إن موضوع الجاذبية هو أحد أكثر المواضيع إثارة في أوساط الفيزيائيين. السبب في ذلك هو وجود الكثير من التفسيرات المختلفة و لكنها تبدو أنها تتقاطع حول تفسير حصول الجاذبية. إن المشكلة هي أن تلك التفسيرات لا تعرض لنفس الموضوع من عدة وجهات متكاملة و لكنها تنظر للموضوع من وجهات نظر مختلفة تماماً ـ لهذا دائما ما تكون مواضيع الجاذبية مثار جدل ما بين العلماء. سنسطحبكم في هذا المقال في رحلة حول ماهية الجاذبية – أو بالأحرى كيف نظر العلماء للجاذبية – لأننا نؤمن أنه "لا يعلم من في السماوات والأرض الغيب إلا الله!" فكل ما يقول به العلماء حول الجاذبية إنما هو مبنيّ على افتراضاتهم و ظنونهم مما شاهدوه و تمكنوا من قياسه.
- ما قبل نيوتن:
لقد كرر معظم العلماء المسلمين الذين ترجموا عن الأغريق ما فهمه أسلافهم حول الجاذبية و حول طبيعة الأشياء في هذا الكون.. فعندهم الأجسام تتحرك الى مستقرها. الحجر يسقط أرضا نحو الأسفل لأن ذلك المكان هو مستقر و منتهى حركته و هو المكان المفضل له. أساس هذه الفكرة هي من نظرة أرسطو ( أرسطوطاليس حوالي 300 سنة ما قبل المسيح) لهذا الكون (و التي ورثها عن من سبقه) فحسب ما يعتقده أرسطو فإن كل ما في الكون يتكون من خمس عناصر مختلفة هي النار و الماء و التراب و الهواء و الأثير .. و حسب نظرته فإنه يمكن تفسير كل ما يحدث في هذا الكون عن طريق التفاعل ما بين تلك العناصر ...الفرق ما بين الهواء و الأثير هو أن الهواء تسبح فيه الكائنات الدنيا (المخلوقات) في حين تسبح في الأثير الكائنات العليا ( الألهة) و الأجرام السماوية.. . و قد أخذ العلماء المسلمون من هذه العناصر الخمسة أربعة ً فقط تاركين الأثير لأن المسلمين لا يعتقدون بوجود آلهة تحتاج الى "أثير" لتسبح فيه. و فيزياء أرسطو تنبني على عدة مباديء وضعها من عنده و بناءا على ما قال به أسلافه ، فعند أرسطو الأشياء لها أماكنها المفضلة ، أو اماكنها الطبيعية: فالحجر عندما يسقط فإن سبب ذلك السقوط أن المكان الأرضي الأسفل هو المكان "المفضل" للحجر ، و عندما يطفو الخشب في الماء فالسبب أن المكان المفضل للخشب هو الهواء فوق سطح الماء! أما لماذا يفضل الحجر قعر الماء في حين يفضل الخشب سطح الماء؟ فإن السبب هو أن الخشب يحتوي مادة "النار" بدليل أن الخشب يحترق!! فإذن فالخشب فيه نار! و بين النار و الماء عداء مستحكم! لهذا نجد أن الخشب يحاول دائما الخروج من الماء الى الهواء ، و بين النار و الهواء علاقة متينة... أما الحجر فإنه من تراب ، و التراب موجود في قعر البحيرة او الماء، لذا يفضل الحجر أن يرجع و يلتصق بأصله و هو التراب أسفل البحيرة.... و بنفس الطريقة يفسر لنا أرسطو لماذا ترتفع ألسنة اللهب الى أعلى ، فهناك علاقة أليفة ما بين النار و الهواء ، فلذلك تصعد النار دائما نحو الهواء ، الذي بدوره يصعد الى أعلى نحو الأثير.
