نعرف في بلادنا، وربما أيضاً في جميع البلاد متدهورة الثقافة هزيلة القدرات، أن الهزيمة يتيمة، وأن للنصر ألف أب وأب. . فالتهرب من الهزائم وتبعاتها، والجبن أو العجز عن مراجعة النفس، سعياً لتصحيح الأخطاء التي أدت لحدوث الهزيمة، هي من شيم الثقافات المتدنية المتحجرة، التي تعيش على العقائد المتكلسة، وعلى اليقين الأبدي الذي لا يتزحزح ولا يتغير، وبالتالي لا محل فيه لنقد ذاتي أو مراجعة. . هنا يكون التهرب من الهزائم، إما بإنكاار حدوثها، بل وأحيناً بادعاء الانتصار، كما عايشنا ردود أفعالنا على حرب السويس عام 1956، أو ما شاهدناه في حرب إسرائيل على حزب الله في لبنان، ثم ضربها لحماس في قطاع غزة، من ادعاءات بانتصارات ناصرية وإلهية، نهرب بها من مرارة الهزيمة والانكسار. . أو بتعليق الهزائم على أقرب شماعة نجدها، ولدينا لهذا الغرض عدد لا بأس به من الشماعات الجاهزة. . لدينا إسرائيل وأمريكا والغرب ومؤامراته الإمبريالية والصليبية، كما لدينا أيضاً شماعة "قضاء الله وقدره" أو "الاختبار والتجربة من قبل الرب". . تتنوع الشماعات والمنهج واحد، هو الهروب والتهرب من مواجهة الواقع، وتدارك مناحي الخطأ.
الوجه الآخر من ذات العملة الثقافية الرديئة، هو انتحال الانتصارات ونسبتها للذات، والتي قد تأخذ شكلاً كاريكاتيرياً، كذاك الذي يقول عنه المثل الشعبي: "قرعة بتتباهى بشعر بنت أختها"، فنجد وسائل إعلامنا مثلاً تطلق على القنبلة الذرية الباكستانية لقب "قنبلة إسلامية"، رغم خروج مسؤول باكستاني استشعر خطورة الأمر، ليقول "أن القنابل الذرية لا دين لها"!!. . وأحدث أمثلة اختطاف الانتصارات والتعلق بأذيالها، هو مثل انتصارات الفريق الوطني لكرة القدم في كأس الأمم
الأفريقية 2010:
كان أسرع المهرولين لاقتناص انتصارات الفريق، ومعها قلوب الجماهير المصرية العاشقة لكرة القدم، هم تيار التأسلم السياسي، الذي عمد إلى اختراق صفوف
فريق رياضي، يتنافس مع غيره من الفرق، عبر التفوق في بذل الجهد البدني، وامتلاك مهارات اللعبة وخططها، بمعزل بلاشك عن المعايير الإيمانية ونوعيتها، إن كانت إسلامية أم مسيحية أم هندوسية. . واعتمد هذا الاختراق للصف الرياضي على تجنيد بعد اللاعبين، سواء بمغريات مالية، أو عن طريق غسيل المخ، لإقناعهم بأن انتصار الفريق هو انتصار للإسلام، يقتضي رفع المصاحف عالياً، والسجود على الأرض شكراً لله، دون الوضع في الاعتبار بالطبع ما يفترض والحالة هذه أن يترتب على الهزيمة في حالة حدوثها. . خاصة وأن الهزيمة كما سبق وأن أوضحنا، خارج نطاق حساباتنا أو بحثنا، ويمكن بسهولة تعليقها على مشجب الحَكَم المتحيز، أو على سوء أرضية الملعب وارتفاع نسبة الرطوبة بالجو، بل ويمكن في أسوأ الأحوال إغلاق الموضوع تماماً، بقولنا "قدَّر الله وما شاء فعل"!!
