مع هيلارى كلينتون والتأرجح بين السلام والديمقراطية
سعد الدين ابراهيم
في
السبت ١٤ - نوفمبر - ٢٠٠٩ ١٢:٠٠ صباحاً
شاركت فى الدورة السادسة لمنتدى المستقبل التى عُقدت فى مدينة مراكش بالمغرب يومى ٢ و٣ نوفمبر ٢٠٠٩، وحضرت الدورة لأول مرة هيلارى كلينتون، وزيرة الخارجية الأمريكية، وكذلك وزراء خارجية مجموعة الثمانية الذين دشنوا هذا المنتدى عام ٢٠٠٤، مع الرئيس الأمريكى السابق جورج بوش، حيث تحدث وقتها عن الشرق الأوسط الكبير، وأجندته للحرية (Freedom Agenda)، الذى استهدف الجمع بين حكومات بُلدان الشرق الأوسط الكبير ومنظمات المجتمع المد&ae;دنى والقطاع الخاص فى كل من بُلدانه.
ورغم الشكوك التى أحاطت بمشروع بوش وقتها (٢٠٠٤)، فإن منتدى المستقبل وُلد، وترعرع طوال عهد الرئيس بوش (أى إلى سنة ٢٠٠٨)، وحين أتى باراك أوباما إلى السُلطة فى الولايات المتحدة، وأشار تصريحاً أو تلميحاً إلى أنه سيُقلع عن مُمارسات السياسة الخارجية لسلفه، ظن كثير من المُراقبين أن منتدى المستقبل سيكون ضحية مُبكرة للإدارة الأمريكية الجديدة، التى آلت على نفسها أن تبتعد عن، إن لم تعكس، سياسات سابقتها، من ذلك أنها أقفلت سجن «جوانتانامو»، وكفت عن لُغة «الحرب الكونية على الإرهاب»، كما أقلعت عن مُمارسة تغيير الأنظمة بالقوة.
وقد رحّب كثيرون فى العالم بهذا التوجه الجديد لإدارة أوباما، خاصة أن لُغته بدت أيضاً أقل غطرسة، وأكثر تواضعاً، ومع ذلك كان هناك توجس أن ينطوى هذا التوجه لإدارة أوباما على إدارة ظهرها لقضايا حقوق الإنسان والدفاع عن الحُريات الأساسية فى العالم.
وفى منطقتنا الشرق الأوسط تحديداً، ضاعف من هذا التوجس رغبة الإدارة الأمريكية فى إعطاء الأولوية لملفات أخرى فى مُقدمتها القضية الفلسطينية وإيران والحرب فى أفغانستان والعراق، وأكد ذلك تصريحات مُبكرة لوزيرة الخارجية فى الصين، فحواها أن الولايات المتحدة لن تدع قضية حقوق الإنسان تقف عقبة فى طريق تطوير وتنمية العلاقات التجارية بين البلدين، وبالفعل، حينما زار الدالاى لاما، زعيم شعب التبت، أمريكا مؤخراً، لم يُقابله الرئيس أوباما، إرضاء للمسؤولين الصينيين، وكانت هذه سابقة غير مُعتادة،
فقد حرص رؤساء أمريكا السابقون على استقبال هذا الزعيم الروحى فى البيت الأبيض، وقد استنكرت الصُحف الأمريكية ومنظمات المجتمع المدنى هذا الموقف لباراك أوباما، مما جعل البيت الأبيض يتراجع، ويعد بأن الرئيس أوباما سيستقبل الدالاى لاما فى وقت لاحق.
بهذه الخلفية، وقبل وصولها إلى مراكش، زادت هيلارى الطين بلة بتصريح لها فى إسرائيل تمتدح فيه رئيس الوزراء بنيامين نيتنياهو لوعده بأن بلاده لن تتوسع فى بناء مستوطنات جديدة فى المستقبل. واعتبر الفلسطينيون والعرب امتداح هيلارى كما لو كان تراجعاً عن موقف أمريكى سابق وصارم للرئيس أوباما يُطالب بالتجميد الفورى لبناء المستوطنات، وبالفعل، تحفزنا نحن العرب المُشاركين فى منتدى المستقبل بمراكش لإصدار بيان يُدين ما فعلته هيلارى قُبيل وصولها.
لذلك سارع وكيل الخارجية الأمريكية لشؤون الديمقراطية وحقوق الإنسان، مايكل بوزنر (Michael Posner) لاجتماع مع مُمثلى منظمات المجتمع المدنى العرب، فى الليلة السابقة لوصول هيلارى، لامتصاص مشاعر الغضب وإعطاء تفصيلات وتفسيرات لتصريحها، كما ذكر أنه تلقى منها رسالة تفيد استعدادها لمُقابلة عشرة من مُمثلى هذه المنظمات.
وبالفعل، اختلت هيلارى بعشرة من مُمثلى المجتمع المدنى، لمدة ساعة، على هامش اجتماع منتدى المستقبل، وبدأت بشكرنا، وحرصها على أن تسمع منا مُباشرة.. وكالعادة، بدأنا بالنقد والشكوى من سياسات الولايات المتحدة فى المنطقة سواء بالنسبة لمواقفها المُمالئة لإسرائيل، أو حربيها فى العراق وأفغانستان، أو دعمها للحكام المُستبدين.
واستمعت باهتمام شديد، موحية لكل مُتحدث منا كما لو كان لا ينطق عن الهوى.. واستأذنت أن ترد بعد كل ثلاثة مُتحدثين.