تفسيرات أرسطو هذه راقت لمعظم الناس وقتها و سيطرت على عقولهم لأكثر من 1500 من السنين.. و لكن في النهاية بدأ بعض علماء المسلمين يشككون في صحة أقاويل أرسطو هذه.. و بدأوا ينظرون الى السماء بقرب أكثر و عارضوا ما جاء به أرسطو .. فقام البيروني (حوالي 1000 سنة بعد وفاة المسيح) بنقد ما قاله أرسطو حول الجذب... فأرسطو قال أن الأجرام السماوية (القمر و النجوم) تفضل البقاء عالياً و لا تحب السقوط لأنها تحتوي مادة الأثير التي تعطيها القدرة على الطفو و العلو.. فجاء البيروني و كذب هذا الكلام قائلاً : إن كل جسم ينجذب نحو مركز الجسم الآخر لأنهما الأثنان يمتلكان خاصية الجذب و ليس الأثير... فالبيروني أول من تكلّم عن وجود "خاصية" للجذب. و قال أيضا لو لم تمتلك الاجرام السماوية (كالقمر و الشمس) تلك الخاصية لأنجذبت الى مركز الأرض لأن الأرض تمتلك تلك الخاصية، و لكنها تبقى سابحة في الأعلى لأنها ممسوكة و محفوظة و مجذوبة بتدخل من الله. بالطبع البيروني يشير ضمنيا الى قوله تعالى (ان الله يمسك السماوات والارض ان تزولا ولئن زالتا ان امسكهما من احد من بعده انه كان حليما غفورا) من فاطر. فسبب تعلق تلك الأجرام في اماكنها ليس لأنها "تفضل وتحب" ذلك المكان ، و لكن لأنها هناك "شيئاً ما" يمسكها ، و هذا الشيء هو قدرتها على اجتذاب بعضها البعض، فلو لم تمتلك تلك الأجسام ذلك الشيء لسقطت نحو مركز الأرض .. على كل حال سوف نعود الى تلك الأية و غيرها حالما نفرغ من سرد النظريات البشرية حول الجاذبية.
و البيروني هو أول من تحدث عن "سقوط جسم نحو مركز جسم آخر" في وصفه لعلمية الجذب.، في حين كان حديث مدرسة أرسطو حول "تفضيل الأجسام للتواجد في أماكن معينة ".... و لعل البيروني في حديثه ذلك كان متأثراً بقوله تعالى (و يمسك السماء ان تقع على الأرض إلا بإذنه) من سورة الحج. و يستمر العلماء المسلمون في نقدهم و تحطيمهم لأصنام أرسطو التي سادت على عقول الناس لأكثر من خمسة عشر قرنا من الزمن. فيذهب البيروني أبعد فيقول إن سبب تجاذب الأجسام السماوية فيما بينها عائد الى طبيعة الحركة التي تتحركها. لتبسيط ذلك ، لو أمسكت حجرا ثقيلاً فإنك تشعر أنه يحاول السقوط للأسفل ، لكن لو قمت بتحريكه في يدك ، أي امسكه و حاول أن تدور به مثلا ، فإن الحجر يبدو أنه يحاول القفز للجانب ـ و يخف احساسك بثقله للأسفل.. مما يدل أن حركة الأجسام غير المنتظمة هي المسبب في اندفاع الأجسام الى الأماكن التي تحتلها.. كلام البيروني هذا فيه إشارة صريحة لقوانين نيوتن التي جاءت بعد عدة مئات من السنين. و أحد معاصري البيروني – و هو ابن الهيثم – أيضا أخذ كلام البيروني و بنى عليه متحدثا عن وجود "تسارع" أو تغيير في السرعة/الحركة كنتيجة للتجاذب. قائلا ً إن الجذب يتسبب دوما بتغيير سرعة الجسم المجذوب. و يستمر العلماء المسلمون فيأتي الخازن (1120 م) فيقول إن مقدار الجذب يعتمد على بعد الجسم المجذوب عن الجسم الجاذب. و يأتي البغدادي (1160م) فينسف أحد دعامات قوانين أرسطو التي تقول أن القوة شيء ضروري من أجل الحصول على حركة ثابتة ، فيقول بالعكس ، يقول البغدادي بناء على تجاربه (سابقا نيوتن بأكثر من 500 سنة) إن القوة تنتج تغييراُ في حركة الجسم، بالتحديد إن القوة تنتج تسارعاً للجسم (تغيير في سرعته) .هذه المقولة تعتبر أحدى دعائم الفيزياء التقليدية و التي وطدها نيوتن لاحقا... و قد أخذها "غاليليو" (حوالي 1640م) بعد حوالي 500 عام من وفاة البغدادي فصاغها على الشكل التالى: الحركة في خط مستقيم تبقى كذلك في غياب أي قوة مؤثرة... و قد تبنى نيوتن تلك المقولة على أنها قانونه الاول في المكيانيكا (دراسة حركة الأجسام).
