نزار قباني في
تقرير سري جداً من بلاد قمعستان
لم يبق فيهم لا أبو بكر.. ولا عثمان.. جميعهم هياكل عظميَّة في متحف الزمان..
تساقط الفرسان عن سروجهم.. وأعلنت دويلة الخصيان..
واعتقل المؤذنون في بيوتهم .. و ألغي الأذان..
جميعهم تضخمت أثداؤهم.. وأصبحوا نسوان..
جميعهم يأتيهم الحيض، ومشغولون بالحمل وبالرضاعة..
جميعهم قد ذبحوا خيولهم.. وارتهنوا سيوفهم..
وقدموا نساءهم هدية لقائد الرومان.. ما كان يدعى ببلاد الشام يومًا..
صار في الجغرافيا.. يدعى (يهودستان)..
الله .. يا زمان.. لم يبق في دفاتر التاريخ
لا سيف ولا حصان جميعهم قد تركوا نعالهم
وهربوا أموالهم وخلفوا وراءهم أطفالهم
وانسحبوا إلى مقاهي الموت والنسيان
جميعهم تخنثوا... تكحلوا... تعطروا...
تمايلوا أغصان خيزران حتى تظن خالدا ... سوزان
ومريما .. مروان الله ... يا زمان...
جميعهم موتى . ولم يبق سوى لبنان
يلبس في كل صباح كفنًا ويشعل الجنوب إصرارًا وعنفوان
جميعهم قد دخلوا جحورهم واستمتعوا بالمسك، والنساء، والريحان
جميعهم مدجن، مروّض، منافق، مزدوج .. جبان
ووحده لبنان يصفع أمريكا بلا هوادة
ويشعل المياه والشطان في حين ألف حاكم مؤمرك
يأخذها بالصدر والأحضان
هل ممكن أن يعقد الإنسان صلحا دائما مع الهوان؟
الله ... يا زمان ..
هل تعرفون من أنا؟ مواطن يسكن في دولة (قمعستان)
وهذه الدولة ليست نكتة مصرية أو صورة منقولة عن كتب البديع والبيان
فأرض (قمعستان) جاء ذكرها في معجم البلدان ...
وأن من أهم صادراتها حقائبا جلدية مصنوعة من جسد الانسان
الله ... يا زمان ..
هل تطلبون نبذة صغيرة عن أرض (قمعستان)
تلك التي تمتد من شمال إفريقيا إلى بلاد نفطستان
تلك التي تمتد من شواطئ القهر إلى شواطئ
القتل، إلى شواطئ السحل، إلى شواطئ الأحزان .
وسيفها يمتد بين مدخل الشريان والشريان
ملوكها يقرفصون فوق رقبة الشعوب بالوراثة
ويفقأون أعين الأطفال بالوراثه
ويكرهون الورق الأبيض، والمداد، والأقلام بالوراثة
وأول البنود في دستورها: يقضي بأن تلغى غريزة الكلام في الإنسان
الله ... يا زمان ..
هل تعرفون من أنا؟ مواطن يسكن في دولة (قمعستان)
مواطن... يحلم في يوم من الأيام أن يصبح في مرتبة الحيوان
مواطن يخاف أن يجلس في المقهى .. لكي لا تطلع الدولة من غياهب الفنجان
مواطن يخاف أن يقرب زوجته قبيل أن تراقب المباحث المكان
مواطن أنا من شعب قمعستان أخاف أن أدخل أي مسجد
كي لا يقال إني رجل يمارس الإيمان كي لا يقول المخبر السري:
أني كنت أتلو سورة الرحمن
الله ... يا زمان ..
هل تعرفون الآن ما دولة ( قمعستان)؟
تلك التي ألفها.. لحنها.. أخرجها الشيطان...
هل تعرفون هذه الدويلة العجيبة؟
حيث دخول المرء للمرحاض يحتاج إلى قرار
والشمس كي تطلع تحتاج إلى قرار والديك كي يصيح يحتاج إلى قرار
ورغبة الزوجين في الإنجاب تحتاج إلى قرار
وشَعر من أحبها يمنعه الشرطي أن يطير في الريح بلا قرار..
