موظفو تونس ينزلقون إلى الفقر... الطبقة الوسطى تتآكل

في الأربعاء ٢٧ - أغسطس - ٢٠٢٥ ١٢:٠٠ صباحاً

تعيد الأزمة الاقتصادية في تونس تشكيل الطبقات الاجتماعية ببروز طبقة الفقراء، بعد أن رسمت السياسات العامة في البلاد على مدى عقود نموذجاً اجتماعياً قائماً على توزان اجتماعي كانت الطبقة الوسطى عموده الفقري.

ومنذ استقلال تونس قبل أكثر من ستة عقود عملت الدولة على بناء نموذج مجتمعي يقوم على الارتقاء الاجتماعي بشكل يسهل وصول الطبقات الفقيرة إلى مستوى الطبقة الوسطى التي تشكّلت من الموظفين وصغار التجار والحرفيين، قبل أن تتدحرج هذه الطبقة خلال العشرية الأخيرة نحو خانة الفقر، وتخلق نموذجاً جديداً للطبقة المتوسطة الفقيرة.

وتظهر أغلب المؤشرات الاقتصادية والدراسات أن الطبقة الوسطى في تونس التي مثلت سابقاً نحو 60% من الشعب أصبحت طبقة متأرجحة تميل نحو الفقر بفعل الغلاء وارتفاع كلفة الحياة، مقابل استمرار ضعف المداخيل وتراجع الخدمات العامة التي كانت تستفيد منها بشكل شبه مجاني، ما جعلها تتآكل وتصل إلى نحو 30% حسب أحدث الإحصائيات.

معاناة الطبقة الوسطى
وفي هذا السياق، يقول الباحث لدى المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية، عبد الجليل البدوي، إن ما تبقى من طبقة وسطى، أصبح يعاني من التداين وتكاليفه المجحفة، من أجل الحفاظ على الموقع الاجتماعي نفسه.

وأشار البدوي في تصريح لـ"العربي الجديد" إلى أن أغلب المنتمين للطبقة الوسطى يعانون من ضعف الدخل الثابت بسبب غياب القدرة أو الإرادة على تعديله. وأضاف: "نظرياً، لا تزال الطبقة الوسطى موجودة في تونس، لكن معظم المنتمين إليها هم فقراء يكابدون من أجل توفير أساسيات الحياة، يحقق جزء منهم ذلك عبر التداين".واعتبر البدوي أن هرم الطبقة الوسطى في تونس يتسم حالياً بتوسع الطبقة السفلى منه التي يتكدس فيها الموظفون وصغار التجار والحرفيين، لافتاً إلى أن طبقة أسفل الهرم هي أقرب إلى الفقر على المدى المتوسط. وتحدث البدوي عن تغيرات جذرية في تركيبة هرم الطبقة الوسطى في تونس، نتيجة تراجع الخدمات العام، على غرار الصحة والتعليم والنقل، ما يجبر المواطنين على الخضوع لقانون السوق الريعية التي يتحكم فيها رأس المال. وأشار إلى أن ارتفاع الحسابات المدينة لهذه الطبقة يقيم الدليل على تورطها في تداين مفرط ومستدام من أجل مجابهة مصاريف الحياة اليومية مقابل تراجع قدرتها على الادخار.

وتكشف بيانات البنك المركزي التونسي عن تسجيل ارتفاع مهم للحسابات المدينة (وهي الحسابات التي تسمح لأصحابها بالسحب بمبلغ يزيد عن المبالغ المودعة) بنسبة 11% في عام 2023 مقابل زيادة بنسبة 8% في عام 2022. ويرى البدوي أن تقليص النفقات العمومية ذات الإنتاجية المؤجلة المتسببة في تراجع أهم الخدمات الاجتماعية وفي تدهور جودتها فاقم كلفة نفقات الطبقة الوسطى التي أصبحت تلجأ إلى القطاع الخاص لتعويض خدمات التعليم والصحة والنقل لمواجهة الانهيار الكمي والنوعي للخدمات الاجتماعية العمومية. وتابع: "شهدت السنوات الأخيرة تراجعاً على مستوى دعم المواد الأساسية بنسق ضعيف، لكن تأثيره كان قوياً نسبياً على الطبقات الوسطى، نظراً لأن نسبة الدعم في النفقات الغذائية لدى أصحاب المداخيل الضعيفة والمتوسطة مرتفعة وتفوق 20%".