2. عصر نيوتن
بتقدم العلماء المسلمين بدأت أراء أرسطو بالتهالك و قد خلفوا نقدا علمياً و تجريبيا ثميناً للأوروبيين فيما يخص نظريات أرسطو ، ولكن بانشغال المسلمين فيما بعد بالتحارب و التقاتل بينهم (عصر المماليك و الولايات 1200 – 1500م) و من ثم انشغالهم باجترار العلوم الفقهية للسلف في العهد العثماني (1500-1800م) بدأ الأوروبيون يأخذون زمام المبادرة في وضع قواعد العلوم الفيزيائية ، و يعتبر نيوتن (1727م) أحد أهم الأعلام الذين ساهموا في توضيح المقصود بالجذب.
تقوم فيزياء نيوتن على 3 قوانين أساسية استقاها في الغالب ممن سبقه، أولها أن الجسم المتحرك بسرعة ثابتة و خط مستقيم يبقى كذلك ما لم تؤثر عليه قوة ، و هذه مقولة غاليليو ، و القانون الثاني يقول إن تغيير سرعة أي جسم مقدارا أو اتجاها يتطلب وجود قوة معينة و هذه مقولة البغدادي... ولكن نيوتن تقدّم خطوة للأمام و وضع لها علاقة رياضية جاعلا مقدار التغيير في السرعة مساويا لتلك القوة مقسومة على كتلة الجسم. لاحظ ان جذور هذين القانونين هما مما ساهم به علماء المسلمين ، و كان فيما يبدو "غاليليو" – قد قرأ و فهم ما ترجمه و كتبه علماء المسلمون من قبل و قام بالتوسع فيه أيضا ، فقرأ له نيوتن ، مما مهد الطريق لوضع علاقات رياضية حول تصرف الأجسام فيزيائيا. اما القانون الثالث فهو لكل فعل رد فعل مساو له في المقدار معاكس في الأتجاه.... و هذه مقولة نيوتن نفسه.
لقد بنى نيوتن قانونه الثاني رياضيا على مشاهدات تجريبية. و الذي ساعده في تحقيق ذلك هو تطور علوم الحسابات التكاملية في الرياضيات( و التي أسهم هو فيها شخصيا الشيء الكثير) .. الحسابات التكاملية تجعل من الممكن حساب التغيير في سرعة الجسم المرصود إذا استطعت ان ترصد مكان وجود الجسم عند عدة أزمان متفرقة. و معرفة التغيير في السرعة (أو ما يعرف بالتسارع) أمر ضروري ، لأنه حجر الزاوية في قانون نيوتن الثاني. و بناء على تجاربه فقد وضع نصا مفاده إن التغيير في سرعة جسم ما يساوي مقدار ما تضعه من قوة (دفع أو سحب) مقسوما على كتلة ذلك الجسم... لم يكن يعلم نيوتن حينها أن جملته تلك ستغدو قانوناُ لأكثر من 400 سنة قادمة... لقد كان نيوتن شديد الحذر من الخوض في أمور لا يفقهها.. فقد وضع قانونه على الحركات المستقيمة ... و لكن الذي عممّ قانون نيوتن فيما بعد على جميع أنواع الحركات (خاصة الدائرية منها) هو السويسري الفذ ليونار أويلر.
