اجتهادات "العقلية العربية" في كارثة 11 سبتمبر

د. شاكر النابلسي في الأربعاء ٢٣ - سبتمبر - ٢٠٠٩ ١٢:٠٠ صباحاً

 

-1-
مرت في الأيام الماضية الذكرى الثامنة لكارثة 11 سبتمبر 2001. ولقد قيل في هذه الكارثة منذ ثماني سنوات حتى الآن القول الكثير والمعاد. وفي الذكرى الثامنة لهذه الكارثة أعتقد أن أهم ما يمكن أن نستذكره هو: كيف استقبلت وفسَّرت العقلية العربية هذه الكارثة?
فقبل وقوع الكارثة، كانت العقلية Mentality &l18pt">Mentality  السياسية العربية، وليس العقل  Reason- هناك فرق كبير بين العقل والعقلية. فالعقلية هي مخاطبة ما يحبه ويصفق له الجمهور، وهي تتبنى دائماً الدفاع والتبرير، ووظيفتها تهييج العواطف. وهذا ما ساد معظم التعليقات على هذه الكارثة منذ ثماني سنوات حتى الآن. أما العقل فلا يكون إلا ناقداً ومحاسباً -  مُستنفَرة ضد أمريكا استنفاراً كاملاً. وكانت معظم الفضائيات العربية، تصبُّ جام غضبها صباحاً ومساءً على أمريكا وعلى السياسة الأمريكية، وتفتح تلفونات برامجها السياسية "عبر الأقمار الاصطناعية"، و"الشكر الجزيل" على المستمعين والمعلقين، الذين يرغبون في التشهير بالسياسة الأمريكية، بعد كارثة 11 سبتمبر وقبلها. وكان معظم الصحافة العربية المقروءة، تستكتب كل من لديه حقد دفين سابق على أمريكا، وغضب كبير على سياسة أمريكا المؤيدة والمناصرة لإسرائيل، والتي لم تتغير تجاه إسرائيل منذ العام 1967. "فالواقع أن الحكومة الأمريكية هي العدو المفضل في الشرق الأوسط. وهي القوة التي لم يتمكن المثقفون العرب يوماً من حبها"، كما قال الكاتب اللبناني مايكل يونغ.
-2-
 وجاء هذا كله، أثناء الانتفاضة الفلسطينية الثانية (انتفاضة الأقصى) عام 2000 ، وفي سياق ما كان شارون رئيس وزراء إسرائيل يفعله من قتل، وهدم، وتنكيل، وطرد، ونفي للفلسطينيين في الضفة الغربية، وفي سياق المناصرة والسكوت الأمريكي على ما يفعله شارون، وحجب أي قرار دولي يُلجم شارون، ويشكمه عما يفعل ويُنكِّل بالفلسطينيين. فكان الرأي العام العربي معبأً ضد أمريكا قبل كارثة 11 سبتمبر 2001. وعندما وقعت الواقعة، قال الجانب المهيمن من العقلية السياسية العربية، أن من أوقع هذه الواقعة ليسوا عرباً، وليسوا مسلمين، وإنما هم من داخل أمريكا، أو من الفئات الغربية التي لها ثأر دفين ضد أمريكا. ونسوا شريط الإرهاب الأصولي الطويل لعشرين سنة خلت، والذي قامت به الجماعات الدينية الأصولية المتشددة، منذ أن اغتالت السادات في العام 1981 ، وحاولت اغتيال الرئيس مبارك في العام 1995، وحادثة المدمرة الأمريكية "كول" في العام 2000 في اليمن.
-3-
نذكر أنه في الأيام الأولى للواقعة، ذُهل العالم في مشرقه ومغربه، وراحت الآراء والأجوبة آنذاك تتضارب عن سؤال كبير ومثير: من فعلها، ومن أوقعها؟ خاصة وأن هذه الواقعة تتصف بدقة متناهية وتنظيم محكم، وهي من العمل "السهل الممتنع" الإرهابي. بمعنى أنك لو فكرت فيها، لوجدت أنها لا تتطلب غير الشجاعة، وقدر كبير من الجنون والهوس، وبضعة نقود لشراء تذاكر ركوب الطائرة، وبضعة نقود أخرى لشراء سكاكين عادية. وفي تقديرات بعض المراقبين، أن هذه الكارثة لم تُكلِّف أكثر من 250 ألف دولار على أبعد تقدير.