يفاقم من رواج محاولة الاختطاف المتأسلم هذه للانتصارات الرياضية، توافقها مع هوى اللاعبين والجهاز الفني والإداري المسؤول عنهم. . ففي حالة الانتصار، لا مانع لديهم من نسبته "لسر الدعاء والسجدة"، لكن المهم أو بالأصح الأهم بالنسبة لهم، هو في حالة الهزائم، والتي عادة ما يطير فيها رأس المدير الفني، وغالباً ما تلحق بها باقى الرؤوس في طاقمة، وربما معها أيضاً رؤوس أعضاء اتحاد الكرة، علاوة بالطبع على إحالة عواجيز الفريق إلى اعتزال اللعبة. . فبقدر فرحة الجماهير بالانتصارات، بقدر نقمتها وغضبها العارم في حالة الهزيمة. . لكن إذا ما تم إقناع الجميع بأنهم ليسوا أمام مجرد لاعبين ومدربين وإداريين لفريق في كرة القدم، وإنما أمام أولياء لله، يكسبون بالدعاء والسجود، ويخسرون بقضاء الله وقدره، فإن الجماهير المصرية المؤمنة والتقية سوف تكون على الأقل أكثر تعاطفاً معهم ورحمة بهم، وربما أيضاً سترى أن من واجبها مضاعفة الدعاء لهم، لكي يتحقق لهم الانتصار في جولات قادمة بإذن الله، وهو ما تحقق بالفعل، بعد هزيمة مباراة أم درمان في تصفيات كأس العالم، التي يبدو أن الدعاء وقتها لم يكن على المستوى المطلوب، فكانت انتصارات أنجولا، بفضل رضى الله عن المدرب المؤمن، ومساعده الذي يرفع المصحف أمام الكاميرا بعد تسجيل الأهداف، وبفضل مذيعي المباريات في القنوات الفضائية، والذين يخلطون حار الدعاء بالوصف غير التفصيلي لمجريات اللعب!!
الطرف الثاني الذي يلهث وراء كرة القدم وقلوب عشاقها هو القيادات السياسية، التي كانت قبلاً تكتفي بالمسارعة بإرسال برقيات التهنئة للفريق، لينالها من حب الجماهير وفرحتها نصيب. . فالجماهير هنا ستجد القيادات تشاركها حماسها، وهذه بالطبع فرصة ذهبية ونادرة، في ضوء حالة شعور جماعي بالانفصال التام بين القيادة السياسية، وبين الجماهير وهمومها وحياتها. . لكن ومع تواتر الحديث عن الانتخابات الرئاسية القادمة، والرفض الجماهيري والنخبوي للتوريث شكلاً ومضمومناً، صارت كرة القدم باباً ملوكياً، للتسلل لعقول وقلوب الدهماء، فكان الزج بالورثة للانخراط في صفوف الجماهير، لتأخذ التمثيلية شكلها الدرامي، بداية من مهزلة مباراة الجزائر في أم درمان.
التمثيلية هنا كلها مكاسب، بالنسبة لهذا الطرف السياسي اللاعب على وتر عشق الجماهير، بعكس طرف التأسلم، الذي تنحصر مكاسبه، لتكون في حالة تحقيق الانتصار، وتنحسر أو تتوقف في حالة هزيمة "فريق الساجدين". . أما دخول الورثة بين الجماهير، ليسعدوا بالنصر مع السعداء، ويحزنوا على الهزيمة مع الحزانى، فهذا بالنسبة لهم غاية المراد، وأبلغ دليل على هذا، أن ما حدث بالفعل، هو أنه بدلاً من الاعتراض على وجود وريث واحد لجمهورية مصر المسماة عربية، أن علت الأصوات بعد مباراة أم درمان، مطالبة بتقدم الوريث الثاني، الذي أبدى حماساً أكبر، وكانت أحاديثه لبرامج التوك شو، أكثر اندفاعاً وتلقائية!!
هذه هي مصرنا العشوائية، التي اختلطت فيها كل الأوراق. . مصرنا التي صارت فيها الجماهير الساذجة، "كالكرام على مأدبة اللئام"، يتخاطفها المتلاعبون بالسياسة والدين. . يدغدغون مشاعرها تارة باسم الوطنية، وأخرى باسم القومية، وثالثة باسم الدين!!
ترى، هل يأتي يوم فيه نستفيق؟!
هل نريد بالفعل أن نستفيق؟!
أم أننا هكذا سعداء في غيبوبتنا اللذيذة والمقدسة؟