وظيفة القضاء بين الاسلام و المسلمين ( المقال الحادى عشر )
شريك النخعي نموذج القاضى العادل في الدولة العباسية(11 )

آحمد صبحي منصور في الإثنين ٠٢ - نوفمبر - ٢٠٠٩ ١٢:٠٠ صباحاً

 

هو شريك عبد الله بن أبي شريك ، وجده هو الحارث بن أوس بن الحارث بن ذهل بن وهبيل بن سعد بن مالك بن النخع بن مذجح .. وكان جده الحارث بن أوس قد شهد موقعة القادسية مع سعد بن أبي وقاص .
    في سنة 95 هـ ولد شريك في مدينة بخاري في خراسان ونشأ بها ، ويبدو أن أباه مات وهو صغير فتعلم أن يكون عصاميا يعتمد علي نفسه وهو يحكي عن نفسه وعن بدايته يقول :" أدبتني نفسي والله ، ولدت بخراسان ببخاري فحملني ابن عم لنا حتي طرحني عند بني عم لي بنهر صرصر ، فكنت أجلس إلي معلم له&atilهم فعلق بقلبي تعلم القرآن فجئت إلي شيخهم فقلت يا عماه أريد أن أتعلم بالكوفة ، فأرسلني إليها فكنت في الكوفة اضرب اللبن وأبيعه واشتري دفاتر فأكتب فيها العلم ثم طلبت الفقه فبلغت ما تري " وكان شريك يتحدث بذلك أمام المستنير النخعي أحد شيوخ قبيلة النخع وقد أجهده تعليم أولاده ، فقال المستنير لأولاده : سمعتم قول ابن عمكم ، وقد أكثرت عليكم في الأدب ولا أراكم تفلحون فيه ، فليؤدب كل رجل منكم نفسه فمن أحسن فلها ومن أساء فعليها".
 
                                                   أساتذته وتلامذته
    كانت مدرسة الكوفة في مطلع القرن الثاني للهجرة أحد المراكز الأساسية للعلم ، وبها نشأ شريك النخعي يتلقى العلم بعصاميته وطموحه ، فقد سمع العلم من أبي اسحق السبيعي ومنصور بن المعتمر
وعبد الملك بن عمير وسماك بن حرب وسلمة بن كهيل وحبيب بن أبي ثابت وعلي بن الأقمر وزبيد اليامي وعاصم الأحول وعبد الله بن محمد بن عقيل ومخول بن راشد وهلال الوزان وأشعث بن سوار وشبيب بن غرقدة وحكيم بن جبير وجابر الجعفي وعلي بن بذيمة وعمار الدهني وسليمان الأعمش وإسماعيل بن أبي خالد .. وبعبارة أخري أخذ العلم عن كل شيوخ الكوفة .
     ثم ما لبث أن تصدر للعلم والرواية والفتوى فأخذ عنه أعلام كبار أمثال عبد الله بن المبارك وعبد الله بن عون الخراز وعباد بن العوام ووكيع بن الجراح وعبد الرحمن بن مهدي وإسحاق الأزرق ويزيد بن هارون وأبي نعيم ويحيي بن الحماني وعلي بن الجعد ومحمد بن سليمان ، ثم قدم إلي بغداد عدة مرات وصار له فيها تلاميذ.
 
                                                      بينه وبين علماء عصره
     ولأنه احتل الصف الأول بين علماء عصره فقد كانوا يقارنون بينه وبين غيره من المشاهير ، فكان عباد بن العوام يقول قدم علينا معمر وشريك ، وكان شريك أرجح عندنا من معمر، وكان بعضهم يفضله علي أبي الأحوص ، فقيل ليحيي بن معين : أيهما أحب إلي، وقد قدمه يحيي بن معين أيضا علي أبي إسحاق وإسرائيل وهما من كبار المحدثين .
     بل إن شريك النخعي كان في موضع المقارنة بسفيان الثوري كبير الزهاد والفقهاء في زمنه ، يقول أبو أحمد الزبيري " كنت إذا جلست إلي سفيان الثوري ، رجعت وقد هممت أن أعمل عملا صالحا، وكنت إذا جلست إلي شريك بن عبد الله رجعت وقد استفدت أدبا حسنا ".
   
    إلا أن تولية القضاء جعل بعضهم ينفر منه إذ كانوا يعتبرون من الورع عدم التعامل مع أهل السلطان وألا يتولى أحدهم منصب القضاء . وقد تأثر بعضهم بذلك في حكمه عليه ، فقال مثلا : أبو علي صالح بن محمد " شريك صدوق ولما ولي القضاء اضطرب حفظه " أي كانت العلاقات سيئة بينه وبينهم لذلك اتهمه بعضهم بالضعف وعدم الثقة وقلة الحفظ .
 
