مصر تبدأ إجراءات تقشف قاسية بسبب الديون

في الجمعة ١٤ - نوفمبر - ٢٠٢٥ ١٢:٠٠ صباحاً

بدأت الحكومة المصرية إجراءات تقشف مالي شديدة الوطأة، تستهدف خفض الدين العام، وسط مخاوف من ضغطها على معدل النمو الصناعي والاستثماري، إذ جرى رفع أسعار الطاقة والنقل والخدمات العامة، مع الحد من الضمانات الحكومية للمشروعات الكبرى التي تشمل البنية التحتية، والتعليم، والصحة، والنقل، وهي القطاعات الأكثر ارتباطاً بالنمو وفرص العمل.
وأصدرت وزارة المالية توجيهات بعدم إصدار أي ضمانة سيادية جديدة، عدا المشروعات ذات الجدوى والعائد النقدي العالي، وتعليمات بتجميد الأصول الجديدة أو المعدات المستوردة ما لم تكن ممولة ذاتياً أو من خلال شراكة مع القطاعين الخاص والأجنبي، بنظام البناء والتملك والتحويل للملكية العامة (BOT)، أو الشراكة بملكية الأرض دون المشروعات (PPP)، مع تحويل بعض الأصول التشغيلية إلى صناديق سيادية، لتمويلها خارج الموازنة العامة، من دون زيادة الدين العام أو تحميل الخزانة العامة ضمانات للقروض الأجنبية.

تعميم سياسات التقشف
تستهدف التوجيهات تعميم سياسات التقشف المالي، التي تشمل خفض الإنفاق العام، وضبط الاستثمارات والشراء، والتوسع الرأسمالي في الشركات المملوكة للدولة، بخاصة التي تعاني من مديونية مرتفعة أو ضعف في العائد التشغيلي، لتقليل انكشافها المالي في المشروعات المتفق على تنفيذها مع الشركاء المحليين والأجانب.
وتمثل التعليمات تحولاً نوعياً في نهج الحكومة لإدارة المالية العامة، والتي اضطرت إليها في ردة فعل مباشرة لارتفاع مخاطر الدين وتكاليف الفائدة.
قالت مصادر حكومية رفيعة لـ"العربي الجديد" إن التعليمات الجديدة جاءت بطلب من صندوق النقد الدولي، الذي ستصل بعثته نهاية الأسبوع إلى القاهرة، وتضم نخبة من خبراء المراجعة الخامسة والسادسة من برنامج الإصلاح الاقتصادي الموقع عام 2022، والذي جرى تعديله في مارس/آذار 2024، لوضع "خطة دين واضحة ومحددة الأهداف"، وإصدار استراتيجية خاصة بها قبل نهاية ديسمبر/كانون الأول المقبل 2025.تشمل الخطة وضع خريطة زمنية لخفض الدين العام تساعد مصر في الحصول على دفعة جديدة من التمويل تُقدّر بنحو 1.7 مليار دولار، وتسهيلات موسّعة من الصندوق بقرض استدامة قيمته 1.3 مليار دولار، بالتوازي مع قروض إنمائية لمشروعات التعليم والصحة والطاقة النظيفة من البنك الدولي.
يشدد صندوق النقد على تنفيذ سياسة "الانضباط المالي" بوقف منح أي ضمانات سيادية جديدة للقطاع الخاص، وخفض الإنفاق الاستثماري الحكومي الممول بالدين الخارجي.
وأكدت مصادر اقتصادية أن القيود التي أصدرتها وزارة المالية للجهات الحكومية عن التوسع في الإنفاق الاستثماري المباشر، ومساهمة الدولة في التشغيل والصيانة خلال العام المالي الجاري 2025/2026، ستؤدي إلى التقشف المالي حتى نهاية عام 2026، بعد أن ألغت الوزارة أي ضمانات جديدة لمشروعات النقل التجاري، وقصرتها على تلك التي تمولها مؤسسات دولية متعددة الأطراف، مثل البنك الدولي، وبنك الاستثمار الأوروبي، والبنك الأوروبي لإعادة الإعمار والتنمية.
وأوضحت لـ"العربي الجديد" أن البنك الدولي فرض اشتراطات صارمة على ضمان الحكومة للعوائد التشغيلية للمشروعات التي يُجرى إقامتها، وهيكلة التعرفة ورسوم النقل لضمان استدامة المشروعات التي يساهم في تمويلها مالياً دون دعم من الموازنة العامة للدولة.