وتضاربت الآراء آنذاك حول من نفّذ هذه العملية. ففي البداية قال البعض، أن عملية منظمة كهذه أكبر بكثير من قدرة  العقل العربي المتخلف، ولا يقدر عليها إلا أبناء التكنولوجيا الرفيعة، التي يقع العرب خارج نطاقها. وأن من هو أهلٌ لهذا، هُمْ بعض الشباب الأمريكي المتمرسين بمثل هذه الأعمال.
والبعض قال لا! فاليهود هم وراء العملية، والموساد هو المدبر لها، وجاءوا بدليل أن اليهود (هيئة الموانئ النيويوركية) باعوا برجي مركز التجارة العالمي قبل سبعة أشهر من الواقعة، لشركة Vernado Reality Trust بمبلغ ثلاثة مليارات و 250 مليون دولار في حين كلَّفا هذان المبنيان في العام  1972 ، 37 مليون دولار فقط. وقال آخرون، إن اليهود العاملين في مركز التجارة العالمي تركوا مكاتبهم قبل وقت قصير من وقوع الهجمات. وأن رئيس الوزراء الإسرائيلي شارون قرر إلغاء زيارته التي كان سيقوم بها في 11 سبتمبر 2001.
ومن الكتّاب العرب، من قال أن هذا العمل ليس من عمل الإنس، ولكنه من عمل الجن والشياطين. وأن أمريكا التي تهوّل قدرات الدول، تهوّل وتضخم كذلك قدرات الأفراد العاديين، لكي تضرب من تشاء ساعة تشاء. فأمريكا عندما تريد ضرب مزرعة للدواجن، تُشيع بأنها معمل لتفريخ القنابل. فهذا العمل عمل كبير، وفي غاية التعقيد والتركيب، وفوق إمكانات وقدرات ابن لادن. وهو ربما كان من عمل وفعل الجن!
-4-
وكان ملخّص ما انتهت إليه العقلية السياسية العربية وخاصة العقلية السياسية المصرية، ممثلة بأربعة من فرسانها: مصطفى الفقي، وفهمي هويدي، ومصطفى محمود، وحسنين هيكل، الذين قالوا جميعاً ما معناه:
"إحنا مَلْناش دعوى.. هوْ إحنا قَدّ الشُغل ده؟!"
يعني أن لا علاقة لنا نحن العرب والمسلمين بهذا الموضوع، ونحن لا نستطيع أن ننفذ هجوماً بهذه الدقة المتناهية، وبهذا الحجم الضخم. وأن ما يقال في الإعلام الغربي عن علاقة العرب والمسلمين ما هي إلا "مؤامرة" ضد العرب والمسلمين، لصرف الرأي العام العالمي عما يدور في فلسطين من مجازر ومذابح، يرتكبها شارون ضد النساء، والأطفال، والشيوخ الفلسطينيين.
وردَّ على "نظرية المؤامرة" هذه محمد الرميحي الكاتب الكويتي بقوله: "إن جملة التحليلات العربية يتأرجح بين الرؤية العاطفية التي تحجب العقل من ناحية، والخضوع لنظرية [المؤامرة] من ناحية أخرى، إما للمسايرة أو للتبرير، حيث تتحول المناقشات إلى مجادلات عقيمة، لا تحرم الجمهور من التنوير والوعي فحسب، بل أكثر من ذلك إنها تشحنه في الاتجاه المضاد للعقل والمنطق والفهم العلمي للأحداث."  وتلك هي اجتهادات العقلية السياسية العربية المعتادة، في غياب العقل السياسي العربي الناقد والمحاسب.
كذلك فقد كان ردُّ العقلية السياسية العربية على هذه الكارثة التي سببها الإرهاب، هو التنصل من الإرهاب، كما قال وضّاح شرارة، في صدد رده على "تفانين" حسنين هيكل السياسية. وقال شرارة وقتها، "إن العقل السياسي العربي قال حيث لا بُدّ من الفاعل لقيام الفعل، ويقتضي المنطق (التقدير السليم) ألا يكون الفاعل هو الضحية المثخنة بالجراح، وبما أننا نحن "الضحية" المثخنة بالجراح، إذن فنحن العرب والمسلمين لم نفعلها، ولا علاقة لنا بها.
ولكن الأيام التالية للواقعة، أثبتت بما لا يدع مجالاً للشك، أن العقلية السياسية العربية كانت في وادٍ، والحقيقة كانت في وادٍ آخر. وأن العقل السياسي العربي الناقد والمحاسب كان في غيبوبة، وما زال - في ظني  - حتى الآن.
 
 
 
 
اجمالي القراءات 10103