                             احتجاح أصحابه عليه لقبوله منصب القضاء
     وشريك من أشهر القضاة في العصر العباسي الأول ، بل هو أشهر من تولي القضاء في عصر المنصور وابنه المهدي ، وقد رفض في البداية أن يتولى القضاء ثم رضي بالأمر ، وكان يدافع عن نفسه أنهم قد أكرهوه علي ذلك المنصب ليمتص سخط رفاقه من العلماء والزهاد، ولكنهم كانوا يردون عليه هذه الحجة ، مثلا يحكي أن شريك قال لبعض إخوانه أكرهت علي القضاء ، قالوا له : أفأكرهوك علي اخذ الأجر ؟
ويروي يحيي بن يمان أنهم أكرهوا شريك علي تولي القضاء حتي كانوا يحيطونه بالشرطة يحفظونه ، ثم طاب له المنصب فصار يجلس للقضاء بدون شرطة تحفظه.
وبلغ سفيان الثوري إنه صار يجلس للمنصب باختياره ، فجاء إليه ، فقام إليه شريك وبالغ في تعظيمه وسأله عن حاجته ، فقال له الثوري : ما تقول في امرأة جاءت فجلست علي باب رجل ، ففتح الرجل الباب فاحتملها ففجر بها فعلي من تقيم الحدّ ؟ فقال له شريك : علي الرجل أما هي فلا عليها لأنها مغصوبة ، فقال له الثوري ، فإذا جاءت المرأة من الغد فتزينت وتعطرت وجلست علي ذلك الباب ففتح الرجل الباب فرآها فاحتملها وفجر بها فعلي أيهما تقيم الحد؟ فقال شريك : عليهما جميعا لأنها جاءت من نفسها وقد عرفت الخبر من الأمس ، فقال له سفيان الثوري : أنت كان لك عذرك حين كانت الشرطة تحفظك وتحيط بك ، فاليوم أي عذر لك ؟ ثم قام عنه مخاصما له ..
وكان الثوري يقول عنه : أي رجل كان شريك لو لم يفسدوه.
     وكان خصومه له بالمرصاد بعد توليه القضاء وقيامه بمستلزمات ذلك المنصب ، فقد حدث أن اقترب ركب الخيزران زوجة الخليفة المهدي قادمة من الحج ، فركب شريك ينتظر قدومها، وظل ثلاثة أيام حتي يبس الخبز الذي كان معه فصار يبلله بالماء ويأكله، فقالالعلاء بن المنهال‏:‏
فإن كان الذى قد قلت حقا   بأنْ قد أكرهوك على القضاء
فمالكموضعًا في كل يوم         تلقَى من يحج من النساء
مقيم في قرى شاهي ثلاثآ           بلا زاد سوى كسروماء
 
      ويروي ابن سعد في الطبقات الكبرى أن أبا جعفر المنصور استدعي شريك وقال له : إني أريد أن أوليك قضاء الكوفة فقال : اعفني يا أمير المؤمنين ، فقال : لست أعفيك ، قال : انصرف يومي هذا وأعود فيري أمير المؤمنين رأيه ، فقال له المنصور : إنما تريد أن تخرج فتغيب عني ، والله لئن فعلت لأقدمن علي خمسين من قومك بما تكره ، فلما سمعه شريك يحلف يهدده بالانتقام من قومه عاد إليه ولم يتغيب ، وتولي قضاء الكوفة .
     وجدير بالذكر أن أبا جعفر المنصور عاقب أبا حنيفة حين رفض تولي القضاء ولم يكن ذلك الخليفة يتراجع في تهديد ، فقد سفك الكثير من دماء بنى عمه من العلويين ، وأمر بضر ب الإمام مالك بن أنس ، وكان شريك متهما عنده بحب العلويين وتلك تهمة تبيح دمه لدي الخليفة العباسي ، لذا آثر شريك السلامة ورضي بمنصب القضاء ، وسار فيه بالعدل حتي في مواجهة أتباع الدولة العباسية ورؤوسها.
      وابن سعد في تاريخه الطبقات هو أقدم الكتب التاريخية وأقربها للصدق والتوثيق وقد ترجم لشريك ترجمة قصيرة ذكر فيها قصة توليه القضاء ، ولكن خصوم شريك ما لبثوا أن أشاعوا رواية أخري عن نفس الموضوع نقلها فيما بعد المؤرخ المملوكي خليل بن ايبك الصفدي فى موسوعته ( الوافى بالوفيات ) تقول إن شريك دخل علي الخليفة المهدي فقال له :لابد لك من احدي ثلاث ، إما أن تلي القضاء أو تؤدب أولادي و تحدثهم أو تأكل عندي أكلة. فقال : الأكلة اخف عندي ، فعمل له طباخ الخليفة ألوان الأطعمة ما لم يسمع به شريك من قبل ، فأكل . فقال الطباخ : لا يفلح بعدها ، وفعلا عمل لديه معلما وتولي القضاء .
وتلك الرواية تناقض ماهو معروف من سيرة شريك الذي تولي القضاء في عهد أبي جعفر المنصور واستمر قاضيا في عهد ابنه المهدي حتي عزله المهدي عن القضاء.
ثم إن تلك الرواية بعينها قد قيلت في تولية القاضي المشهور أبو يوسف والذي عرض عليه احدي ثلاث هو الخليفة الرشيد وذلك ما رددته كتب التاريخ .
 وخليل بن ايبك الصفدي ينقل رواية أخري يبدو فيها الإصرار علي تشويه صورة شريك ، يقول فيها إن الخليفة المهدي كتب ضيعة لشريكة وماطله في إعطائها ، طالبه بها شريك ، فقال له الخليفة : إنك لم تبع بها قماشا ، فقال له شريك : بل والله بعت ديني.
وتلك الرواية لا تستقيم مع أخبار شريك في تحري العدل ووقوفه ضد الظلمة من العباسيين وأعوانهم. ولم يذكر خليل الصفدي شيئا من تلك الروايات التى ترفع هامة شريك فى تحرى العدل والوقوف ضد الظالمين من العباسيين ، بينما ذكرتها كتب التاريخ المتقدمة مثل المنتظم لابن الجوزي وتاريخ بغداد للخطيب البغدادي مما يدل على ان تلك الروايات التى انفرد بها المؤرخ المملوكى خليل بن أيبك الصفدى والتى تنال من مكانته قد تم وضعها وتاليفها فيما بعد .
     ولقد ذكر ابن الجوزي والخطيب البغدادي وابن كثير أن شريك كان إذا افتتح مجلس القضاء أخرج ورقة وقرأها ، وكان مكتوبا فيها " يا شريك بن عبد الله اذكر الصراط وحدته ، يا شريك بن عبد الله اذكر الموقف بين يدي الله تعالي " ، وقبل أن يجلس للقضاء كان يأتي المسجد ويصلي ركعتين ، ثم بعد أن يقرأ تلك الورقة التي تذكره بمسئوليته أمام الله تعالي يدعو الخصوم للتقاضي .
 