كانت تلك مقدمة لا بد منها لمعرفة كيف وصل نيوتن الى قانون الجاذبية. كان روبرت هوك ، رئيس لجنة الأشراف وقتها على البحث العلمي في الجمعية الملكية البريطانية، شديدا في نقده لأبحاث غيره ـ و كان نيوتن وقتها ينضوي تحت لواء تلك الجمعية ، و طالب "هوك" جميع العاملين في البحث العلمي وقتها بتقديم تقارير حول ما قدموه من أبحاث ، و من هنا حدثت مراسلات ما بين روبرت هوك و إسحق نيوتن . و من الامور التي كانوا يناقشونها في مراسلاتهم هي مقولة لنيوتن حول سقوط الأجسام مفادها إن الجسم عندما يسقط فإنه لا يستمر في السقوط بشكل عمودي و إنما يجب ان يعاني انزياحا أفقياً معاكسا لاتجاه حركة دوران الأرض ... وبالتالي لو أجرينا تجربة سقوط حر فإن تلك التجربة يجب ان تكشف عن دوران الأرض حول نفسها و يتابع نيوتن قائلا: و لو افترضنا أننا أزحنا قطعا من الأرض من أمام ذلك الجسم الساقط فإن الجسم سيستمر بالمسير نحو المركز في حركة لولبية ، تبعا للأنزياح عن مسار السقوط العمودي.. هنا لم يتفق هوك مع نيوتن على ذلك لأن هوك يؤمن أن سرعة الجسم المجذوب نحو المركز تتأثر بمقلوب المسافة الخطية ما بين مركزي الجسمين ، و إن دخول مسار لولبي يعني وجود قوة متغيرة دوماً لأحداث ذلك التغيير في المسار و هو غير معقول وقتها بسبب أن السقوط المفروض هو سقوط حرّ أي بدون تدخل أي قوة ( لم يكن هوك ولا نيوتن يؤمنان وقتها أن الجاذبية نفسها هي قوة).
كان الجو ما بين نيوتن و هوك مشحونا و متوترا إثر تلك المراسلات، و مما زاد الطين بلة هو انتشار مرض الطاعون في كامبريدج شمال لندن (1665م) مما أدى الى إغلاق الجامعات وقتها ، فقرر نيوتن الذهاب في إجازة الى قريته . و هناك شاءت الأقدار أن يستلقى بالقرب من شجرة تفاح في قريته شمال لندن. و بينما كان مستغرقا بالتأمل بتلك المراسلات إذا بحبة التفاح تسقط .. و ترتطم بالأرض هنا نظر نيوتن لحبة التفاح و بدأ سلسلة من الأفكار حول سقوط تلك التفاحة : فمما لاشك فيه أن التفاحة على الشجرة كانت في سكون تام! .. أي إن سرعتها لحظة بدء السقوط كانت تساوي صفراً. و بدأت سرعتها بالأزدياد الى أن وصلت الأرض فكانت أسرع ما يمكن.. مما يعني أن التفاحة اكتسبت تسارعا و هذا يعني حسب قوانينه أن هناك قوة معينة عملت على أحداث تغيير في سرعة الجسم الساقط ، أي عملت على إكساب التفاحة تسارعاً .. بعد هذه اللحظة الألهامية تابع نيوتن عقله قائلا: لو افترضنا أن تلك التفاحة سقطت من مكان أعلى فإن الأنزياح الأفقي للتفاحة سيكون أكثر وضوحا على سطح الأرض ، ببساطة لأن الأرض تدور! ... فلو كانت التفاحة قد بدأت السقوط من علو عند القمر مثلا .. فعندها يكون الأنزياح الأفقي مكافئا لمحيط الأرض.. ..و يتابع نيوتن في واحدة من ألمعيات التفكير النظري قائلا: ماذا لو عكسنا الموضوع: لو رمينا تلك التفاحة أفقيا فإنها سوف تسقط على الأرض على بعد مسافة معينة .. و لكن لو أعطيناها دفعا كافيا (قوة) فإن تلك التفاحة ستأخذ وقتا و مسافة اطول للسقوط ، حتى يحدث ذلك لا بد أن تتغلب تلك القوة الأفقية على القوة العمودية التي تجذب التفاحة للأسفل، ماذا لو جمعنا الأمرين معاً : أعطينا التفاحة دفعاًُ أفقيا قويا و أسقطناها من مسافة عالية ..فإن ما نحصل عليه هو نفسه حركة القمر حول الأرض!!! إنها الجاذبية إذن القوة التي تحرك القمر على هذا الشكل شبه الدائري!! فلو لم تكن هناك قوة للجاذبية لاستمر القمر في الحركة أفقيا و بعيداً عن الأرض... إذن: الجاذبية هي القوة التي تسبب تغيير سرعة الأجسام الساقطة.