هشاشة الاقتصاد
وعلق خبير التمويل والاستثمار، وائل النحاس، على تلك الخطوات قائلاً إن إجراءات التقشف تُبيّن هشاشة الاقتصاد الذي تدفعه الحكومة إلى دائرة جهنمية للديون الدوارة التي ترتفع قيمتها عن 162 مليار دولار، مع زيادة معدلات الدين المحلي وتراكم تكاليفه، التي تصنع منه فقاعة تهدد بالانفجار كلما شحت العملة الصعبة، وتوترت الأجواء الجيوسياسية في المنطقة، أو أي بقعة مؤثرة دولياً.
وأوضح أن الحكومة، بالرغم من إعلانها تحسّن الاحتياطي النقدي من العملات الصعبة بتجاوزه 50 مليار دولار منذ يومين، فإن تلك الأموال لا تعكس تحولاً حقيقياً في إدارة النقد الأجنبي، حيث صعد الاحتياطي متأثراً بزيادة قيمة الاحتياطي من الذهب، بينما لا تملك الدولة من أصولها النقدية إلا 11.2 مليار دولار، ولديها صافي أصول أجنبية في البنوك في حدود 9 مليارات دولار، بينما باقي الاحتياطي النقدي عبارة عن ودائع دولارية لدول خليجية ومؤسسات دولية.

وأشار خبير التمويل والاستثمار إلى اعتماد الحكومة على تمويل شراء مستلزماتها من الأغذية والسلع الأساسية اليومية من الأموال الساخنة التي تبلغ 42 مليار دولار حالياً، والتي تتدفق على البلاد مستغلة حرص البنك المركزي والحكومة على خفض قيمة الجنيه، وارتفاع معدل الفائدة على أدوات الدين المحلية، والتي تظل مهددة للدولة إذا ما اندفعت تلك الأموال الساخنة فجأة إلى الأسواق الدولية الأكثر ربحية وأمناً، مثلما وقع عام 2022، عندما اندلعت الحرب الروسية الأوكرانية، وأدت إلى هروب نحو 22 مليار دولار خلال أسابيع من السوق المصرية.وبيّن النحاس أن التقشف يعكس تخطي الحكومة قدرتها على الاقتراض الخارجي، وتوسعها الكبير في طبع العملة المحلية التي فاقت 2.4 تريليون جنيه خلال العام الجاري، لسداد ديون محلية فاقت 8 تريليونات جنيه، وأنها أصبحت غير قادرة على التمويل أو الإنفاق على التشغيل للمشروعات الحكومية، ودفع أجور كثير من العاملين بالدولة خلال نصف العام المالي الحالي، الأمر الذي سيدفعها إلى طلب دفع تلك المستحقات من الباب الرابع بالموازنة العامة المخصص للإنفاق على الاستثمارات، بما يعني تآكل المخصصات اللازمة لدفع التنمية والنمو الاقتصادي لحساب التشغيل ودفع الأجور، المفترض مواجهتها من الباب الأول للموازنة العامة.
وأكد النحاس أن تلك الإجراءات ستدفع الحكومة إلى مزيد من الطلب على القروض المحلية والدولية لضمان سداد ديونها، الأمر الذي يزيد حجم فقاعة الديون، ويزيد هشاشة الاقتصاد، بما يتبعه ذلك من ضغوط على العملة المحلية، وتراجع القوة الشرائية للمواطنين، وعدم توافر الاستثمارات اللازمة لتدبير فرص عمل جديدة أمام ملايين العاطلين في الدولة.

