معركة العطش تدفع مصر إلى رفع أسعار المياه

في الأربعاء ٢٠ - أغسطس - ٢٠٢٥ ١٢:٠٠ صباحاً

تشهد مصر واحدة من أخطر أزماتها الاستراتيجية، وهي ندرة المياه، تفرض على الدولة العيش في ظل معركة "بقاء مائي" يومية، بعد تراجع مستوى نصيب الفرد من المياه إلى أقل من مستوى خط الفقر المائي للفرد ليصبح 550 متراً مكعباً المحدد عالميا بنحو 1000 متر مكعب للفرد سنوياً. تدفع الأزمة الحكومة إلى رفع أسعار مياه الشرب وتلك المستخدمة بالصناعة بمعدلات مرتفعة ودورية، وفرض رسوم هائلة على تركيب طلمبات (مضخات) رفع المياه بالمناطق الصحراوية وحول نهر النيل، مع سعي دؤوب منها لبيع مياه النيل للمزارعين، وتجريم مستخدمي المياه النظيفة في غسل السيارات والشوارع.

في دولة يزداد عدد سكانها سنوياً بأكثر من مليون نسمة، تتعمق أزمة المياه لنحو 108 ملايين، لتصل إلى مستوى الندرة المطلقة بحلول العام الجاري 2025، وسط مخاطر تراجع حصتها السنوية من مياه نهر النيل، الذي يوفر 90% من احتياجات البلاد في حدود 55 مليار متر مكعب من المياه سنوياً، وذلك نتيجة بناء سد النهضة الإثيوبي، مع صعوبة تدبير الأموال اللازمة لإقامة محطات تحلية المياه وتدوير الصرف الصحي، واستخراج المياه الجوفية.

تدفع الأزمة الحكومة إلى خوض معارك سياسية، لم تربح أي منها على مدار السنوات العشر الماضية، مع إثيوبيا وبعض الدول بمنابع نهر النيل، التي تدعم أديس أبابا، وأخرى اقتصادية من أجل الحصول على تمويل بالعملة الصعبة من المؤسسات المالية والأممية لإقامة مشروعات تحلية مياه البحر وإعادة تدوير مياه الصرف الصحي لتوفير المياه للقطاعات الصناعية والزراعية والعمرانية التي تتزايد رقعتها سنوياً.يأتي ذلك بينما تشتد على البلاد توابع التغيرات المناخية لتزيد مناخها الحار تطرفاً يرفع معدلات التصحر ويزيد منسوب مياه البحار، الذي يهدد الرقعة الزراعية والعمرانية ويرفع ملوحة المياه الجوفية في مناطق تمتد لوسط الدلتا، وفقاً لتقديرات خبراء متخصصين في علوم الأرض والبيئة.

قال أستاذ الأراضي والمياه بجامعة القاهرة البروفيسور نادر نور الدين إن حدود الفقر المائي التي وضعتها الأمم المتحدة تبلغ 1000 متر مكعب التي يستخدمها الفرد سنوياً لكافة الأنشطة التي يقوم بها، وتشمل توليد الكهرباء والصناعة والزراعة والشرب، ولفت إلى أنّ مصر تقع في نطاق دول الفقر المائي، ومع تراجع حصة الفرد سنصبح في مرحلة الشح المائي، الذي يقدر عند حدود 500 متر مكعب من المياه سنوياً.

ويؤكد أنّ المواطن المصري لم يشعر حتى الآن بمرحلة الشح المائي، لأن الدولة منذ شروع إثيوبيا في بناء سد النهضة، استعانت بالمخزون الهائل في بحيرة السد العالي، الذي يصل إلى 162 مليار متر مكعب في تدبير احتياجاتها من المياه. ويبيّن خبير المياه في تصريح لـ"العربي الجديد"، أنه لولا المخزون المائي ببحيرة ناصر ووفرة الأمطار التي مكنت إثيوبيا من ملء سد النهضة بدون قطع الإمدادات عن مصر والسودان، لتعرضت مصر إلى كارثة مائية سريعة.

وأكد أن هذه المخاوف استدعت مطالبة مصر لإثيوبيا بتوقيع اتفاق ملزم يمنح لمصر والسودان الحق في مراقبة نظام التشغيل وإدارة السد، بخاصة في السنوات العجاف مع تراجع معدل الأمطار، لضمان عدم وقف تشغيل التوربينات وغلق بواباب السد إلا عند الحدود الدنيا التي تحافظ على حق إثيوبيا في تشغيل 80% من قدرات توليد الكهرباء للسد، وبما يجعل الدول الثلاث مشاركة في تحمل أعباء الشح المائي دون أن يقع الأثر السيئ على دولة بمفردها مثل مصر.

أشار نور الدين إلى أن الحكومة وضعت مخططاً لمواجهة أزمة المياه بإقامة 17 محطة لتحلية المياه على سواحل البحرين الأحمر والمتوسط، تنفذ بالكامل قبل عام 2030 بالتعاون مع القطاع الخاص ومؤسسات التمويل الدولية، يمكنها تدبير خمسة مليارات متر مكعب سنوياً، مبيناً ارتفاع كلفة المتر المكعب إلى 25 جنيها إضافة لقيمة المحطة الإسمية.كر نور الدين أن الدولة تتوسع في معالجة مياه الصرف لاستغلال عوائدها في زراعة الأراضي الجديدة، بعد إضافة كميات مناسبة من المياه النظيفة إليها، مع تبني مشروع "تبطين الترع" في المناطق الزراعية القديمة لتقليل فقد المياه، والذي نفذ على امتداد 5600 كيلومتر، بينما تبلغ أطوال الترع نحو 33 ألف كيلومتر، مع الاتجاه إلى تقليل مساحة الزراعات المستهلكة للمياه، كالأرز وقصب السكر والموز والخضروات عريضة الأوراق، والاعتماد على الصوب الزراعية التي ترفع إنتاجية الأرض وتقلل استهلاك المياه بنسبة تصل إلى 40% عن معدلات الري بغمر الأراضي.

كشف نور الدين، الذي عمل مستشارا لوزير التموين والتجارة الداخلية سابقا لعدة سنوات، عن مواجهة مشروع تحويل الزراعة بالأراضي القديمة من الري بالغمر إلى "التنقيط" والصوبات الحديثة صعوبات مالية أدت إلى تأجيله عدة مرات، رغم مشاركة البنك الدولي في تمويل المشروع، مؤكدا أن تغير سعر الصرف وتدهور الجنيه أمام الدولار أديا إلى ارتفاع مستلزمات الري وصعوبة في تحديد الجهة التي ستتحمل التكاليف، خاصة أن الفلاح المصري غير قادر على تحمل هذه الأعباء المكلفة للغاية.

يرى خبراء الري أن الجهود التي تقوم بها الحكومة لمواجهة أزمة المياه تنقصها الشفافية، خاصة في إدارة ملف سد النهضة، الذي شهد غياب اتفاق قانوني ملزم مع إثيوبيا وترك مصر عرضة لمخاطر كبيرة خلال فترة الجفاف أو عند تشغيل سد النهضة بكامل سعته مع ضعف كفاءة استخدام المياه في الزراعة والإسراع نحو تحليه مياه البحر، في ظل أزمة مالية حادة وارتفاع قيمة الديون الأجنبية وعدم قدرة السلطات على تغيير أنماط استهلاك المياه المستخدمة في المنازل والزراعة والصناعة، وتجريف الأراضي القديمة والتوسع في إنشاء مساحات زراعية ومدن بأراض جديدة تحتاج إلى كميات هائلة من المياه.