ما أردأ الأحوال في دولة (قمعستان)
حيث الذكور نسخة عن النساء حيث النساء نسخة من الذكور
حيث التراب يكره البذور وحيث كل طائر يخاف بقية الطيور
وصاحب القرار يحتاج إلى قرار تلك هي الأحوال في دولة (قمعستان)
الله ... يا زمان ..
يا أصدقائي: إنني مواطن يسكن في مدينة ليس بها سكان
ليس لها شوارع ليس لها أرصفة ليس لها نوافذ ليس لها جدران
ليس بها جرائد غير التي تطبعها مطابع السلطان
عنوانها؟ أخاف أن أبوح بالعنوان كل الذي أعرفه أن الذي يقوده الحظ إلى مدينتي
يرحمه الرحمن...
يا أصدقائي: ما هو الشعر إذا لم يعلن العصيان؟
وما هو الشعر إذا لم يسقط الطغاة ... والطغيان؟
وما هو الشعر إذا لم يحدث الزلزال في الزمان والمكان؟
وما هو الشعر إذا لم يخلع التاج الذي يلبسه
كسرى أنوشروان؟ من أجل هذا أعلن العصيان
باسم الملايين التي تجهل حتى الآن ما هو النهار
وما هو الفارق بين الغصن والعصفور وما هو الفارق بين الورد والمنثور
وما هو الفارق بين النهد والرمانة وما هو الفارق بين البحر والزنزانة
وما هو الفارق بين القمر الأخضر والقرنفلة
وبين حد كلمة شجاعة، وبين خد المقصلة ... من أجل هذا أعلن العصيان
باسم الملايين التي تساق نحو الذبح كالقطعان
باسم الذين انتزعت أجفانهم واقتلعت أسنانهم
وذوبوا في حامض الكبريت كالديدان
باسم الذين ما لهم صوت ... ولا رأي ... ولا لسان ..
سأعلن العصيان ... من أجل هذا أعلن العصيان
باسم الجماهير التي تجلس كالأبقار تحت الشاشة الصغيرة
باسم الجماهير التي يسقونها الولاء بالملاعق الكبيرة
باسم الجماهير التي تركب كالبعير من مشرق الشمس إلى مغربها
تركب كالبعير .. وما لها من الحقوق غير حق ألماء والشعير
وما لها من الطموح غير أن تأخذ للحلاق زوجة الأمير
أو إبنة الأمير .. أو كلبة الأمير ..
باسم الجماهير التي تضرع لله لكي يديم القائد العظيم حزمة البرسيم ...
يا أصدقاء الشعر: إني شجر النار، وإني كاهن الأشواق
والناطق الرسمي عن خمسين مليونًا من العشاق
على يدي ينام أهل الحب والحنين فمرةً أجعلهم حمائما
ومرة أجعلهم أشجار ياسمين
يا أصدقائي ... إنني الجرح الذي يرفض دوما سلطة السكين ..
يا أصدقائي الرائعين: أنا الشفاه للذين ما لهم شفاه
أنا العيون للذين ما لهم عيون، أنا كتاب البحر للذين ليس يقرأون
أنا الكتابات التي يحفرها الدمع على عنابر السجون
أنا كهذا العصر، يا حبيبتي أواجه الجنون بالجنون
وأكسر الأشياء في طفولة وفي دمي، رائحة الثورة والليمون ...
أنا كما عرفتموني دائما هوايتي أن أكسر القانون
أنا كما عرفتموني دائما أكون بالشعر .. وإلا لا أريد أن أكون ..
يا أصدقائي: أنتم الشعر الحقيقي ولا يهم أن يضحك ... أو يعبس ...
أو أن يغضب السلطان أنتم سلا طيني ... ومنكم أستمد المجد، والقوة، والسلطان ..
قصائدي ممنوعة ... في المدن التي تنام فوق الملح والحجارة
قصائدي ممنوعة ... لأنها تحمل للإنسان عطر الحب، والحضارة
قصائدي مرفوضة ... لأنها لكل بيت تحمل البشارة
يا أصدقائي: إنني ما زلت بانتظاركم لنوقد الشرارة ...