                                                  عدله في القضاء
1 ـ علي أن القول الفصل في الحكم علي شخصية شريك يكمن في مدي تحقيقه العدل حين كان قاضيا ، والروايات في ذلك الشأن يظهر منها أنه تحري العدل وواجه ظلم الجبابرة وكان يهددهم بالاستقالة من منصبه ، وبهذا الموقف العملى ربما تترجح حجة شريك فى تولى منصب القضاء لكى يحقق بعض العدل لبعض الناس فى دولة قامت على الظلم . وربما كان شريك يرى أن الأجدى بالفقهاء الورعين أمثال سفيان الثوري أن يحذو حذوه في المواجهة لا أن يكتفي بالهرب والاعتزال بدعوى الزهد ومقاطعة الظلمة من الحكام . وكان الظلم مستفحلا فى بغداد وغيرها ، ووصل الى الكوفة فى إثناء تولى شريك القضاء فيها.وكانت الحاجة ماسة الى رجال من نوعية شريك تنصف بعض المظاليم.
 
2 ـ يروي مجالد بن سعيد أنه كان عند شريك في بيته وقد تأخر عن الذهاب لمجلس القضاء بسبب أنه غسل ثيابه ولم تكن قد جفت بعد ، وذلك يدل علي تقشفه العملي.ولكن القصة التى حدثت وقتها تبين نوعية شريك المختلفة عن أبى يوسف ومدرسته من قضاة الظلم .
كان شريك يجلس مع ابن سعيد وهو ـ شريك ـ ينتظر أن تجف ثيابه ، وكانا يتناقشان في مسألة فقهية عن العبد الذي يتزوج بغير إذن سيده ، وأثناء ذلك كانت الخيزران زوجة الخليفة المهدي وأم ولديه الهادى و الرشيد وصاحبة النفوذ الأكبر فى الدولة العباسية قد أرسلت إلي الكوفة خادما من أتباعها ليرعى ضياعها ، وأمرت والي الكوفة وهو موسي بن عيسي العباسي ألا يعصى له أمرا ، فاستفحل نفوذ ذلك الخادم بالكوفة ، وأثناء حديث ابن سعيد مع شريك في بيته كان ذلك الخادم يسير في موكب فخم في الشارع ورجل يسير بين يديه مكتوفا وهو يصرخ مستغيثا بالله وبعدل القاضي شريك وآثار السياط علي ظهره .
 وأسرع شريك بالخروج من داره فرأي ذلك المنظر ، وشكا المظلوم إلي شريك كيف أن ذلك الرجل خادم الخيزران قد استأجره بالسخرة منذ أربعة اشهر وحبسه حتي أضاع عياله ، وعندما هرب منه استطاع أن يقبض عليه ويلهب ظهره بالسياط .
وسمع القاضي مقالة الأجير فقال لخادم الخيزران : قم فاجلس مع خصمك .فرفض الخادم ، فقال له شريك : ما هذه الآثار التي بظهر الرجل ، فقال الخادم : أصلح الله القاضي إنما ضربته أسواطا وهو يستحق أكثر من هذا ، وطلب الخادم من القاضي شريك أن يدخله السجن تنفيذا لأوامر الخيزران صاحبة النفوذ، فما كان من شريك إلا أن ألقي كساءه الذي لم يجف ودخل داره وخرج ومعه سوط وانهال به ضربا علي خادم الخيزران ، وتجمع أعوان الخادم ليخلصوه من يديه فنادي شريك في فتيان الحي فأتوا إليه وأمرهم بالقبض علي أعوان الخادم والخادم وأن يذهبوا بهم إلي الحبس.
وأخذ الخادم يبكي ويقول مهددا لشريك : ستعلم عاقبة فعلك ، وأطلق شريك الأجير المظلوم ثم التفت إلي جليسه مجالد بن سعيد يقول له : يا أبا حفص ما تقول في العبد يتزوج بغير إذن سيده ، ودخل في النقاش الفقهي الذي كان كأن شيئا لم يحدث ، وقال له مجالد بن سعيد : والله لقد فعلت اليوم فعلة ستكون لها عاقبة مكروهة ، فلم يزد شريك علي أن قال له : من أعز أمر الله أعزه الله ، ودعاه إلي الاستمرار في المناقشة الفقهية.
وذهب خادم الخيزران إلي الوالي موسي بن عيسي العباسي يشكو إليه ، وقد صار معه أعوان الوالي ، إلا أن الوالي قال لهم : والله ما أتعرض لشريك ولا أقدر عليه ، فأصاب الخادم خزي ولحق ببغداد وما جرؤ علي أن يعود للكوفة، واكتسب شريك بذلك عداوة الخيزران .!.
 
