البرادعي والثورة الخضراء (1/2)
كمال غبريال
في
الخميس ٠٤ - فبراير - ٢٠١٠ ١٢:٠٠ صباحاً
إنتهينا من خلال استعراضنا للحراك السياسي المصري الذي تولد نتيجة استدعاء الجماهير المصرية د. محمد البرادعي لدخول الحلبة السياسية المصرية مرشحاً لرئاسة الجمهورية في 2011، ورده الإيجابي واستعداده للعمل مع الجماهير لتغيير الحالة السياسية والاجتماعية والثقافية المصرية، إلى أن المطلوب منه ومنَّا لمصر، أكبر من مسألة ترشيحه أو حتى وصوله إلى كرسي رئاسة الجمهورية. . وسنحاول في هذه السطور تلمس معالم الطريق الممتد أمامنا حتى الوصول إلى غايتنا. . ربما يصلح &atililde;ا سوف نتوصل إليه لأن يكون مؤشرات أو خطوطاً عريضة قابلة للنقاش والتطوير. . فما دام العمل والمهمة المطلوبة مهمة جماعية، فلابد أن يكون التخطيط لها أيضاً جماعياً ما أمكن ذلك، فلا أحد فينا يمتلك الحكمة المطلقة التي لا حكمة قبلها ولا بعدها، كما أن تعقد المطلوب وتعدد مجالاته، لا يتيح لشخص واحد مهما كان علمه أن يلم بكافة عناصره، فالمسيرة المرتجاة ينبغي أن تكون مسيرة علمية، وليست هَبَّة حماسية توجهها الشعارات الديماجوجية البراقة، على النمط الذي عرفناه في المرحلة الناصرية مثلاً، أو تلك الشعارات التي تتلاعب بالمشاعر الدينية للبسطاء، دون أن تقدم لهم حلولاً أو أساليب عملية لحل مشكلاتهم. . فخير ما تبدأ به مسيرة جماعية، هي دعوتها للنقاش المجتمعي، على أن نراعي بقدر الإمكان أن يتخذ الحوار صيغة حوار حقيقي، يقبل الأخذ والرد والتفاعل، ولا يتصادم أو يتطاحن، أو حتى يسير على نهج "مقارعة الحجة بالحجة"، ذلك الذي اعتدنا أن نوصى به بعضنا البعض في أغلب الأحوال، لنخرج في النهاية ونحن جرحى وصرعى المقارعة، دون جدل حقيقي بناء. . فالاختلاف ثروة لمن ينجحون في استغلالها، ونقمة على المجتمع الذي يفشل في إقامة جدل مبدع وخلاق، بين مختلف مكوناته باختلاف رؤاهم وتوجهاتهم.
يحتاج الأمر لبدء المسيرة، التحديد الدقيق والحاسم لتوجهاتها وأهدافها، وهي ما يجب أن يتم على أساسه الحوار بين مختلف فصائل المجتمع. . وليس من قبيل محاولة فرض رؤية فرد أو فريق واحد من أبناء هذه الوطن، أن نحدد خطوطاً عريضة يتحتم أن تكون محل إجماع، وأن يقتصر النقاش على الأساليب والخطط العملية لتحقيقها، هذا إن أردنا أن نلتحق بمسيرة الحضارة العالمية التي فاتنا منها الكثير، وأن يكون انطلاقنا من قاعدة ثابتة، وليست ضياعاً في ضباب لا يفضي إلا إلى الفوضى. . فربما كان المصريون متفقين على ما يرفضون، وهو الحالة الحالية الراكدة والمتردية، لكنهم إما لا يعرفون ماذا يريدون تحديداً، وإما مختلفون ومتباينو المواقف، بدرجة تجعل منهم شراذم متباعدة متنافرة، أكثر منهم شعباً يتطلع لمستقبل أفضل. . وفيما يلي بعض الخطوط العامة، التي تعطي صورة عن المستقبل، الذي يليق بشعب بنَّاء ومُحِب للحياة، هو صاحب أقدم حضارة في تاريخ البشرية:
• مصر أولاً وأخيراً: يعني هذا أن تتركز جهودنا داخلياً على الارتقاء الاقتصادي والاجتماعي والثقافي بمصر وشعبها، كما يعني أن علاقاتنا الخارجية بالعالم من حولنا، ينبغي أيضاً أن تكون موجهة لخدمة مصر الداخل. . فالاهتمام بأي قضية مفارقة لمصالح الشعب المصري الحقيقية، والدخول في علاقات وارتباطات على أسس غير مصلحية، انسياقاً لأيديولوجيا عنصرية، علمانية كانت أو دينية، بما قد ينعكس سلباً على هذه المصالح، إن لم يُعَد خيانة للوطن، فهو خيانة وتفريط في هدفنا المشترك.