قالت هيلارى إنها، ونحن والرئيس أوباما، لا نستطيع تغيير الماضى.. ولكنا فقط نستطيع الاستفادة من دروسه، وإصلاح بعض تداعياته.. وإنها لهذا السبب تحرص فى جولاتها الخارجية على لقاء الأفراد العاديين من الجنسين، بل ومن كل الأعمار، وإنها تجد فى ذلك فائدة ومُتعة تفوق أى عائد من لقاء المسؤولين فى هذا البلد أو ذاك، وتدرك أيضاً أن ما تسمعه من المواطنين العاديين هو تعبير صادق عن الحقيقة والواقع، بينما ما تسمعه من المسؤولين فى البلد نفسه هو تعبير عن مصالحهم الشخصية فى المقام الأول. وبالمناسبة، فإن هذا ينطبق عليّ أيضاً. كل ما هُنالك، هو أنه حين يكون بلد ديمقراطى، فإن أقوال المسؤولين، تكون مُسجلة عليهم، ويُحاسبون عليها.
ـ صحيح أن أولويات الرئيس أوباما هى القضية الفلسطينية، فكل زعيم أو خبير فى العالم صادفه فى السنتين الأخيرتين، خارج أمريكا وإسرائيل، كرر على مسامعه أن تلك القضية هى المفتاح الأول للتعامل مع كل قضايا العرب والمسلمين الأخرى، وأنا كوزيرة خارجيته، أشاركه هذا الاقتناع، لذلك حرصنا منذ الأسبوع الأول، على تعيين واحد من أمهر الدبلوماسيين الأمريكيين، وهو السيناتور جورج ميتشيل، ليكون مسئولاً عن هذا الملف.
ـ ونحن على يقين بأن حل الدولتين هو المُمكن وهو الحل «الأمثل»، وليس «المثالى»، فى الوقت الحاضر، ولكن استمرار بناء المستوطنات يُعرقل تنفيذ هذا الحل فى الأجل المنظور، وقد أكدت الولايات المتحدة ذلك مراراً وتكراراً، وفى الوقت نفسه ندرك أن ذلك لن يتم بين يوم وليلة، وأن مسئولى الأطراف الأخرى عليهم ضغوط داخلية من الرأى العام فى بُلدانهم.
ـ ومُهمتى كوزيرة خارجية البلد الوسيط فى هذا النزاع أن أشجع كل خطوة، مهما كانت مُتواضعة، يأخذها أى طرف فى اتجاه الحل، ومن هنا امتدحت رئيس الوزراء الإسرائيلى، حينما أعلن عدم الاستمرار فى الاستيطان وفى ضوء ما أثرتموه، أنتم هنا، وعرب آخرون، فإننى سرعان ما أعدت تأكيد موقفنا المبدئى من عدم شرعية الاستيطان، وفى غضون أيام سأتوجه إلى برلين للمُشاركة فى الاحتفال بمرور عشرين عاماً على سقوط حائط برلين، وهو ما لم يكن ممكناً حدوثه قبل سقوطه بيوم واحد، فأنا مُتفائلة بأن كل شىء ممكن فى الحياة وفى السياسة.. وينطبق ذلك على المستوطنات وعلى الجدار العازل بين إسرائيل والأراضى المُحتلة.
ـ إن أولوية القضية الفلسطينية والملف النووى الإيرانى لا تجعلنا نغض البصر عن ثوابت السياسة الخارجية الأمريكية التى أكدها كل رئيس منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، وهى الدفاع عن حقوق الإنسان ودعم الديمقراطية فى العالم، صحيح أننا أحياناً نُخطئ الطريق أو الوسيلة، ولكنا لا نتخلى عن الهدف.
سألتها فى ضوء هذا، لماذا تخليتم عن المُدافعين عن حقوق الإنسان والديمقراطية فى مصر وإيران والصين والتبت؟
ردت بسرعة، إننا لم نتخل... وليس كل ما نفعله نعلنه، أما إذا كنت تقصد السيد أيمن نور، فإننا عبّرنا عن استيائنا لاستمرار مُلاحقته، وعدم سماح السُلطات المصرية له بالسفر للخارج.. وكنا قد عبّرنا عن ارتياحنا حينما أفرج عنه فى أوائل هذا العام، وأنت وزملاؤك هنا مطلوب منكم أن تبلغونا، كلما كان هناك شىء أمكن عمله، ولا يضر بقضيتكم.. فأحياناً تستغل بعض الأنظمة ما نقوله أو نفعله لابتزاز مُعارضيها، وتصويرهم كأنهم «عُملاء» للولايات المتحدة.. لذلك عليكم أنتم أن تقولوا لنا متى وكيف ندعم قضاياكم.
أما حول أن الانشغال بقضية الفلسطينيين يمكن أن يطغى على اهتمامنا بحقوق الإنسان والديمقراطية، فإننى أؤكد لكم اقتناعى واقتناع الرئيس أوباما بأن أى تقدم فى التعامل مع الملف الفلسطينى لن ينجح إلا إذا صاحبه تقدم فى قضية الديمقراطية فى الشرق الأوسط عموماً، ومصر خصوصاً، وأننى لا أكف عن تذكير الرئيس مُبارك بذلك، وبالمناسبة، إننى بعد هذا الاجتماع، سأطير إلى بلدكم مصر، التى أعتز بها وبصداقتى للرئيس مُبارك وأسرته.
قلت لها: ليتك تطلبين منه أن يسمح بانتخابات حُرة نزيهة، تحت إشراف دولى، وإلا فإن شرعية أى رئيس قادم لمصر سيكون مشكوكاً فيها، وأن تكف أجهزة الأمن فى مصر عن مُطاردتى، بحيل قانونية لا تنتهى. ولا أدرى إن كانت قد فعلت!؟
والله أعلم