3 ـ وكانت لوالي الكوفة موسي بن عيسي تجربة سابقة مع القاضي شريك هي التي جعلته يقف هذا الموقف ويتوقف عن معارضة شريك في موضوع خادم الخيزران .
يحكي عمر بن الهياج بن سعيد أن امرأة من نسل الصحابي جرير بن عبد الله البجلي جاءت إلي شريك تستغيث به من ظلم الوالي موسي بن عيسي ، وتقول له : " كان لي بستان علي شاطيء الفرات لي فيه نخل ورثته عن آبائي وقاسمت أخوتي وبنيت بيني وبينهم حائطا ، وجعلت فيه خادما يحفظ النخل ، فاشتري الأمير موسي بن عيسي من أخوتي جميعا وساومني علي شراء نصيبي فلم أبعه ، فبعث خمسمائة رجل فهدموا الحائط فأصبحت لا أعرف من نخلي شيئا واختلط بالنخل الذي كان ملكا لأخوتي واشتراه الأمير."
فنادي شريك غلاما كان عنده وأرسله برسالة إلي الأمير موسي بن عيسي يستدعيه إلي مجلس الحكم ليقف بجانب المرأة ، وذهبت المرأة مع الرسول إلي باب الأمير ، ودخل الحاجب علي الأمير يخبره بالأمر ، فما كان من الأمير إلا أن استدعي رئيس الشرطة وقال له امض إلي القاضي شريك وقل له يا سبحان الله ما رأيت أعجب من أمرك ، امرأة ادعت دعوة لم تصح ، أتنصرها علي ؟ فقال له رئيس الشرطة : أرجو أن يعفيني الأمير من حمل هذه الرسالة فأنا أعرف القاضي ، فانتهره الأمير وأمره بحمل الرسالة إلي شريك ، فرضخ صاحب الشرطة للأمر، وأمر أعوانه أن يجهزوا الحبس بكل ما يلزم من فراش وطعام لأنه يعرف مقدما أن القاضي شريك سيأمر بحبسه ، وذهب للقاضي وأدي الرسالة فقال شريك للحاجب الواقف عنده: خذ بيده فضعه في الحبس فقال رئيس الشرطة : قد والله يا أبا عبد الله عرفت أنك تفعل بي هذا فجعلت في الحبس ما يعينني عليه.
ووصل الخبر إلي الأمير الوالى موسى بن عيسى فغضب وأرسل الحاجب إلي شريك يقول له : إن رئيس الشرطة كان رسولا إليك فلماذا حبسته ؟ فأمر القاضي بحبس الحاجب أيضا .
وعلم الأمير بالخبر فأرسل إلي كبار أهل الكوفة وأصدقاء شريك وشكا لهم ما فعل شريك وأرسلهم إليه وقال لهم:" امضوا إليه وأبلغوه السلام واعلموه أنه قد استخف بي وأني لست كالعامة" ، فجاءوا إلي شريك وهو جالس في المسجد بعد العصر فابلغوه الرسالة فلما انقضي كلامهم وتوسلاتهم قال لهم: مالي لا أراكم جئتم في غيره من الناس تكلمونني؟
 ونادي علي فتيان الحي وقال لهم ليأخذ كل واحد منكم بيد رجل من هؤلاء فيذهب به إلي الحبس ، ولابد أن يقضي الليل فيه ، فقالوا له : أتتكلم جادا، قال نعم ، حتي لا تعودوا برسالة ظالم ، فذهبوا بهم إلي الحبس ، وأحاط الخزي بالوالي فدخل فى تحدى القاضى الى النهاية ، فركب بالليل ومعه أعوانه إلي الحبس وفتح الباب وأخرج الجميع منه.
وفي الغد جلس شريك في المجلس كعادته ، فجاءه السجان وأخبره بما حدث ، فدعا شريك بأوراقه وختمها ، وذهب إلي داره واحتمل متاعه ، وتجهز لمغادرة الكوفة معتزلا القضاء وقال : والله ما طلبنا هذا الأمر منهم ولكن اكرهونا عليه ، ولقد ضمنوا لنا الإعزاز فيه حين تقلدناه لهم.
وسار شريك خارجا من الكوفة فبلغ القنطرة في طريقه إلي بغداد ، وعلم الوالي بما حدث فركب في موكبه فلحقه ، وجعل يناشده الله أن يرجع ويعتذر إليه ، فقال له شريك : لا أرجع حتي ترد الجميع إلي الحبس وإلا مضيت إلي أمير المؤمنين استعفيه من القضاء ، فأمر الوالي بأن يرد الجميع إلي الحبس . وظل شريك في مكانه حتي جاءه السجان وقال : لقد رجعوا إلي الحبس ، فقال القاضي لأعوانه : خذوا بلجام الأمير وقودوه إلي مجلس الحكم ، فأخذوه من أمام القاضي.
وفى مجلس القضاء جيء بالوالي أمام القاضي في مجلس الحكم ، وطلب القاضي المرأة فجاءت ، فقال لها هذا خصمك قد حضر إلي جانبك ، فقال الأمير : أما وقد جلست أمام مجلس القضاء فأخرج أولئك الذين حبستهم قبل كل شيء ، فقال له القاضي: أما الآن فنعم ، وأمر بإخراجهم وقال للأمير : ما تقول فيما تدعيه هذه المرأة عليك ؟ فقال الأمير : إنها صادقة ، قال القاضي : إذن ترد جميع ما أخذته منها وتبني حائطا في وقت واحد سريعا كما هدمته ، قال أفعل ، فقال القاضي : وتقول المرأة انك أخذت متاع خادمها فى البستان فقال الأمير : وأرد ذلك أيضا ، فالتفت شريك للمرأة وقال لها : هل بقي لك شيء تدعينه يا امرأة ، فقالت المرأة : لا. وجزاك الله خيرا. وقال القاضي للمرأة : إذا قومي يرحمك الله . بعد انتهاء المجلس قام شريك من مكانه وأخذ بيد الأمير وأجلسه معه وقال له : السلام عليك أيها الأمير ، أتأمر بشيء ؟ فضحك الأمير قائلا هل أنا الذي آمر؟
 
