أوسلو في 26 يناير 2010
أيها القادة والضباط والجنود في جيش مصر العظيم،
الجيشُ هو ذلك الخط الأحمر الذي لا يقترب منه قلمٌ، ولا يعاتبه معارضٌ، ولا ينتقده كبيرٌ، ولا يلومه مسؤولٌ، ولا تخدش وطنيّته كلمة في أيّ مقال أو تحقيق!
الجيشُ كالقضاءِ، وما عليك إلا أنْ تلتزم باكليشيه الوطنيةِ غير القابل للحوار أو الجدال أو النقاش، فتقول : جيش مصر البطل، وقضاء مصر النزيه، ولو رقصتْ أمام عينيك عشراتُ الشواهد التي تناقض المعاني الصريحة والضمنية في أوصافِ المؤسستين العسكرية و .. القضائية.
القضاءُ المصري يخضع للرئيس الفعلي والعملي لكل قاض ومستشار ومحكمة وحاجب وروب ودستور وقانون ومادة، وعندما يقول الرئيس بأنه لا يتدخل في أحكام القضاءِ فهو كاذب، كما كان دائما، أو منذ اليوم الأول الذي زعم أنه لن يجدد لولاية ثانية، فإذا هو يستعد للسادسة.
ومذبحة القضاء ليست حالة معينة، ومحددة بزمن ومكان وأشخاص، لكنها استمرارية لخضوع الكلمة المقدسة التي تنطلق في القاعة من حنجرة حاجب : محكمة! لأوامر وتوجيهات ورغبات الرئيس حتى لو كانت الحُكم على الدكتور أيمن نور، والدكتور سعد الدين إبراهيم، والدكتور مجدي أحمد حسين، والمدونين المصريين الذين يفضحون بكاميرات موبايلاتهم تجاوزات رجال الأمن وهم يغتصبون كرامة المواطنين، وينتهكون أعراضهم.
والقضاءُ المصري للفقراء والمساكين والمعاقين ومن ليس له ظهرٌ في السلطةِ يحمي ظهْرَه في فساد ظهَرَ في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس، أما الكبار فيرسلون محاميهم ليبتسموا في وجه قاض تعلو هامَته آية قرآنية كريمة لو نزلت على جبل لرأيته خاشعا متصدعا من خشية الله.
وعليك أنْ لا تقترب من هذا الخط الأحمر، وأنْ تكرر ما يردده الناسُ من حلايب، والنوبة، مرورا بنجح حمادي، وليس انتهاءً بمحكمةِ المنشية بالثغر، أنْ القضاءَ المصري عادل ونزيه، حتى لو تاهت بين إداراته ملايين القضايا التي لم يَبُتّ فيها العدل البطيء، وبقىَّ الوضعُ على ما هو عليه!
جيشُ العبور خط أحمر أصدر قائدُ الضربة الجوية الأولى فرماناً مباركياً يحرم على المصريين حتى مجرد التساؤل عن الوضع الصحي والنفسي والمادي والعسكري والوطني لمؤسسة عسكرية انكفأت على نفسها، وحبسها ماردٌ من ورق في ثكنات لا تدخلها ذبابة إلا ويكون تقرير عنها على مكتب الرئيس، ولا تحرك أوتادَها نسمة صيفية قبل أنْ تستأذن الطاغية، وتؤكد له أنَّ جنرالاته لا يزالون نائمين، وأنَّ أحلامَهم في ردّ كرامة الوطن ستظل أضغاثاً ما أنفك الشعبُ يعتبر اللامبالاة هي التفسيرَ الوحيدَ لطاعةِ الله و .. الضمير.
أيها القادة والضباط والجنود في جيش مصر العظيم،
مشتاقون لكم، ولعزتكم، ولمهابتكم، ولمارشات عسكرية لو تناهى صداها لجدار من فولاذ يشطر مصرَ وفلسطين لسقط من فوره دون أنْ يتصدّع، أو ينشرخ!
مشتاقون لقدَامىَ المحاربين الذين شربوا مياه النيلِ قبل أنْ تتلوّث، ومشوا على أرضِها الطاهرة قبل تتدنس، وتنفسوا هواءَها قبل أن يصبح سموماً تحوّل رئَتيّ المصري إلى لونٍ أسود كظلمات الليل البهيم!