وخلُصت دراسة أعدّها المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية عام 2024 إلى تراجع الطبقة الوسطى في تونس، بصفة ملحوظة منذ 2011، في ظل ضعف كبير ومتواصل لنسبة النمو الاقتصادي واكتساح المنطق السلعي لكل مجالات الحياة والأزمة المستمرة للمالية العمومية وضغوط التضخم المالي المستمر في مستويات عالية.

وحسب دراسة المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية كانت الطبقة الوسطى تمثل قبل الثورة التونسية 2011 حوالي 60% من المجتمع، وتراجعت منذ ذلك الوقت حتى أصبحت تمثل حوالي 30%، نسبة ضئيلة منها التحقت بشريحة الأغنياء التي تعززت صفوفها بتجار الاقتصاد الموازي الذي عرف انتعاشة مشهودة، في ظل انهيار الدولة وانتشار الفساد، والنسبة الأخرى الأكبر من الطبقة المتوسطة التحقت بصفوف الشرائح السفلى الضعيفة والمعوزة.

انهيار القدرة الشرائية
يرى عضو الغرفة الوطنية للمطورين العقاريين جلال المزيو، إن عدم قدرة التونسيين على الولوج إلى حق السكن من أكبر الدلائل على انهيار القدرة الشرائية للطبقة الوسطى التي كانت المحرك الأساسي لقطاع العقارات خلال السنوات الماضية.وقال المزيو إن هوة واسعة تكوّنت بين معدلات أجور الطبقة الوسطى وأسعار العقارات التي تضاعفت بفعل الغلاء وارتفاع كلفة البناء على مستوى عالمي. وأضاف في تصريح لـ"العربي الجديد": "كان الولوج إلى حق السكن مقياساً لاستقرار الطبقة الوسطى، نظراً لأهميتها في البناء المجتمعي التونسي". وأشار إلى أن معدلات دخل الطبقة الوسطى لا تؤهل أصحابها للحصول على قروض لتمويل شراء السكن، حيث أصبحت بالكاد كافية للنفقات الأساسية، وأهمها الغذاء والتنقل والإيجار.

وكشفت بيانات رسمية لمعهد الإحصاء الحكومي أن معدل الرواتب الشهرية لنحو 670 ألف تونسي يعملون في القطاع الحكومي لا يتجاوز 1387 ديناراً ما يعادل 450 دولاراً شهرياً ينفقون 40% منها للأكل والتنقل. وأبرزت الدراسة الصادرة عن معهد الإحصاء أن حجم الزيادات في الرواتب التي حصل عليها الموظفون خلال الفترة الممتدة ما بين 2015 و2022 تقدر بقيمة 471 ديناراً أي نحو 150 دولاراً. لكنّ الزيادات في أجور الموظفين خلال السنوات السبع الماضية، لم تؤد إلى تحسين وضعهم المعيشي نتيجة الضغوط التضخمية التي عانت منها البلاد، والارتفاع المتواصل لأسعار الغذاء والخدمات، ما يدفع شريحة من الموظفين الذين يشكلون الطبقة المتوسطة إلى البحث عن مصادر دخل إضافية خارج فترات الدوام الإداري.

يذكر أن معدل البطالة في تونس سجّل تراجعًا رسميا ليصل إلى 15.7% خلال الربع الأول من عام 2025، مقابل 16% في الفترة ذاتها من عام 2024، وفق ما كشف عنه المعهد الوطني للإحصاء الحكومي. وأوضح المعهد أن عدد العاطلين من العمل بلغ خلال الأشهر الثلاثة الأولى من العام الجاري نحو 664.5 ألف شخص، مسجّلًا انخفاضًا بنحو 2.7 ألف مقارنة بالربع الثالث من السنة الماضية. ووفق المعطيات، سجّل تراجع في نسب البطالة بين خريجي الجامعات إلى 23.5%، مقابل 25% في الربع الثالث من 2024، فيما بقيت نسبة البطالة بين الإناث من حاملي الشهادات الجامعية مرتفعة عند 30.7%، مقارنة بـ13.6% فقط لدى الذكور.