                                                عزل شــــريك
    وكان من الطبيعي أن يستعدي شريك علي نفسه مراكز القوي في قصر الخلافة في عهد المهدي الذي كان بالخيزران وبقية الجواري فيه كل النفوذ . هذا بالإضافة إلي ما عرف عن شريك من حب لآل البيت العلوي ومن جرأة في خطاب الخليفة وغيره مما كان غير محتمل عند المهدي الذي تتبع خصومه بالقتل بتهمة الزندقة .
    ويقال عن سبب عزله عن القضاء إن وكيلا لجارية فى القصر العباسى من ذوات النفوذ واسمها مؤنسة تخاصم مع رجل أمام شريك ، وأخذ ذلك الوكيل يستطيل علي خصمه أمام القاضي يتيه بمكانته ومكانة سيدته ، فزجره القاضي ، فقال للقاضي : أتقول لي هذا وأنا وكيل مؤنسة ؟ فأمر القاضي بصفعه عشر صفعات ، فانصرف ودخل علي سيدته يبكي ، فكتبت مؤنسة إلي الخليفة المهدي فعزله عن القضاء .
كانت تلك القشة التي قصمت ظهر البعير كما يقولون ، إذ ضاقت الخيزران بعدل شريك ، وضاق الخليفة بجرأته، إذ حدث قبيل ذلك أن قال له الخليفة .. ما ينبغي لك أن تتقلد القضاء بين المسلمين ، فقال له شريك : لماذا ؟ قال لخلافك علي الجماعة وقولك بالإمامة " الشيعية " فقال له شريك : أما قولك بخلافك عن الجماعة فعن الجماعة أخذت ديني فكيف أخالفهم وهم اصلي في ديني ، وأما قولك بالإمامة " الشيعية " فما أعرف إلا كتاب الله وسنة رسوله صلي الله عليه وسلم ، وأما قولك مثلك لا يتقلد القضاء فهذا شيء أنتم فعلتموه فإن كان خطأ فاستغفروا الله منه ، وإن كان صوابا فأمسكوا عليه ، فقال له المهدي : ما تقول في علي بن أبي طالب ؟ قال : ما قال فيه جدك العباس وعبد الله بن عباس ، فقال : وما قالا فيه؟ قال : فأما العباس فمات وعلي عنده أفضل الصحابة ، وأما عبد الله بن عباس فإنه كان يقاتل بين يديه بسيفين ، وكان في حروبه معه قائدا فلو كانت إمامته علي جور كان أول من يقعد عنها جدك عبد الله بن عباس لعلمه بدين الله . فسكت المهدي وأطرق وعجز عن الإجابة ، ولم يمض بعدها إلا قليل حتي عزله عن القضاء .
 
                                                   جرأته في الرد
     ويبدو مما سبق أنه كان جريئا في الرد سريع الإجابة لا يهاب أحدا، ومن الطريف أن الوالي علي الكوفة موسي بن عيسي وجد فرصة في عزل شريك ليتشفى فيه فقال له : ما صنع أمير المؤمنين بأحد مثل ما صنع بك حين عزلك عن القضاء ، فرد عليه شريك ردا موجعا، قال له: هم أمراء المؤمنين يعزلون القضاة ويخلعون ولاة العهود فلا يعاب عليهم ذلك ، فغضب موسي منه وقال : ما رأيت مجنونا مثلك لا يبالي بما ينطق به.
والسبب في غضب موسي بن عيسي أن أباه عيسي بن موسي كان وليا للعهد بعد أبي جعفر المنصور وهو ابن عم له ، فخلعه أبو جعفر المنصور في مقابل الأموال وجعل إبنه المهدي وليا للعهد بعده ، ورد شريك علي موسي بن عيسي بن موسي يذكره بأنهم عزلوا أباه من ولاية العهد قبل أن يعزلوا شريك من القضاء ..فأفحمه وأغاظه .
     ولم تكن جرأته في الرد علي الخليفة لتتأثر بالتهديد الخفي أو الظاهر ، هو يعلم أن الخليفة المهدي كان يقتل خصومه متهما إياهم بالزندقة وقد لوح بهذه التهمة في وجه شريك حين قال له : يا شريك كأني أري رأس زنديق يقطعها السيف الساعة . فقال شريك مسرعا: يا أمير المؤمنين إن للزنادقة علامات ، فاضطر المهدي لأن يقول له : يا أبا عبد الله إننا لم نقصدك بهذا ، يقول الراوي : وهو يحيي بن نعيم : إن الخليفة وجد شريك حاضر الجواب فأنجبه منه .
    وكان بعض خصومه يجدون في اتهامه بالتشيع لعلي بن ابى طالب طريقا للطعن فيه إلا أنه كان يصفعهم بلسان حديد لا يستطيعون الإفلات منه .
وقد حدث أن حكم شريك في قضية علي وكيل لعبد الله بن مصعب بن الزبير ، ولم يعجب ابن مصعب ذلك الحكم فقال لشريك ما حكمت علي وكيلي بالحق ، فقال له شريك : ومن أنـت ؟ قال له ابن مصعب : أنا من لا تنكر ، أي يتيه متفاخرا باسمه ونسبه ، فقال له شريك : فقد نكرتك أشد النكير ، فاضطر ابن مصعب لأن يقول له : أنا عبد الله بن مصعب بن الزبير ، فقال له شريك أنت لا كثير ولا طيب ، فغضب ابن مصعب وقال : وكيف لا تقول هذا وأنت تبغض الشيخين : فقال شريك : ومن الشيخان ؟ قال : أبو بكر وعمر فقال شريك له رده الموجع : والله لست ابغض أباك الزبير بن العوام وهو دونهما فكيف أبغضهما؟ فلم يستطع ابن مصعب أن يرد عليه . اى اراد ذلك الفتى حفيد الزبير ابن العوام أن يتهم شريك بالتشيع لعلى وبغض ابى بكر وعمر فجاء رد شريك مفحما له .
    وكان في قضائه وفتاويه سريع الجواب كثير الصواب ، قال له رجل : ما تقول في من أراد أن يقنت في الصبح قبل الركوع فقنت بعده ؟ فقال له : هذا أراد أن يخطيء فأصاب !!
    وتوفي شريك بالكوفة في يوم السبت مستهل ذي القعدة 177 هـ في خلافة الرشيد وصلي عليه الوالي موسي بن عيسي .
وكان هارون الرشيد في الحيرة فجاء إلي الكوفة خصيصا ليصلي عليه، فوجدهم قد دفنوه فانصرف ولم يدخل الكوفة .. رحم الله القاضي شريك بن عبد الله.
     