أشعلت تلك الفكرة في قلب نيوتن المزيد من الأفكار و أخذ يقرأ ما كتبه "كبلر" و هو عالم ألماني (1630م) كرس حياته في دراسة كم المعلومات الهائل الذي جمعها عالم دنمركي اسمه "براهيه" (1600م) حول مواقع النجوم .. وقد خرج كبلر من دراسته تلك بثلاثة قوانين أولها أن الكواكب تدور في مدارات اهليلجية تكون الشمس في إحدى بؤرتيها ، و اما القانون الثاني ، و الذي استقى منه نيوتن ـ فيقول إن سرعة دوران تلك الكواكب حول شموسها تكون بحيث يمسح الخط الواصل بين الكوكب و الشمس مساحات متساوية في ازمنة متساوية..و أما القانون الثالث فيقول إن مربع فترة دوران الكوكب حول الشمس تتناسب طرديا مع مكعب القطر الأكبر للمدار نفسه.. هذه القوانين وصل إليها كبلر عن طريق دراسة واستقراء الملاحظات الرقمية لمواقع النجوم كما سجلها براهيه على مدار عقود من الزمن .. و من القانون الثاني لكبلر .. و بكتابة معادلة رياضية بسيطة حول تلك المساحة التي "يمسحها" الخط الواصل بين الكوكب و الشمس .. توصل نيوتن الى أن القوة التي تعمل على تغيير مسار حركة الكوكب (و هي التي أسماها بالقوة الجاذبية) تتناسب مع مقلوب مربع المسافة بين الكوكب و الشمس! و ليس مع مقلوب المسافة (كما كان يعتقد هوك). و بهذا أخرج نيوتن قانونه في الجذب العام قائلا إن الجاذبية هي قوة بين جسمين تتناسب تلك القوة عكسيا مع مربع المسافة ما بين الجسمين و طرديا مع حاصل ضرب كتلتي الجسمين....أيضا إن هذه القوة تتسبب في إكساب الجسم المجذوب تسارعا في اتجاه السقوط. لقد نالت مقولة نيوتن هذه سمعة عظيمة و أضحت نظرية نيوتن هذه من أشهر نظريات الفيزياء و يشار أليها بإسم قانون التربيع العكسي. و لكن ، كما سنرى لاحقا ، فإن نيوتن نفسه سرعان ما أدرك أنه قد أوقع نفسه في تناقض صارخ عندما وضع ذلك التعريف للجاذبية ، و هذا أدى الى رفض نظريته فيما بعد.
مع ذلك فقد بقيت نظرية نيوتن في الجذب تقدم تفسيراً مقبولاُ للظواهر الكونية، فقد أفلحت نظرية نيوتن في الجذب في التنبؤ بوجود كوكب نبتون (بالباء الموحدة) (عام 1846م) بناءً على قياسات حركة كوكب أورانوس المجاور. و لكن بعد عدة عقود من الزمن رصد العلماء وجود ترجافات و عدم انتظام في دوران كوكب المريخ و من ثم نبتون ، حاول العلماء تطبيق نظرية نيوتن في الجذب لتفسير تلك الأختلالات الحركية ، فتوقعوا وجود كواكب أخرى صغيرة على مقربة من هذين الكوكبين، إلا ان البحث عن هذه الكواكب الصغيرة استغرق وقتا طويلا ، مما جعل العلماء يشعرون بالمأزق الذي وقعت فيه نظرية نيوتن في الجذب ، إلى أن سلّموا أخيرا بفشل النظرية في تفسير وجود تلك الاختلالات في حركة دوران المريخ و نبتون.
