يشهد العراق تسجيل بلاغات احتجاز لفتيات مُنعن من الدراسة والعمل والزواج، وحتى مغادرة المنزل لأشهر أو سنوات، بذريعة الوصمة الاجتماعية.
انقطعت الشابّة العراقية مريم (22 سنة) قبل أربع سنوات عن الدراسة والحياة الاجتماعية، وتقول إحدى جاراتها، التي رفضت الكشف عن هويتها، إن "مريم انقطعت عن الجامعة، بعد تداول رواية في الحي حول حديث قصير جمعها بزميل لها قرب الجامعة". وتُخبر الصديقة "العربي الجديد" أن والد مريم متشدد، ويرفض النقاش، وأنها عرفت من والدة مريم أن صديقتها تعرفت إلى شاب أوصلها إلى مكان قريب من منزلها، وبعد أن شاهدها أحدهم، أخبر والدها، فحرمها من هاتفها المحمول، وجعلها تُلازم المنزل من دون السماح لها باستكمال دراستها.
الحال نفسها تعيشها سارة (26 سنة) المقيمة في منطقة النهروان جنوب شرقي بغداد، والتي انقطعت كذلك عن الدراسة، كما أنها منذ سنوات عدة لا تخرج من المنزل إلا للضرورة، وتقتصر حياتها على خدمة والدها وإخوتها الثلاثة. وتكشف صديقة لها لـ"العربي الجديد" أن "سارة انقطعت عن التعليم الجامعي بعد وفاة والدتها، علماً أنها متفوقة في الدراسة، لكنّها أُجبرت على إعانة والدها وإخوتها. وهي لا تخرج من المنزل، وأزورها بين الحين والآخر، حتى إنّها مُنعت من الزواج خشية ترك والدها وحيداً". تتابع صديقتها: "تخبرني سارة أنّها مدمرة نفسياً، لا تريد البقاء على قيد الحياة، وهي محرومة من عيش حياتها، ومن الدراسة والعمل والزواج، أسوة بغيرها من الشابّات".
ويرى الباحث الاجتماعي أسعد كامل أن ثقافة الخوف من نظرة المجتمع في العراق لا تزال مؤثرة في القرارات الأسرية، خصوصاً في المناطق التي تمنح الحيّز الأكبر لما يُعرف بـ"السمعة". ويؤكد لـ"العربي الجديد" أن "هذا النوع من العزل يُعدّ امتداداً للعقوبات الاجتماعية التي تُفرض على الضحية بدل معالجة الإشاعات أو حماية الحقوق القانونية للفتيات"، مشيراً إلى أن "العزل الطويل يترك آثاراً نفسية ملموسة، منها القلق، وفقدان الثقة، والانعزال الاجتماعي الذي قد يستمر مع الفتاة حتى بعد زوال سبب المنع".أما الطبيب النفسي كمال الصالحي، فيقول لـ"العربي الجديد": "إنّ الاحتجاز المنزلي الممتد يؤدي الى فقدان سنوات تعليمية لا يمكن تعويضها مع تراجع شديد في المهارات الاجتماعية، ويرفع من احتمالات الاكتئاب والقلق، فضلاً عن صعوبة الاندماج في سوق العمل لاحقاً. كما أن العزل الطويل قد ينعكس مستقبلاً على فرص الزواج، والاستقلالية، والقدرة على اتّخاذ القرار".
ويناشد حقوقيون في العراق الجهات الرسمية تفعيل آليات رصد العنف الأسري، ورفع الوعي حول مخاطر الاحتجاز المنزلي القسري، وتشجيع الأسر على اعتماد الحلول القانونية والمؤسساتية بدل اللجوء إلى العزل طويل الأمد. وتؤكد المتحدثة باسم تحالف الدفاع عن حقوق المرأة في العراق، منار جبار، أن احتجاز الفتيات داخل المنازل بسبب الخوف من الشائعات أو بدافع "الحفاظ على السمعة" صار واحداً من أكثر الانتهاكات الصامتة بالعراق في السنوات الأخيرة، مؤكدةً لـ"العربي الجديد" أن "التحالف يتلقى سنوياً عدداً من الشكاوى بشأن فتيات ونساء مُنعن من التعليم أو العمل، أو حتى الخروج من المنزل لفترات طويلة".