بين ابى حنيفة وشريك :
لقد‏ ‏كان‏ ‏أبو‏ ‏حنيفة‏ (80 - 150 ‏هـ‏) ‏معارضا‏ ‏فى ‏حياته‏ ‏للدولة‏ ‏الأموية‏ ‏أبان‏ ‏سطوتها‏ ‏مؤيدا‏ ‏لثورة‏ ‏زيد‏ ‏بن‏ ‏على ‏زين‏ ‏العابدين‏ ‏عام‏ 121 ‏هـ‏، ‏واشتهر‏ ‏بتعاطفه‏ ‏مع‏ ‏العلويين‏ ‏مما‏ ‏جعل‏ ‏الوالى ‏الأموى ‏على ‏العراق‏ ‏ابن‏ ‏هبيرة‏ ‏يختبر‏ ‏ولاءه‏ ‏للدولة‏ ‏بأن‏ ‏يشركه‏ ‏معه‏ ‏فى ‏السلطة‏ ‏ويتولى ‏القضاء‏ ‏زعيما‏ ‏للفقهاء‏ ، ‏ولكنه‏ ‏أبى ‏بينما‏ ‏وافق‏ ‏الفقهاء‏ ‏أمثال‏ ‏ابن‏ ‏أبى ‏ليلى ‏وابن‏ ‏شبرمه‏ ‏وابن‏ ‏أبى ‏هند‏. ‏فكان‏ ‏أن‏ ‏أمر‏ ‏ابن‏ ‏هبيرة‏ ‏بحبس‏ ‏أبى ‏حنيفة‏ ‏فى ‏السجن‏ ‏إلى ‏أن‏ ‏أطلق‏ ‏سراحه‏، ‏فهرب‏ ‏إلى ‏مكة‏ ‏وظل‏ ‏بها‏ ‏إلى ‏أن‏ ‏قامت‏ ‏الدولة‏ ‏العباسية‏ ‏فرجع‏ ‏إلى ‏الكوفة‏ ‏متمتعا‏ ‏بالحظوة‏ ‏لدى ‏العباسيين‏. ‏إلا‏ ‏أن‏ ‏هذه‏ ‏الحظوة‏ ‏لم‏ ‏تطل‏ ‏إذ‏ ‏أن‏ ‏الخلاف‏ ‏ما‏ ‏لبث‏ ‏أن‏ ‏وقع‏ ‏بين‏ ‏أبى ‏حنيفة‏ ‏وأبى ‏جعفر‏ ‏المنصور‏، ‏وأساس‏ ‏الخلاف‏ ‏أن‏ ‏الدولة‏ ‏الجديدة‏ ‏تريد‏ ‏من‏ ‏العلماء‏ ‏أن‏ ‏يكونوا‏ ‏أداة‏ ‏لها‏ ‏فى ‏سياستها‏، ‏شأن‏ ‏ترزية‏ ‏القوانين‏ ‏فى ‏عصرنا‏، ‏وهذا‏ ‏ما‏ ‏رفضه‏ ‏أبو‏ ‏حنيفة‏ ‏ورفض‏ ‏معه‏ ‏عطايا‏ ‏الدولة‏ ‏وإغراءاتها‏. ‏وتمسك‏ ‏بالفتيا‏ ‏بالحق‏ ‏مهما‏ ‏أغضب‏ ‏الخليفة‏. ‏وكانت‏ ‏تلك‏ ‏الفتاوى ‏سياسية‏ ‏أحيانا‏ ‏وعادية‏ ‏حينا‏، ‏وكلها‏ ‏كانت‏ ‏سببا‏ ‏فى ‏أن‏ ‏يلقى ‏أبو‏ ‏حنيفة‏ ‏مصرعه‏ ‏بالسم‏ ‏سنة‏ 150 ‏هـ‏.‏
ونعطى ‏أمثلة‏ ‏سريعة‏ ‏لبعض‏ ‏تلك‏ ‏الفتاوى، ‏فقد‏ ‏وقع‏ ‏خلاف‏ ‏بين‏ ‏أبى ‏جعفر‏ ‏المنصور‏ ‏وزوجته‏، ‏وكان‏ ‏قد‏ ‏اشترط‏ ‏لها‏ ‏ألا‏ ‏يتزوج‏ ‏عليها‏. ‏فلما‏ ‏جاءته‏ ‏الدنيا‏ ‏تسعى ‏فى ‏سلطانه‏ ‏أراد‏ ‏أن‏ ‏يتحلل‏ ‏من‏ ‏الشرط‏، ‏فاستعانت‏ ‏الزوجة‏ ‏بأبى ‏حنيفة‏، ‏وأفتى ‏أمامهما‏ ‏بأنه‏ ‏لا‏ ‏يجوز‏ ‏لأبى ‏جعفر‏ ‏أن‏ ‏يتزوج‏ ‏عليها‏. ‏كما‏ ‏ثار‏ ‏محمد‏ ‏النفس‏ ‏الزكية‏ ‏حفيد‏ ‏الحسن‏ ‏بن‏ ‏على، ‏وتحرج‏ ‏بعض‏ ‏القادة‏ ‏العباسيين‏ ‏من‏ ‏مواجهته‏، ‏اذ‏ ‏كان‏ ‏محمد‏ ‏النفس‏ ‏الزكية‏ ‏هو‏ ‏المستحق‏ ‏الحقيقى ‏للخلافة‏ ‏والدعوة‏، ‏وكان‏ ‏أبو‏ ‏جعفر‏ ‏المنصور‏ ‏نفسه‏ ‏قد‏ ‏بايعه‏ ‏من‏ ‏قبل‏، ‏كان‏ ‏أبو‏ ‏حنيفة‏ ‏يعتقد‏ ‏بأحقية‏ ‏النفس‏ ‏الزكية‏، ‏وعلم‏ ‏أبو‏ ‏جعفر‏ ‏المنصور‏ ‏بالأمر‏. ‏وأصبح‏ ‏الجواسيس‏ ‏يحيطون‏ ‏بأبى ‏حنيفة‏ ‏يحصون‏ ‏عليه‏ ‏أنفاسه‏ ‏ويتصيد‏ ‏المنصور‏ ‏أخطاءه‏ ‏ويتحين‏ ‏الفرصة‏ ‏للنيل‏ ‏منه‏، ‏ونجح‏ ‏أبو‏ ‏حنيفة‏ ‏بذكائه‏ ‏فى ‏الإفلات‏ ‏من‏ ‏تلك‏ ‏المكائد‏ ‏طالما‏ ‏لا‏ ‏تؤثر‏ ‏على ‏رأيه‏ ‏الفقهى، ‏إلى ‏أن‏ ‏حدثت‏ ‏ثورة‏ ‏الموصل‏ ‏سنة‏ 148، ‏وكانت‏ ‏بداية‏ ‏النهاية‏.
‏إذ‏ ‏جمع‏ ‏أبو‏ ‏جعفر‏ ‏المنصور‏ ‏الفقهاء‏ ‏وأخبرهم‏ ‏أن‏ ‏أهل‏ ‏الموصل‏ ‏بعد‏ ‏فشل‏ ‏ثورتهم‏ ‏الأولى ‏كان‏ ‏قد‏ ‏اشترط‏ ‏عليهم‏ ‏إذا‏ ‏ثاروا‏ ‏فإن‏ ‏دماءهم‏ ‏حلال‏ ‏وطالما‏ ‏قد‏ ‏خرجوا‏ ‏عليه‏ ‏فقد‏ ‏حلت‏ ‏دماوهم‏، ‏فأفتى ‏العلماء‏ ‏بالموافقة‏، ‏وقالوا‏ ‏للخليفة‏: ‏إن‏ ‏عفوت‏ ‏فأنت‏ ‏أهل‏ ‏للعفو‏ ‏وإن‏ ‏عاقبت‏ ‏فبما‏ ‏يستحقون‏، ‏وسكت‏ ‏أبو‏ ‏حنيفة‏، ‏فسأله‏ ‏الخليفة‏ ‏عن‏ ‏رأيه‏ ‏فقال‏: ‏إنهم‏ ‏أباحوا‏ ‏لك‏ ‏ما‏ ‏لا‏ ‏يملكون‏ ‏وقد‏ ‏اشترطت‏ ‏عليهم‏ ‏ما‏ ‏ليس‏ ‏لك‏، ‏لأنهم‏ ‏لا‏ ‏يملكون‏ ‏دماءهم‏، ‏أرأيت‏ ‏لو‏ ‏أن‏ ‏امرأة‏ ‏أباحت‏ ‏شرفها‏ ‏بغير‏ ‏زواج‏ ‏أكان‏ ‏ذلك‏ ‏يجوز‏ ‏لها؟