3. عصر أينشتاين:
لم يفرح العالم طويلا بنظرية نيوتن في الجذب ، فقد بدأ العلماء ينقدون النظرية من جذورها. فنيوتن قد أوقع نفسه في الفخ عندما وصف الجاذبية على أنها قوة تتناسب طردياً مع حاصل ضرب كتلتي الجسمين المنجذبين و أنها تكسب الجسم المجذوب تسارعا أسماه تسارع الجاذبية الأرضية. تناقض النظرية كان صارخا مع نتائج التجارب الكثيرة التي اجريت منذ زمن غاليليو ، فإن كان ما يقوله نيوتن صحيحاً فإن قوة الجاذبية التي تعتمد على حاصل ضرب الكتلتين يجب أن تختلف باختلاف الكتلتين. ليس هذا فقط ، فإن التسارع التي تكسبه للجسم المجذوب يجب أن يعتمد على مقدار تلك القوة (حسب قانون نيوتن الثاني)، أي يجب أن يعتمد على مقدار الكتلة المجذوبة أيضا. و لكن التجارب الكثيرة التي أجريت منذ زمن غاليلو قد بينت أن أي جسمين إذا تم إسقاطهما من نفس الأرتفاع فإنهما يصلان الأرض في نفس الوقت (في عدم وجود احتكاك الهواء) ، أي انهما يكتسبان نفس التسارع بغض النظر عن الفرق بين كتلتيهما ، سواء ألقيت غراماً واحداً من الرصاص أم طنّ من الرصاص فهما يصلان للأرض بنفس الزمن (إذا تم ذلك في غرفة مفرغة من الهواء). إذن إن تسارع الجاذبية يبدو أنه لا علاقة له بكتلة الجسم المجذوب! و هذا على عكس ما يقوله نيوتن.
لم يدر ِ نيوتن ما يفعل حيال هذه النتائج التي تهدم نظريته من الأساس. بل لم يدرِ أحد ٌ من العلماء كيف يحل ذلك اللغز ، فلقد كان المخرج الوحيد من هذا المأزق هو القول ان دقة القياسات في التجارب لا تسمح بملاحظة الفرق بين تسارع الاجسام الساقطة نحو الأرض ، و بهذا استمر العلماء باستخدام نظرية نيوتن لأكثر من 250 سنة ، و مع تقدم طرق القياس و ازدياد الدقة و اجراء التجارب المتعددة ، اتضح للعلماء أن نظرية نيوتن في مأزق حيال تفسير ثبات تسارع الجاذبية الأرضية الى أن جاء أينشتاين (1905م) وقدم حلّه لتلك المعضلة. يقوم حل أينشتاين على أساس اعتبار أن تسارع الجاذبية ليس ناتجاُ عن قوة ، و إنما هو تسارع دائم ناتج عن استمرارية سقوط للأجسام. و اعتبر هذا التسارع نظاماً قصورياً ، بمعنى ، إن كل الأجسام تتسارع بنفس المقدار بغض النظر عن كتلتها.. أطلق على هذا المبدأ التي اقترحه أينشتاين إسم مبدأ التكافؤ. و سبب تسميته ذلك هو أنه اعتبر أن كتلة الجسم المجذوب هي نفسها (مكافئة لـِ) الكتلة التي تتسارع ، و هذا على عكس ما قاله نيوتن بإن الأثنتان مختلفتان ، فكتلة الجسم المجذوب عند نيوتن هي من صفات الجسم الساكن نفسه ، في حين كتلة التسارع هي حاصل قسمة قوة الجذب على تسارع الجاذبية الأرضية المكتسب. إن الملاحظ هنا دهاء أينشتاين عندما أخذ نقطة التناقض نفسها و جعلها مبدأ من مباديء المكيانيك عنده. و يزداد دهاء أينشتاين عندما لمعت في ذهنه الفكرة العبقرية التالية حيث يقول فيها إن الأرض لا تجذب القمر و لكن القمر مستمر في السقوط نحو الأرض ، و كذلك الأرض مستمرة في السقوط نحو القمر ، و إن سبب هذا السقوط هو انحدار و انحناء في الفضاء (أو المتصل المكاني) ما بين الأرض و القمر.