ارتفاع تكلفة الدين
وأشار نائب رئيس الوزراء الأسبق، زياد بهاء الدين، لـ"العربي الجديد" إلى أنه رغم تحسّن الاحتياطي النقدي وارتفاع الإيرادات الدولارية من عوائد تحويلات المصريين العاملين بالخارج، والارتفاع النسبي للنشاط السياحي والتصدير، والإيرادات الدولارية الناتجة عن بيع أصول وصفقات استثمارية مثل مدينة رأس الحكمة وصفقات محطات الطاقة المتجددة لشركات خليجية، فإن تكلفة الدين ارتفعت لتمثل 55% من إجمالي الإنفاق الحكومي.

ويعوّل بهاء الدين على طرح الحكومة رؤية جديدة خارج اتفاقها مع صندوق النقد، تُوقف تصاعد الديون، وتضمن إجراء إصلاحات هيكلية في الاقتصاد، تخرجه من أزمته الخانقة، قبل فض العلاقة الوطيدة مع صندوق النقد بحلول عام 2027.
وقصرت وزارة المالية التمويل الحكومي المباشر على المشروعات ذات العائد السريع والاستراتيجي، مثل محطات الكهرباء والطاقة والموانئ، وقصر تمويل شراء المعدات والطائرات، أو التوسع في الشركات الصناعية الجديدة على القطاع الخاص، أو من خلال أدوات مالية جديدة، منها سندات الاستدامة، أو الشراكات مع القطاع الخاص، أو التمويلات الميسّرة من مؤسسات التمويل الحكومية.

وأشارت مصادر حكومية لـ"العربي الجديد" إلى أن الحكومة المصرية جمّدت مفاوضات مع شركتي "إيرباص" الأوروبية و"بوينغ" الأميركية، بدأتها مطلع العام الجاري، لشراء 14 طائرة لخطوط الطيران متوسطة وطويلة المدى، لتحديث أسطولها الجوي خلال عامي 2025 و2026.
وطلبت وزارة المالية والبنك المركزي من الحكومة قصر الشراء على الطلبيات الضرورية لتسيير الرحلات بعيدة المدى، بعد ثبوت تهالك الطائرات التي تربط بين مصر والصين واليابان والولايات المتحدة، وشددا على تعويض نقص سعة الطائرات، عبر إنشاء تحالفات تشغيلية، واللجوء إلى الإيجار التشغيلي (Operation Lease) بدلاً من الشراء المباشر لتقليل الطلب على الدولار والالتزامات الدولارية المضمونة من الدولة.
وأكدت المصادر أن الحكومة أجّلت صرف الدفعات المتبقية المستحقة من التمويل بالدولار لمشروع تطوير شركات الغزل والنسيج التي تقيمها شركات أوروبية وصينية خاصة بمدينة المحلة الكبرى، والتي بدأ تنفيذها منذ عامي 2022 و2023، بتكلفة إجمالية 20 مليار جنيه، وشددت وزارة المالية على وزارة قطاع الأعمال المالكة للمشروعات على تثبيت أوضاع الشركات كما هي حالياً، إلى حين إعادة الهيكلة المالية والإدارية للمشروعات، وتدبير النقد الأجنبي اللازم لسداد مستحقات الموردين الأجانب.
وأوقفت الحكومة شراء حافلات تعمل بالكهرباء بمدينة الإسكندرية على البحر المتوسط، بسبب نقص التمويل الدولاري، مع الاتجاه إلى تحويل المشروع إلى شراكة بين الشركة القابضة للنقل البري ومجموعة "السويدي".
وتعرّض مشروع القطار السريع الممتد على مسافة 2000 كيلومتر بين ميناء العين السخنة على ساحل البحر الأحمر والعلمين بالساحل الشمالي ومدينة أسوان جنوب البلاد لضغوط مالية، إثر توقف الحكومة عن تقديم ضمانات جديدة لتحالف شركة "سيمنز" وشركات محلية في إنشاء خطوط المسارات الجديدة للقطار المتجه إلى جنوب مصر، ما جعل الحكومة تتجه إلى توظيف القروض التي حصلت عليها من البنوك الألمانية والفرنسية لإتمام المرحلة الأولى من المشروع، التي قبلت تنفيذها بضمان الخزانة العامة كجزء من شراكة سياسية مع برلين.