‏ ‏فسكت‏ ‏الخليفة‏ ‏ونصح‏ ‏أبا‏ ‏حنيفة‏ ‏محذرا‏ ‏من‏ ‏أمثال‏ ‏هذه‏ ‏الفتوى، ‏ولكن‏ ‏أبا‏ ‏حنيفة‏ ‏لم‏ ‏يسكت‏ ‏إذ‏ ‏أصدر‏ ‏فتوى ‏أخرى ‏خطيرة‏ ‏مؤداها‏ ‏أن‏ ‏الخلافة‏ ‏تكون‏ ‏باجماع‏ ‏المؤمنين‏ ‏وليس‏ ‏بالقوة‏، ‏وهكذا‏ ‏حانت‏ ‏ساعة‏ ‏الصفر‏، ‏وانطلق‏ ‏علماء‏ ‏السلطة‏ ‏يتهمون‏ ‏أبا‏ ‏حنيفة‏ ‏بأنه‏ ‏يرى ‏وضع‏ ‏السيف‏ ‏فى ‏أمة‏ ‏محمد‏، ‏أى ‏يشجع‏ ‏على ‏الثورة‏، ‏وواكب‏ ‏ذلك‏ ‏عرض‏ ‏القضاء‏ ‏عليه‏، ‏وكان‏ ‏المنصور‏ ‏يتوقع‏ ‏منه‏ ‏أن‏ ‏يرفض‏ ‏القضاء‏، ‏وفى ‏هذا‏ ‏الجو‏ ‏أتيح‏ ‏للدولة‏ ‏العباسية‏ ‏أن‏ ‏تعتقل‏ ‏أبا‏ ‏حنيفة‏ ‏وأن‏ ‏تسقيه‏ ‏السم‏ ‏فى ‏السجن‏ .
إن‏ ‏أبا‏ ‏جعفر‏ ‏المنصور‏ ‏لم‏ ‏يختلف‏ ‏فى ‏جبروته‏ ‏واستبداده‏ ‏عن‏ ‏عبد‏ ‏الملك‏ ‏بن‏ ‏مروان‏ (‏وقد‏ ‏كان‏ ‏معجبا‏ ‏به‏) ‏إلا‏ ‏أنه‏ ‏أضفى ‏على ‏استبداده‏ ‏مسحة‏ ‏التدين‏ ‏واستعان‏ ‏بأعوانه‏ ‏من‏ ‏الفقهاء‏ ‏ليسبغ‏ ‏مشروعية‏ ‏دينية‏ ‏على ‏طغيانه‏ ‏وظلمه‏ ‏بالأحاديث‏ ‏المصنوعه‏ ‏والفتاوى ‏السامة‏، ‏سواء‏ ‏كانت‏ ‏القضايا‏ ‏سياسية‏ ‏أم‏ ‏كانت‏ ‏عادية‏ ‏شخصية‏، ‏وقد‏ ‏رأينا‏ ‏طرفا‏ ‏من‏ ‏ذلك‏ ‏فى ‏ذلك‏ ‏العرض‏ ‏السريع‏ ‏عن‏ ‏أبى ‏حنيفة‏ ‏وعلاقته‏ ‏بأبى ‏جعفر‏ ‏المنصور‏.
ونلاحظ الاتفاق بين أبى حنيفة( 80 ـ 150 )  وشريك (95 ـ 177 ) فى كونهما عاشا فى عصر واحد تقريبا ، وأغلب حياتهما فى الكوفة ، وأنهما عاصرا الدولتين الأموية و العباسية ، وكلاهما كان (متهما) بالتشيع ، الذى كان جريمة فى نظر العباسيين تستلزم أن يظهر كل منهما إخلاصه التام للدولة العباسية بالعمل لديها قاضيا . لذلك كان الالحاح عليهما بتولى القضاء.
وهناك إختلاف أكثر بين أبى حنيفة وشريك، ربما كان السبب فى اختلاف نهايتهما حيث انتهى أمر أبى حنيفة بالقتل ، وانتهى أمر شريك بالعزل.
أبو حنيفة فارسى وليس عربيا مثل شريك ، وكان أبوحنيفة رافضا للحديث وليس مثل شريك ، كما أن ظروف اصطدام ابى حنيفة بالخلافة العباسية جاءت ملابسة لظروف حرجة ودقيقة، لذا انتهت حياته بالقتل .
الفرس قوم ابى حنيفة كانوا قوام الدعوة العباسية وقوام الجيش العباسى ، وكان نفوذهم هو الغالب على العرب، وقد بدأت الدعوة السياسية السرية لصالح العلويين تحت شعار(الرضى من آل محمد ) للتعمية على صاحب الدعوة بعد أن قتل الأمويون قادة العلويين من الحسين ومن بعده . وفى ظروف سرية انتقلت الدعوة من صاحبها الذى ينتمى الى ذرية محمد بن على بن ابى طالب ( أبن الحنفية ) الى رأس البيت العباسى ، ولم يعلم الفرس المؤيدون للدعوة بهذا الانتقال إلا بعد الاعلان عنمه وتعيين السفاح أول خليفة عباسى . ومن الطبيعى أن تحدث انشقاقات وتذمر واجهته الدولة العباسية بالقوة ، واستغل هذالاالوضع قائد الجيش العباسى أبو مسلم الخراسانى فى تقوية نفوذه باعتباره الذى يسيطر على الجيش ويتحكم فى ولاء الفرس، وضاق السفاح بنفوذه ومات تاركا مشكلته لولى عهده أخيه أبى جعفر المنصور الذى ما لبث أن قتل أبا مسلم بيده عام 