شككت تقارير للمجتمع المدني بمصر في جدية إعلان الحكومة عن تحقيق فائض أولي في موازنة العام المالي الماضي، واعتبرته "أشبه بالتدليس"، لأن الإعلان لم يأت على حساب مدفوعات الديون وفوائدها، أي أن الصورة الحقيقية للفائض تجاهلت الديون، التي تستحوذ أقساطها وفوائدها على ما يقرب من ثلثي النفقات الحكومية الإجمالية لتصل مدفوعات الفوائد وحدها في العام المذكور إلى ما يقرب من ثلاثة أمثال "الفائض" الذي تحتفي الحكومة بتحقيقه.
واحتفت الحكومة المصرية يوم 17 أغسطس/آب الجاري بأدائها في العام المالي الماضي 2024/2025، وبتحقيق "أعلى فائض أولي" بلغت قيمته نحو 629 مليار جنيه (قرابة 13 مليار دولار) حسب البيانات التي أعلنها وزير المالية أحمد كجوك خلال لقائه برئيس الجمهورية عبد الفتاح السيسي ورئيس الوزراء مصطفى مدبولي.
لكن "المبادرة المصرية للحقوق الشخصية" أوضحت، في تقرير نشرته، أن الصورة الحقيقية للفائض تجاهلت الديون، التي تستحوذ أقساطها وفوائدها على ما يقرب من ثلثي النفقات الحكومية الإجمالية، بل وتصل مدفوعات الفوائد وحدها في العام المذكور إلى ما يقرب من ثلاثة أمثال "الفائض" الذي تحتفي الحكومة بتحقيقه، إذ قصدت الحكومة بـ"الفائض" الفرق بين الإيرادات والمصروفات بعد استبعاد أقساط وفوائد الديون. وأوضحت أن قيمة هذا "الفائض" الذي يُخرج الديون من حساباته بالدولار حسب سعر الصرف الحالي يعادل 13 مليار دولار، وهي لا تكفي لسداد التزامات الديون الخارجية المستحقة على مصر خلال النصف الأول فقط من 2025.وكشفت بيانات البنك المركزي المصري، في تقديراته لخدمة الدين الخارجي (الفوائد + أصل القرض) التي ستدفعها مصر في عام 2026، يوم 18 أغسطس الجاري، أنها ارتفعت إلى 27.87 مليار دولار، أي بزيادة قدرها نحو 1.9 مليار دولار عن تقديراته السابقة البالغة 25.97 مليار دولار، وهو ما يعني أن فائض الموازنة المعلن غير حقيقي، وأن إضافة الديون إلى الموازنة "تعني تراجع الفائض الفعلي لا زيادته".
وعدل البنك أيضا تقديراته لأقساط القروض المستحقة خلال العام إلى نحو 22.72 مليار دولار، صعودا من 21.1 مليار دولار سابقا. وفي الوقت نفسه، رفع تقديراته لمدفوعات الفوائد للعام المقبل إلى نحو 5.15 مليارات دولار، من 4.87 مليارات دولار في تقديرات سابقة.
وخلال موازنة العام الماضي، استحوذ بند فوائد الاقتراض وحده على 47% من المصروفات العامة بالموازنة، التي لا تشمل أقساط الديون، فيما لم يخصص مشروع الموازنة للسنة الماضية إلا أقل من نصف الاستحقاق الدستوري لقطاعي الصحة والتعليم بنسبة 1.16%، و1.7% من الناتج المحلي الإجمالي على الترتيب.
سوق للخضروات في القاهرة، حيث يعاني الشارع من ارتفاع معدلات التضخم (فاضل داود/Getty)
اقتصاد عربي
"ترقيع أرقويوم 17 أغسطس الجاري، ولأول مرة، أعلنت الحكومة أن موازنة مصر سجلت فائضا أوليا بـ629 مليار جنيه، أي 3.6% من الناتج المحلي الإجمالي في العام المالي 2024-2025، بزيادة قدرها 80% على أساس سنوي، وفق ما أعلنه وزير المالية أحمد كجوك خلال اجتماع عقده مع الرئيس عبد الفتاح السيسي وبحضور رئيس مجلس الوزراء مصطفى مدبولي لمناقشة المؤشرات المالية الأولية للعام المالي الماضي.
وأكد بيان مجلس الوزراء أن الموازنة حققت فائضا أوليا "رغم تعرض الموازنة لصدمات خارجية مؤثرة، أبرزها الانخفاض الحاد في إيرادات قناة السويس بنسبة 60% عن المستهدف، ما تسبب في خسائر تُقدّر بنحو 145 مليار جنيه"، وفق ما قاله "كجوك". ونمت الإيرادات الضريبية أيضا بأسرع وتيرة لها منذ سنوات، إذ ارتفعت بنسبة 35.3% على أساس سنوي لتصل إلى 2.2 تريليون جنيه، وهو ما عزاه كجوك إلى الإجراءات الضريبية التي جرى إدخالها لتوسيع القاعدة الضريبية وإنشاء نظام ضريبي أكثر كفاءة.