ماذا حدث لكم؟
لو قام مبارك بتكبيلكم في سلاسل غليظةٍ كأنها أصفادٌ من شواظ حممية ، وشاهدتم مصرَكم، وأهلكم، ونساءَكم، وأولادكم، وخيرات وطنكم، واستعنتم بذرات لا متناهية في الصغر من كرامتكم العسكرية والميدانية والوطنية، لما انبلج فجرُ يوم جديدٍ قبل أنْ تسحبوا مبارك وأسرته وزبانيته ولصوصَه ومجرميه من رقابهم إلى محكمة الشعب لتسمع مصرُ الحُرّة بيانكم رقم واحد، وتحذيركم لكل من تسوّل له نفسُه المساسَ بحُبّكم الكبير، فجيشُ مصر لم تغادره روح أكتوبر، وأنَّ قطعة خردة في ثكنة عسكرية أثقل، وأغلىَ من حديدِ عزّ ، فعزّة الوطن في يونيفورم مَهيب يحمي الشعبَ قبل القصر، والمواطنَ قبل الرئيس، والأرضَ قبل الحدود، واستقلالية القرار دون الرجوع للشين بيت أو البيت الأبيض!
أرى وزيرَ الدفاع وقد انحنت قامته، وتقوّص ظهره، وتناثرت على وجهه بقعُ الخمول والمسّكنة، فالرئيسُ لا يتركه لجنوده قبل أن يُرهقه صَعُوداً في يوم طويل من اللقاءات، والحفلات الغنائية، والاستقبالات الروتينية خشية أن يلتحم بكم، ويبث في نفوسكم روحَ التمرد والقتال، تماما كما يفعل الطاغية مع رئيس جهاز المخابرات، فيجعله يمُرّ على سبعين جهاز إسرائيلي، ومراقبة، واجتماعات، ووساطات، فينزع من قلبه روح رأفت الهجان، ومن عقله التفرّدَ الذكي والوطني للعقلية الاستخباراتية المصرية.
ماذا بقي من كرامتكم؟
ثلاثون عاماً وأنتم تجلسون في الصفوف الأولى من مسرح هزيل، وهزلي. تشاهدون أمَّ الدنيا وقد شاختْ، وهَرمَتْ، وتجعدَتْ، واصفرّ لونها فلا يدري المرءُ أهي سكرات الموت أمْ ترنحات البلادة، وكل الدلائل والشواهد والقرائن التي يُمهرها الطاغية بتوقيعه تصُمّ الآذانَ بصراخها أنَّ جيشنا عاطل عن العمل، وأن مساحة كرامته يحددها سيد القصر، وأن اليونيفورم لم يعد رمزا للنبل والفروسية، إنما هو إشارة إلى أمر باعتقال جيش مصر العظيم، فلا يتنفس أفرادُه، ولا تنطلق رصاصة تدريبٍ في عُمق الصحراء، ولا ينفكّ رباطُ حذاءٍ قبل أنْ يسمح الطاغية، ويستعد رجاله للقضاءِ علىَ أيّ إنقلاب عسكري ولو كان في ثنايا كلمةِ مزاح بين ثلاثة جنرلات، يخشى اثنان منهم الثالث!
أحبابنا .. قادة جيشنا العظيم،
سنوات ونحن نبحث عنكم، وننتظر ردودَ أفعالكم، وتستصرخكم نساؤكم، وتدعوكم ألسنة من وراء القضبان، وتحلم بفروستِكم النبيلة ندءاتُ كل المظلومين الذين سمَّمَهم عهدُ مبارك الأغبر، وسلط عليهم رجاله كلَّ الأمراض الوبائية، وتهتكت أكبادُهم من مزروعات رجال الرئيس وابنه، وأصبح لكل مواطن مكان في سقف مكتب ضابط شرطة يُعَلقه كأنه شاة مذبوحة، أو مطواة قرن غزال تلمس جسده النحيل في ميكروباص بعدما سلط الطاغية البلطجية لتخويف أهلكم، أو غرفة في مستشفى يسرقون بعض أعضاء جسده الملقى أمامهم، أو مكان يحترق أو يغرق فيه، أو زنزانة تحت الأرض يُعَلّمه فيها مبارك آدابَ الطاعة كما علمكم أنتم ورجال الأمن وأجهزة المخابرات والقضاة والمحامين وأساتذة الجامعات والإعلاميين والفنانين والأدباء والأطباء والطلاب والعمال والعاطلين عن العمل.
سنوات ونحن ننتظر البيان رقم واحد، ونلهث خلف أمنيات لم تبلغ الحُلمَ بَعْدُ بأنْ تصحو فجأة روحُ العبور، وتتقدموا بصدور تعلوها عزة، وتنتفخ شجاعة، وتنتصروا لحق أثبتت سنوات حُكم مبارك أن شعبكم الأعزل غير قادر على أن يُحرك حجرا صغيرا في قصر العروبة، أو كتلة رمال أمام مقر الديكتاتور في شرم الشيخ.