137 . وثارت معارك ضد العباسيين فى خراسان تزعمتها فاطمة بنت أبى مسلم ، وكان لأبى مسلم أتباع كثيرون داخل الجيش العباسى وفى البلاط العباسى ، ولذا كان موقف أبى حنيفة الفارسى والزعيم الدينى للفرس حرجا ، خصوصا وأن أبا حنيفة كانت لا تأخذه فى الحق لومة لائم . وزاد من حساسية الموقف للعباسيين أن أبا حنيفة كان يتشيع لآل على ، وحدثت ثورة محمد النفس الزكية فى الحجاز ، وثورة أخيه ابراهيم فى الشرق عام 145 . هنا أصبح الموقف لا يحتمل معارضة أبى حنيفة ، خصوصا وأن أبا حنيفة مع تشيعه فهو يرفض الأحاديث التى يذيعها و ينشرها فقهاء الدولة العباسية والتى تنسب للنبى التبشير بملك بنى العباس . كلها عوامل أدت الى مقتل أبى حنيفة.
اختلف الوضع مع شريك .
شريك مع تشيعه فليست له عصبية عربية تجعله خطرا على الدولة العباسية ،خصوصا مع أفول التأثير العربى فى الدولة العباسية الجديدة.وشريك مع تشيعه فهو من رجال الحديث ،أى مع المنهج الذى تسير عليه الدولة العباسية .
الأهم من هذا ، أنه بعد موت أبى حنيفة زادت حاجة الدولة العباسية ـ وهى فى فترة التوطيد فى عصر أبى جعفر المنصور ـ الى فقيه مثل أبى حنيفة يلى القضاء ليحكم بين الناس بالعدل لتكسب الدولة مصداقية ، أى تحقق وعودها بنشر العدل بعد طغيان الظلم الأموى، ولكن لا بد لهذا الفقيه أن يكون مواليا للدولة العباسية ، أوعلى الأقل ليست له الخطورة التى كانت لأبى حنيفة الذى عارض الدولة الأموية سياسيا وخرج عليها علنا،ولو حدث وفعل نفس الشىء مع الدولة العباسية فى بدايتها فإن خطرا محققا سيحيق بالدولة الوليدة حيث يتمتع ابو حنيفة بثقة القواد العسكريين وولاء قومه الفرس.
كان شريك يمثل الفقيه المطلوب بالضبط ، فليس له طموح سياسى وليست منه خطورة، بل كان حريصا على تأكيد ولائه للدولة العباسية ليوازن بين مهمة العدل بين الناس ومهادنة النظام القائم على الظلم. أبو حنيفة كان ضد الظلم الأكبر وهو الاستبداد ، رافضا التعاون معه حتى لو أدى الى إقرار العدل بين الناس بعيدا عن السياسة ، ولكن شريك وضع نصب عينيه محاولة إقتناص بعض العدل لينصف بعض المظلومين .  
فى النهاية أثبتت نهاية شريك أنه لا مكان للعدل فى دولة الاستبداد. إذ بعد استقرار الأمور للعباسيين وبعد أن قام أبو جعفر المنصور بتوطيد الدولة وتثبيت أركانها ورث إبنه المهدى ملكا هادئا مستقرا فانصرف الى المجون ، وأصبح لجواريه نفوذ هائل ، خصوصا جاريته الخيزران ، وأصبح للجوارى ضياع وخدم وأتباع،أخذوا يستطيلون على الناس،أى إنه بحكم العادة وصل الظلم الأكبر ( الاستبداد )الى عموم الناس ، وبعد أن تحصّن الاستبداد بالقوة اللازمة لم يعد فى حاجة لأن يغطى عورته بفقهاء قضاة عدول مثل شريك ..فتم عزله .. وانتهى عصر شريك .. وجاء عصر أبى يوسف ..
لكن لكل قاعدة استثناء ..
فحتى فى عصر تحكم الاستبداد كان هناك بعض قضاة عدول خرجوا على القاعدة. لم يكونوا فى مستوى شريك ... ولكن كانوا أعلى قدرا من المستوى الوضيع لآبى يوسف ، وهو عورة القضاء فى كل عصور المسلمين .
ونتوقف مع بعضهم فى المقال القادم.   
            
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
اجمالي القراءات 7549