و يذهب أينشتاين الى أبعد من ذلك فيقول ، الجاذبية ليست قوة تصدر عن كتلة جسم ما ، و لكنها عبارة عن تشوّه و انحناء في المتصل المكاني-الزماني حول الجسم ، و المتصل المكاني-الزماني هو عبارة عن الفضاء عند لحظة زمنية قياسية موّحدة، قبل أن نشرح معنى هذا الكلام دعونا نوضّح مفهوم أينشتاين للجذب. لتوضيح المقصود بهذه الفكرة ، تخيل أن المتصل المكاني ( أي الفراغ حول أي جسم عند أي وقت معلوم) عبارة عن فرشة اسفنجية، فلو وضعنا على تلك الفرشة كرة معدنية ثقيلة فإن تلك الكرة تسبب في انحناء في تلك الفرشة حول الكرة، فإن رمينا كرة أصغر بخط مستقيم على مقربة من تلك الكرة المعدنية الثقيلة ، فإن الكرة الصغيرة سرعان ما تدور حول الكرة الكبيرة الى أن تلتصق بها ، إن سبب ذلك الأنجذاب هو مقدار التقعّر و الأنحناء الحاصل في تلك الفرشة و ليس بسبب وجود قوة ما بين الكرتين.
حتى نفهم المقصود بالمتصل الزماني-المكاني (أو المكاني-الزماني) الذي ابتدعه أينشتاين يجب علينا أن نفهم مصطلحين اثنين يعتبران من أهم ما طرقه أينشتاين فلسفيا و من ثم فيزيائياً. المصطلح الأول هو الفضاء – المكان- الفراغ ، فعند أينشتاين المكان (أو المتصل المكاني) هو عبارة عن مجموع العلاقات (يعني مسافات) ما بين الأشياء (أو الأجسام – الكتل – الذرات و كل ما يخطر في بالك مهما صغر) في حيز محدد. فإن لم يوجد في ذلك الحيز شيء مطلقا فلا يوجد شيء اسمه "مكان" ، بمعنى آخر ، إن المكان يتحدد بمجرد قدرتك على إيجاد علاقة نسبية مكانية ما بين شيئين على الأقل ، قد يكون أحد الشيئن نقطة وهمية بالنسبة لجسم وحيد. أما المصطلح الثاني فهو الزمن (اللحظة الزمنية أو المتصل الزماني) و هو الوقت المعلوم الآني اللحظي في نقطة معينة ضمن المتصل المكاني. إن إحدى البديهيات التي كسرها أينشتاين هي فكرة أن الزمن مطلق للجميع ضمن حيز مكاني واحد. فلو أخذنا غرفة معينة مثلا فالكل يتفق مثلا أن شخصين في الغرفة سوف تقيس ساعتاهما نفس اللحظة الزمنية لأي شيء يحدث في الغرفة ، قد يبدو هذا صحيحا من الناحية الفلسفية بسبب أن الفلاسفة دائما يفترضون أن سرعة انتقال المعلومات الى الحواس (العين) هي سرعة لانهائية و هذا من الناحية الفيزيائية ليس دقيقاً بالطبع . فلو أخذنا حدثاً معينا في الغرفة و ليكن إضاءة لمبة ، و دعونا نفترض هنا (كما افترض أينشتاين) أن سرعة انتقال الضوء للعين هي 1 متر لكل ثانية. بناء على هذا الفرض فإن "مكان" وقوف الشخصين بالنسبة للمبة هو الذي يحدد من سيرى الحدث أولاً. و بالتالي فإن الرجل الأقرب (على بعد متر مثلا) للمبة سوف "يدري" و "يعلم" بوجود اللمبة بعد ثانية واحدة ، لكن الشخص الذي هو على بعد 5 أمتار سيلزمه 5 ثواني ليدري بالحدث! و بناء على هذا ، فإنه من المستحيل أن يتفق الأثنان على نقطة بداية موّحدة يقيسان من خلالهما الأزمنة في تلك الغرفة ، و بهذا يكون لكل شخص (لكل موقع مكاني في الغرفة) خصائصه الزمنية الفريدة عن أي موقع آخر. بمعنى آخر ، يكون "الزمان" و "المكان" مرتبطان مع بعضهما البعض ارتباطاً وثيقاً ، أطلق أينشتاين على هذا الترابط مسمّى (المتصل المكاني-الزماني). إن المثال النظري السابق قد يبدو سخيفا عندما يطبّق على غرفة صغيرة ، و لكنه يغدو معقولا جدا بل ضرورياً عندما تصبح تلك الغرفة هي المجرة التي تتحرك فيها ملايين النجوم...