• ينتمي المصريون إلى مصر الوطن كدائرة أولى، وإلى القبيلة البشرية كدائرة نهائية، وأي انتماءات جزئية لأفراد أو جماعات بين هذه وتلك، لا ينبغي أن تؤثر بالسلب أو تعلو على هذين الانتماءين الأساسيين، وعلى ما يفرضانه على الفرد والمجموع من التزامات وحقوق، وإن كان هذا لا يمنع بل يدفع إلى التلاقي الإيجابي والبناء بين سائر البشر، داخل دوائر انتماءات إنسانية، تسعى لدفع مسيرة الحضارة إلى الأمام.
• الانفتاح على العالم أجمع، وبناء شبكة علاقات مصرية تقوم على المصالح المشتركة، بمنأى عن مفاهيم العداء الأبدي ونظرية المؤامرة وما شابه من جدران عازلة، نقيمها بيننا وبين مراكز الحضارة العالمية، والمساهمة الفعالة في المجهودات العالمية لمكافحة الإرهاب، والسعي لالتزام جميع الشعوب بمعايير حقوق الإنسان وفق المواثيق العالمية، التي يجب أن تلتزم بها مصر كاملة، دون تحفظات أو استثناءات.
• السلام في منطقتنا حيوي لتقدم ورخاء جميع شعوب الشرق الأوسط، والسعي الجاد والمستقيم لتحقيقه هدف وطني جوهري، لا ينبغي أن تعترضه ميول أيدولوجية أو دوجماطيقية تجعل تحقيق هذا السلام مستحيلاً عملياً، بما تضعه من شروط، أو تروجه من عداوات أبدية بين شعوب المنطقة.
• مصالح الشعب المصري الحياتية والمادية هي المرجعية الوحيدة، التي تقاس عليها نتائج كل سياسة وتوجه عملي، والعلم هو الوسيلة الوحيدة للوصول إلى تحقيقها، ولتأسيس مختلف أنواع العلاقات السياسية والاجتماعية والاقتصادية.
• النظام الاقتصادي المصري لا يمكن أن يكون متفرداً أو منعزلاً عن النظام الاقتصادي العالمي في مرحلته الراهنة، والتي تتشابك وتترابط فيها مصالح جميع الشعوب، على أساس حرية التجارة وحركة رؤوس الأموال وانتقال الأفراد والسلع، وتوفيق الاقتصاد المصري مع هذا النظام مهمة وطنية حيوية لتحقيق التقدم والرخاء الذي يتطلع إليه شعبنا.
• المساواة التامة -الشاملة لجميع مجالات الحياة- بين جميع المصريين قضية مقدسة، لا تقبل استثناءات بناء على الجنس أو الدين أو أي تصنيف يفرق بين مصري وآخر. . والمساس بهذه المساواة خط أحمر لا يجوز تجاوزه، كما أنه ليس محلاً للنقاش أو الجدل. . وتفعيل هذه المساواة دستورياً وقانونياً واجتماعياً مهمة عاجلة، ولها الأولوية في الخطوات التنفيذية في المسيرة القادمة، لتوفير البيئة الكفيلة بالاستغلال الأمثل للطاقات البناءة لجميع أبناء هذا الوطن.
نرى أن عجز المسيرة عن الالتزام الجاد والواضح الصريح بالخطوط العريضة السابقة، واللجوء إلى ما يعرف بالموائمات والمواقف التلفيقية، يجهضها وهي مازالت جنيناً. . فالنظام الحالي يعمل بالفعل على التقدم بالبلاد، لكنه يعجز عن تحقيق نوعية ومعدل التقدم المطلوب، لأنه غير راغب أو قادر على حسم التوجه الجاد باتجاه هذه الخطوط، وإن كان لا يكف عن ترديد شعارات مستمدة من أغلبها، وترك الأمور مائعة وراكدة، ليكون مسيرنا نحو التطور كمن يخوض في أوحال، تسمح له بالتقدم خطوات، لينزلق في أخرى. . كما ورد في مقالنا السابق "سنوات اللاحسم".
يتبقى لنا أن نبحث الخطوات العملية المطلوبة من المسيرة المنتظرة، وهي المرتبطة بتصرفات وردود أفعال جهات أخرى، أولها النظام الحاكم، ثم الصفوة من سياسيين وعلماء ومفكرين وكتاب وإعلاميين ونشطاء في المجتمع، وأخيراً الجماهير المتوقع إسهامها في الحركة، سواء معها أم ضدها. . بالتالي فإن علينا تخيل عدة سيناريوهات محتملة، والاستعداد للتصرف الأمثل في حالة حدوث كل منها. . هذا ما سوف نناقشه في الجزء الثاني من هذا المقال.
مصر- الإسكندرية