نساؤكم، وأولادكم، وأحبابكم، وأصدقاؤكم، وجيرانكم، وأهل بلدكم لم يعودوا قادرين على النظر في عيون ضابط صغير في قلم المرور، أو أمين شرطة يلقي بالهوية الشخصية على الأرض، أو بلطجي ينزع باب شقة آمنة تقيم فيها امرأة عجوز لا تتمنى أكثر من موت فيه كرامة، ودفن هاديء تودّع فيها سطحَ الأرض، وتنضم لسكانٍ تحتها لم يعودوا في متناول أيدي رجال سفاح مصر الكبير.
أيها القادة والضباط والجنود في جيش مصر العظيم،
ترتعد أجساد المصريين خوفاً ورعباً إذا تبادرت إلى الذهن فكرة قدوم أحذية العسكر للقصر الجمهوري مرة أخرى، وأكثرهم يفضلون الموتَ بسموم مبارك عن عهد عسكري جديد يحمل معه هزائمَ، وطواغيت صغاراًً، ونياشين بدلا من الأقلام، ومهمَتكم الآن اقناعُ أبناءِ شعبكم أنكم منهم، وأنْ ليس كلُّ عسكري توأماً لطاغية القصر، وأنَّ منكم رجالا صَدَقوا ما عاهدوا اللهَ عليه، وأنكم ستعيدون لمصر كرامتها، وللمجتمع المدني قوته، وحقه في عهد جديد ومتسامح!
إنه التحدي الأكبر في تاريخ أرض الكنانة، فالرجل في خمس ولايات قام بتغيير خريطة المشهد النفسي المصري، وحفر في العمق، وثبَّتَ فيها سلوكيات ما كنا نعرفها إلا بين تجار المخدرات، وعصابات السطو والسرقة والقتل.
إنه التحدي الأكبر حيث تم نهبُ دولة على مسامعكم جميعا، والتفريط في استقلالها، وبيعُ بترولها وغازها لعدوكم، ثم إعادة شرائه بضِعْف ثمنه لكي يهدر ما بقي من فتات ميزانية بلدكم!
لا تقولوا لنا أنكم لا تعرفون تفاصيل جحيم المصريين تحت حكم مبارك، ولن يصدقكم طفل أبكم صغير لو قلتم بأنه لا حول لكم ولا قوة، أو أنكم أصفار لا يساوي مجموعها شيئا في عيني الرئيس وابنه، أو أنكم بآلاف الجنرالات لا تستطيعون تخويف بعوضة، ولا يملك أي منكم رؤية عن كيفية القضاء على الطاغية، وتكوين خلايا من ضباط أحرار تتعلق ضمائرهم بالسماء، وقوتهم بعقولهم العسكرية الاستراتيجية الذكية التي لو اجتمع منكم عشرة أو عشرون لغيروا وجه الحياة في مصر بعد اقصاء مبارك وأسرته.
لن نصدقكم كما فعلنا من قبل وأكثر من ثلاثين شهيدا من زملائكم يسقطون بطائرة فوق نيويورك، بعد أن وافق قائد الطيران السابق، ورائد الضربة الجوية الأولى، أن يحشرهم، خلافا لألف باء العسكرية، ونصمت، ثم نصك وجوهنا حزنا عليهم و .. علينا!
ولن نصدقكم إذا قلتم بأنكم لا تعرفون ما يدور على حدود مصر، فالطيران الإسرائيلي اخترق مجالكم عدة مرات ليكون الفلسطينيون في مرماه!
لقد أصبحنا على مرمى حجر من فقدان الثقة بكم، فالطاغية في سبيل الاحتفاظ بالعرش قادر على رهنكم لاسرائيل، وبيع استقلالكم لواشنطون، ونزع كل قوة، مهما صغرت، من سلاحكم، وتكاتفكم، ومشاعر وطنيتكم التي اختفت ردحا طويلا من الزمن.
أيها القادة والضباط والجنود في جيش مصر العظيم،
هل صحيح أنكم خذلتم أهلكم وأطفالكم وأجيالا في المستقبل ستدرس في التاريخ أنَّ جيش العبور انكمَش، وتكوّر، واختبأ في ثكنات عسكرية ، ورفض إنقاذ الضعفاء والمساكين، وأصبح دُمْيَة في أيدي مبارك والطغاة الصغار الذين يحيطون به؟
هل صحيح أنكم فقدتم الاستقلالية، ولم يعد مئات الجنرالات منكم قادرين على اختلاس نظرة واحدة على سيد القصر، وأنكم ترتعون في امتيازات مادية ثمنا لسكوتكم على نهب مصر، وتدمير الوطن؟
اعطونا إشارة واحدة، رحمكم الله، تؤكد أنكم لا زلتم أحياء تتنفسون، وأنكم غير راضين عن تفاصيل الجحيم المصري، وأنكم تنتظرون الوقتَ المناسبَ لاعادة مصر إلى شعبها؟
أنتم خط أحمر، كما يقول الذين يخادعون أنفسَهم، فماذا عن أفرادِ الشعب، وخيراته، ونيله، وحدوده، وبتروله، وغازه، وسلاحه، وأرضه التي بسط عليها رجال ابن الرئيس هيمنة وسطوة وامتلاكاً؟
الشعب هو الخط الأحمر الذي يوازي الجيش، فنحن أهلكم، ومن لا يحمي عِرْضَ أهله وشرفهم وأموالهم وممتلكاتهم وكرامَتهم فلا حاجة به للوطن!