وارتفع إجمالي الإيرادات بنسبة 29% على أساس سنوي خلال العام المالي، بينما زادت المصروفات الأولية بوتيرة أبطأ بلغت 16.3% على أساس سنوي. وتتوقع الحكومة أن يحقق اقتصاد مصر نموا في العام المالي 2024-2025 يتجاوز مستهدفها البالغ 4.0%، مع انتعاش الاستثمار الخاص ونشاط الصناعات التحويلية غير النفطية، وهو ما علقت عليه "المبادرة المصرية للحقوق الشخصية" بالقول إن الصورة الحقيقية للأداء الاقتصادي للموازنة العامة خلال العام المالي الماضي لا يمكن أن تكتمل دون حساب "بند الديون"، التي تستحوذ أقساطها على ما يقرب من ثلثي النفقات الحكومية الإجمالية، فضلًا عن وصول مدفوعات فوائد الديون خلال العام المالي نفسه إلى قرابة ثلاثة أمثال الفائض الذي أعلنته الحكومة.
نصيب الفرد من فوائد الديون
وكان تقرير سابق لـ"المبادرة المصرية" في 11 أغسطس الجاري وصف موازنة 2024-2025، في ورقة تحليلية، بأنها "موازنة فوائد الديون"، مشيرا بسخرية إلى أن "التقشف لنا (للمصريين) والأرباح للدائنين".وقدمت الورقة تحليلا لموازنة العام المالي الجاري، التي بدأ العمل بها في مطلع يوليو/تموز 2025، موضحه كيف أدى التوسع في الاستدانة على مدار عدة سنوات إلى نزح موارد الميزانية وتحويلها بعيدا عن خدمة المواطنين. وقالت: "تزامنت فترة إقرار الموازنة وبداية العمل بها مع سلسلة من القرارات الحكومية التي تنتهك الحقوق الأساسية للمواطنين في الغذاء والدواء والطاقة والحصول على الخدمات الطبية، بداية من قرارات رفع سعر الخبز المدعم وزيادة أسعار الدواء وخصخصة الخدمات الصحية في المستشفيات الحكومية، وزيادة أسعار تذاكر القطارات والمترو، وحتى رفع أسعار الوقود بكل ما يترتب عليها من آثار تضخمية تؤدي للمزيد من الارتفاع في أسعار السلع والخدمات".
وأكدت الورقة التحليلية للموازنة أن "تلك الإجراءات التقشفية تُحكِم قبضتها على معيشة المواطنين بعد بضعة أشهر من تخفيض قيمة العملة الوطنية، والمرشح للتكرار بناء على اتفاقات مصر مع صندوق النقد الدولي". وأشارت إلى أنه، رغم تأكيد وزير المالية الجديد، في أول مؤتمر صحافي له بعد توليه المنصب، أن الحكومة تتبنى برنامجا لخفض فاتورة خدمة الدين الحكومي، فإن الملمح الأساسي لميزانية العام المالي الجديد هو أن الديون والتزامات سدادها وفوائدها تبتلع جزءا كبيرا من أوجه الإنفاق التي تخطط لها الحكومة. كما أن الطريقة الأساسية التي تعتمد عليها الدولة في الحصول على موارد جديدة لتغطي الفجوة بين الإيرادات والنفقات هي الحصول على قروض جديدة، ما يرشح هذا الوضع للاستمرار ويدفعه إلى التدهور مع تراكم مدفوعات خدمة الديون، ما يعني أن سياسات مصر الاقتصادية ستظل حبيسة تلك الحلقة المفرغة التي تحكمها خدمة الدين لعدد غير معلوم من السنوات في المستقبل.
وتُظهر بيانات الموازنة أن مخصصات الإنفاق على معظم بنود المصروفات ارتفعت بنسب تدور حول 20%، ما عدا مدفوعات فوائد الديون التي زادت بنسبة 63%، والاستثمارات الحكومية التي تراجع الإنفاق عليها بنحو 15%. وأوضحت الورقة التحليلية أن أخذ مؤشر تضخم أسعار المستهلكين في الاعتبار لحساب القيمة الحقيقية للنفقات يبيّن أن الإنفاق على كل بنود الموازنة قد تراجع من حيث القيمة الحقيقية، وأن البند الوحيد الذي شهد نموا في الإنفاق الحقيقي كان بند فوائد الديون الذي ارتفع بنسبة 21%. كما أوضحت سيطرة الديون وفوائدها على كل جوانب الموازنة، حيث تستحوذ فوائد الديون المحلية والأجنبية على نحو 91% من حصيلة الضرائب المتوقعة في العام المالي الجديد، وهو ما يعني أن دافعي الضرائب يمولون في الحقيقة أرباح مقرضي الدولة من بنوك وأفراد ومؤسسات في الداخل والخارج.
وإذا جرى حساب نصيب الفرد من مدفوعات فوائد الديون الحكومية المتضخمة، فإنه يبلغ 17.2 ألف جنيه (قرابة 350 دولارا) سنويا، في حين يقل نصيب الفرد من الإنفاق الحكومي على الصحة مثلا عن ألف وتسعمائة جنيه سنويا. أما على جانب الإيرادات، فتوضح الورقة أيضا أن هناك إفراطا من جانب الدولة في الاعتماد على الاقتراض مصدرا للتمويل، يرافقه انخفاض في الحصيلة الضريبية بالنسبة لحجم الاقتصاد المصري وبالمقارنة مع الدول المثيلة في العالم.