وتوضح جبار أن هذه الحالات تتوزّع في بغداد وعدداً من المحافظات الجنوبية، وغالباً ما تُمارس بحق فتيات صغيرات في السنّ، حيث يُجبرن على ترك المدرسة أو يُعزلن داخل المنزل لسنوات، من دون أي مبرّر قانوني"، مبيّنةً أن "الخلفية الأساسية لهذه السلوكيات هي الخوف من الوصمة الاجتماعية، وغياب الوعي بالقوانين التي تضمن حرية المرأة وحقها في الحركة والتعليم والعمل".
الصورة
تحكم الأعراف والتقاليد مصير الفتيات، العراق، 9 ديسمبر 2025 (حسين فالح/ فرانس برس)
تحكم الأعراف والتقاليد مصير الفتيات، البصرة، 9 ديسمبر 2025 (حسين فالح/ فرانس برس)
وتلفت إلى أن "القانون في العراق لا يُجيز لأي شخص احتجاز امرأة بالغة داخل منزلها أو حرمانها من الدراسة والعمل، من دون مسوّغ قانوني، لكن غياب التشريعات الصريحة التي تجرّم هذا النوع من الانتهاكات، يجعل التدخل محدوداً، ويعتمد في كثير من الأحيان على جهود الشرطة المجتمعية أو وحدات مكافحة العنف الأسري".
وتؤكد جبار أن بعض العائلات ترفض التعاون مع الجهات الرسمية، وتعتبر تدخل المنظمات بمثابة "تجاوز لخصوصية الأسرة"، ما يُصعّب الوصول إلى الضحايا، داعية الحكومة العراقية إلى سنّ تشريعات تمنع الاحتجاز المنزلي وتشدد العقوبات على من يمارس هذا السلوك، مؤكدةً ضرورة تفعيل دور وحدات حماية المرأة، وتوفير خط ساخن فعّال، وتعزيز برامج التوعية داخل المدارس والمجتمع، لأن "حماية الفتاة لا تكون بعزلها، بل بتمكينها ومنحها حقوقها الأساسية كاملة".
ويكشف مصدر في الشرطة المجتمعية بوزارة الداخلية العراقية، فضّل عدم الكشف عن هويته، أن "بلاغات احتجاز الفتيات داخل المنازل أو منعهنّ من الدراسة والعمل هي حالات موجودة بالفعل، وتتعامل معها الفرق المتخصّصة بسريّة وحذر شديد، نظراً لحساسيتها الاجتماعية وطبيعتها المرتبطة بالأعراف والتقاليد". ويوضح المصدر لـ"العربي الجديد" أن "آلية التعامل تبدأ عادة بالتحقق الأولي من البلاغ عبر جمع المعلومات، ثم إجراء زيارة ميدانية قد تكون سريّة أو معلنة بحسب خطورة الحالة، حيث يتواصل فريق متخصّص بشكل مباشر مع الفتاة داخل المنزل، للتأكد من تعرّضها للمنع القسري أو العنف أو التهديد".ويبيّن المصدر أن "الشرطة المجتمعية تفتح محضراً رسمياً عند التأكد من وجود انتهاك، ويجري بعدها إشعار مركز الشرطة المعني ووحدة مكافحة العنف الأسري. وفي بعض الحالات يُرفع الملف مباشرة إلى القضاء، خصوصاً عندما يكون الاحتجاز مصحوباً بالعنف الجسدي أو التهديد. وفي حالات أخرى، تُفضّل الشرطة المعالجة الهادئة من خلال التفاوض مع الأسرة وإجراء تسوية تضمن عدم تقييد حركة الفتاة مستقبلاً. أما إذا كانت حياتها أو صحتها النفسية في خطر، فتُنقل إلى مراكز الإيواء التابعة لوزارة العمل والشؤون الاجتماعية".
ويؤكد المصدر أن "السنوات الأخيرة شهدت تسجيل بلاغات لفتيات منعتهنّ عائلاتهنّ من مغادرة المنزل لفترات تمتد من أشهر عدة وحتى سنوات طويلة، بعضها مسجّل في بغداد ومحافظات جنوبية. هذه القضايا تُعد من أصعب الملفات التي تتعامل معها الشرطة المجتمعية، لأن الكثير من الفتيات لا يستطعن الإبلاغ بأنفسهنّ، كما أن بعض العائلات تعتبر المنع شأناً أسرياً لا يحق لأي جهة التدخل فيه، الأمر الذي يجعل اكتشاف الحالات يعتمد على ما يلاحظه الجيران أو المدارس أو الأقارب".