كشفت الشبكة المصرية لحقوق الإنسان في تقرير جديد عن حالة من الجمود القضائي الكامل داخل غرفة المشورة بمحكمة جنايات القاهرة التي لم تُصدر أي قرار بإخلاء سبيل محتجز واحد منذ أكثر من 850 يوماً، في ما وصفته منظمات حقوقية بأنه "انهيار فعلي لمبدأ العدالة في قاعات المحاكم بمصر".
وقال التقرير الصادر تحت عنوان "لم يُخلَ سبيل أحد"، إن هذا الامتناع المستمر عن إصدار قرارات بالإفراج عن المحبوسين احتياطياً جعل مصير الآلاف منهم "رهينة بيد الأجهزة الأمنية"، وعلى رأسها قطاع الأمن الوطني، الذي كان في الأساس الجهة المنفذة لمعظم أوامر القبض. وترى الشبكة أن هذا الوضع يعكس "موتاً فعلياً للقانون" وغياب أي دور فعّال للقضاء في الرقابة على قرارات الحبس.
واستشهد التقرير، بتصريح أدلى به الوزير السابق والمحامي كمال أبو عيطة عن واقع جلسات تجديد الحبس بكلمات لخصت المأساة: "ما تحرجوناش… ما أنتم عارفين، الموضوع مش عندنا"، مشيراً إلى أن حضور المحامين والمتهمين لجلسات التجديد أصبح إجراءً شكلياً، قائلاً: "إحنا بنحضر زي ما بنخش، زي ما بنطلع".
واستعرض التقرير الإطار القانوني المنظم لعمل غرفة المشورة بمحكمة الجنايات، موضحاً أن القانون المصري منحها صلاحية النظر في استئناف أوامر قاضي التحقيق، بما في ذلك قرارات الحبس الاحتياطي أو الإفراج، إضافة إلى صلاحية تجديد الحبس بعد تجاوز المدد المقررة قانوناً، وفقاً للمادة 166 من قانون الإجراءات الجنائية. وبحسب التشريعات، يملك القضاة سلطة تقديرية كاملة لإصدار قرارات بالإفراج متى توافرت مبرراته القانونية أو الإنسانية، بينما يحق لنيابة أمن الدولة العليا الاعتراض على تلك القرارات أو استئنافها خلال المدة المحددة.لكن التقرير أشار إلى أن ما يجري في الواقع يناقض تماماً هذه القواعد. فخلال السنوات الثلاث الأخيرة، لم تُسجل أي دائرة من دوائر غرفة المشورة قراراً واحداً بإخلاء سبيل محتجز سياسي رغم طول فترات الحبس وتعدد القضايا، وهو ما اعتبرته الشبكة "انحرافاً خطيراً في عمل السلطة القضائية وتنازلًا عملياً عن استقلالها". وتساءلت الشبكة: "أيعقل أنه خلال 850 يوماً لم يوجد شخص واحد استحق الإفراج؟ أم أن جهة سيادية تبسط نفوذها وتفرض إرادتها على القضاة، فتجبرهم على الامتناع عن ممارسة صلاحياتهم القانونية؟".
ومن خلال رصدها الدوري لجلسات غرفة المشورة المنعقدة في مجمع محاكم بدر، وثّقت الشبكة أن آخر قرار موثق بإخلاء سبيل معتقل سياسي صدر في 15 يوليو/تموز 2023، حين أفرجت المحكمة عن خالد سعيد عبد الحفيظ ومحمود علي محمد قطب، على ذمة القضية رقم 95 لسنة 2023 حصر أمن دولة عليا. أما قبل ذلك، فيعود آخر قرار مشابه إلى يوليو/تموز 2022، ما يعني أن المحكمة لم تُصدر أي قرارات مماثلة على مدار أكثر من عام كامل بين التاريخين، وصولًا إلى مرور 850 يوماً دون أي قرار إفراج واحد.
ونقل التقرير عن عدد من المحامين الذين يتابعون جلسات تجديد الحبس دورياً، قولهم إنهم لم يشهدوا صدور قرار واحد بالإفراج عن معتقل سياسي خلال العامين الماضيين. ورغم ما يظهر أحياناً من تعاطف بعض القضاة مع الحالات المعروضة، فإن القرارات تأتي دائماً بتمديد الحبس الاحتياطي لمدة 45 يوماً جديدة. وأشار المحامون إلى أن العبارات التي تتكرر على ألسنة بعض القضاة، مثل "معلش، مش بإيدينا"، أصبحت تعبيراً مختصراً عن غياب السلطة القضائية الحقيقية في تلك الجلسات.وقال أحد المحامين في شهادته للشبكة: "نحضر الجلسات ونحن نتمسك بالأمل فقط، رغم أننا ندرك أن القرارات محسومة مسبقاً. لكن واجبنا يحتم علينا الحضور والدفاع عن موكلينا والتمسك بحقهم في الحرية". وطرحت الشبكة المصرية لحقوق الإنسان، في تقريرها سلسلة من التساؤلات التي تصفها بـ"الجوهرية" حول مصير العدالة في مصر: "كيف يُعقل ألا يُفرج عن أي محتجز خلال 850 يوماً كاملة؟ ألا يوجد بين آلاف المعتقلين من تجاوز الحد الأقصى للحبس الاحتياطي المنصوص عليه في المادة 143 من قانون الإجراءات الجنائية، والذي لا يجوز أن يتعدى عامين؟ ألا يوجد من بين المحتجزين من يعاني أمراضاً مزمنة أو من كبار السن الذين يفترض الإفراج عنهم لأسباب إنسانية؟ وهل يُعقل أن كل هؤلاء لا تتوافر بحقهم مبررات قانونية للإفراج، ولو لواحد منهم فقط؟".
ورأت الشبكة، أن الإجابة الضمنية عن هذه الأسئلة تعكس "تغول الأجهزة الأمنية على القضاء"، بحيث باتت قرارات الحبس والتجديد خاضعة لإرادة غير قضائية، ما يقوض مبدأ استقلال القضاء المنصوص عليه في الدستور المصري ويهز الثقة العامة في العدالة.
وأشار التقرير إلى أن استمرار هذا الوضع لا يمس فقط استقلال القضاء، بل يهدد فكرة العدالة ذاتها، إذ أصبح الحبس الاحتياطي في كثير من القضايا "عقوبة غير معلنة" تُستخدم لإسكات المعارضين أو تكميم الأصوات المستقلة. وأكدت الشبكة أن هذا النمط من الجمود "يفرغ القانون من مضمونه ويجعل القضاء شريكاً صامتاً بانتهاك الحق في الحرية".
واختتمت الشبكة، تقريرها بدعوة عاجلة إلى مراجعة أوضاع جميع المحتجزين احتياطياً على خلفيات سياسية، وتفعيل رقابة النيابة العامة على قرارات الحبس والتجديد، وتطبيق أحكام الدستور بما يضمن حق كل إنسان في الحرية والمحاكمة العادلة. كما طالبت السلطات القضائية بـ"استعادة دورها الطبيعي حائطَ صد ضد تغول السلطة التنفيذية"، محذّرة من أن استمرار هذا الجمود يمثل خطراً على ما تبقى من الثقة في منظومة العدالة المصرية.