفروا فى البلاد ، فهو متاع ظاهرى سطحى قليل يعقبه خلود فى النار :(لاَ يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُواْ فِي الْبِلادِ مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ ) ( آل عمران 196 : 197) ذلك ينطبق على وحوش الرأسماليين ومستبدى السلاطين وكل أصناف المفسدين.
ويقول الله جل وعلا .( مَا يُجَادِلُ فِي آيَاتِ اللَّهِ إِلاَّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَلا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلادِ ) ( غافر 4 )، وهذا ينطبق على مشاهير رجال الدين الذين يسعون فى آيات الله معاجزين .. وهؤلاء وأولئك يحتلون بمواكبهم ومهرجاناتهم الفضائيات وصفحات الأنباء ، ويتابعهم باعجاب وحسد ضعاف العقول يقولون: يا ليت لنا مثل ما أوتى فلان إنه ذو حظ عظيم .
هذا مع أن الشفاء فى حقائق القرآن الكريم.
5 / 5 : ودائما .. صدق الله العظيم ..