توريثكم لم يعد بينه وبين الاعلان عنه رسميا إلا خطوات معدودة، ومحسوبة، وستنتقلون بكل ثقلكم، وتاريخكم المشرّف، وعقولكم الجبارة، والمدارس العسكرية والأكاديميات والخطط والاستراتيجيات ومصانع الأسلحة وأسرار الدولة العسكرية ، إلى ابن الطاغية، تماماً كملكية خاصة في عقد توريث يفعل بها الوريث ما يشاء، حتى لو باعها لأمريكا وإسرائيل!
نحصي الشهورَ، والأيامَ، والدقائق لعلَّ ساعة الصفر تعلنها ساعة جامعة القاهرة وماسبيرو في وقت واحد، وتُبْعَث مصرُ العظيمة من جديد في بيان قوي، ووطني، وشجيّ، ومؤثر عبر الأثير بأن العملاقَ المصري استيقظ، وأنَّ القوات المسلحة تطارد اللصوصَ والنهّابين والهبّارين والجواسيسَ الذين التصقوا بالعهد الأسود لحُكم أسرة مبارك، فيُعيد التاريخ نفسَه .. تشاوشيسكو، سوموزا، هيلاسيلاسي، منجستو هيلامريم، أنور خوجة، جان بيدل بوكاسا، بول بوت، عيدي أمين دادا، تشومبي، هتلر، .....
العد التنازلي في اتجاهين متضادين: إما اهانتكم، ونقلكم من رقابكم إلى الوريث الشاب الذي سيجعلكم تلعنون يومَ صَمْتكم، ويوم سقطت نياشينُ البطولة من فوق أكتافكم، وإما اشتعالُ نار الغضب والكرامة وعشق مصر والخوف من الله، تعالى، وخشية أنْ تلعن السكوتَ أجيالٌ قادمة لن يستطيع أحدٌّ أنْ يشرح لها أسبابَ التخاذل!
العدّ التنازلي يُسْرع مع دقات قلوب ظنها الكثيرون ماتت، أو يُبطيء مع نبضات في غرفة الإنعاش، ولا نعرف حتى هذه اللحظة أين أنتم: مع الله، أم مع الشيطان؟
ظن البلهاءُ أنَّ الصحافة خط أحمر، وهي صاحبة الجلالة السلطة الرابعة، فنكتشف أن مداد أقلامها في محبرة على مكتب مدير الأمن!
واعتقد الساذجون أن الخط الأحمر في الأزهر والكنيسة، فإذا بالإمام الأكبر وقداسة البابا يستعدان لتوجيه التحية لوارث مصر وأصدقائه ومصارفه وحيتان البترول والحديد والأراضي!
وتوهم المغيَّبون أنَّ القضاءَ المصري خط أحمر، فإذا بصيحةِ الحاجب يسمع صداها القصرُ، فيأمر، وينهي، ويعتقل، ويسجن، ويعذب، وتعاد إلى يدي البريءِ كلابشاتٌ مفتاحُها في جيبِ حبيب العادلي، وكلمة السر مع سيد القصر.
هل صحيح، أيها القادة والضباط والجنود في جيش مصر العظيم، أنكم خط أحمر لا يمسه إلا المطهرون؟
في صباح، وظهر، وعصر، ومساء كل يوم يعبث الروموت كونترول في القنوات الفضائية، ويمر على المصرية سريعا خشية أن تصطدم عيناي بمومياءات متخلفة ومحنطة، لكنني أتوقف لبرهة من الوقت أملا في أن أسمع الكلمة الأولى من البيان رقم واحد!
يا أبطال العبور، الذين نفخ الله في أرواحهم فأحيا روحَ أكتوبر المجيد، بحثت عنكم، كما أعيا البحثُ ثمانين مليونا من أهلكم، لكنكم لم تظهروا بعد، فهل حدث لكم مكروه، لا قدر الله؟
أحبابنا .. جنرالات وقادة وضباط وجنود مصر،
هل مازلتم أحياء؟
محمد عبد المجيد
رئيس تحرير مجلة طائر الشمال
أوسلو النرويج
Taeralshmal@gmail.com