أطلق أينشتاين على فروضه و تعريفاته التي يقوم عليها مفهوم المتصل المكاني-الزماني إسم نظرية النسبية الخاصة (1905م) ، و بعدما أينعت و نضجت نظريته الخاصة و أصبح مفهوم "المكان-الزمان" قابلا للأستيعاب استخدمه أينشتاين في تفسير سبب التجاذب (كما شرحت سابقا) و أطلق على ذلك التفسير إسم نظرية النسبية العامة (1915م)، و ذاع صيتها في العالم إثر نجاحها في تنبؤ حدوث انزياح في الموقع المرصود لنجم بسبب مجيء الشمس في اتجاه رؤيته ، فنظرية أينشتاين هذه قدمت تفسيرا لما يمكن أن يكون انحرافا للضوء الصادر من النجم بسبب جاذبية الشمس ، و هو أمر لا قِـبـَـل لنظرية نيوتن به إذن أن نيوتن يلزمه معرفة كتلة الضوء ، في حين كان يعتبر الضوء وقتها أمواجاً تسير دونما كتلة.
4. ميكانيكا الكم
في وقت مقارب لأينشتاين ، كان علماء ألمان يطوّرون نظرية لتفسير الظواهر الموجية للضوء و الأمواج الكهرومغناطيسية، و من بين تلك الظواهر كانت هناك ظاهرة فريدة قد حيرت العلماء وقتها. إذ لاحظوا أن تسليط أمواج كهرومغناطيسية (أو ضوئية) على معدن معين يؤدي الى تسخين ذلك المعدن بنفس المقدار بغض النظر عن الفترة الزمنية التي يستمر تسليط الأمواج فيها. و قد وجدوا أن مقدار ذلك التسخين (و هو نفسه مقدار الطاقة المسلطة على المعدن) يتناسب طرديا مع تردد الموجة الضوئية المسلطة (أو عكسيا مع طول الموجة الضوئية). إن هذه الظاهرة تعني إن كمية الطاقة التي تحملها موجة ضوئية هي كمية محدودة و لا علاقة لها بالزمن. لم يجد العلماء تفسيرا لهذا سوى أن يفترضوا (على عكس البداهة البشرية) أن الطاقة الموجية عبارة عن كميات محددة تتناسب طرديا مع تردد الموجة الضوئية. عـُرفت هذه النظرية بنظرية ماكس بلانك في التكميم. و قد استخدمها العلماء في تفسير الكثير من الظواهر و بنوا عليها نظريات أخرى. إذ استطاع الدنماركي نيلز بور أن يقدم أول تفسير فيزيائي للأشعاعات الصادرة عن ذرة الهيدروجين بناء على نظرية ماكس بلانك الكمية. و تفسيره كان على أساس أن الالكترون في الذرة يتأرجح في مداره صعودا أو هبوطا تباعا لمقدار الطاقة المنقوله له ، و بما أن مقدار الطاقة مكمم (أي على شكل كميات و حزم محدودة) فإن انتقال الألكترون يتم عبر مدارات محددة أيضا.
التتمة تتبع لاحقاً