في الوقت الذي فتح فيه الحادث الذي وقع في 27 يونيو/حزيران الماضي، وراح ضحيته عمالة من الفتيات الصغيرات بين 13 و20 عاماً، كن في طريقهن للعمل في إحدى مزارع العنب، الحديث عن عمالة الأطفال والأوضاع الاجتماعية في القرية وصلاحية الطرق التي شيدتها السلطة خلال السنوات الماضية وسوقت لها باعتبارها أحد إنجازاتها، سلّط تقرير صادر عن "الجبهة المصرية لحقوق الإنسان"، بعنوان "ضحايا سلاسل قيمة الإنتاج الزراعي في مصر"، الضوء على الظروف الاقتصادية القاسية التي تعيشها العاملات في القطاع الزراعي في مصر، ومخالفة ذلك لقوانين العمل المصرية.
التقرير الصادر أول من أمس الخميس، أكد أن حادث الطريق الإقليمي الذي أدى إلى مصرع 18 فتاة من العاملات الموسميات في محافظة المنوفية في يونيو/ حزيران الماضي ليس حادثًا عرضيًا، بل "نتيجة مباشرة لسياسات اقتصادية تُقدِّم الربح والتصدير على حساب حقوق الإنسان وسلامة العاملات"، وطالب بإعادة النظر في سياسات تشغيلهن وضمان حقوقهن الأساسية.
وقارن التقرير بين الخطاب الرسمي للدولة الذي أعلنه وزير الزراعة في مؤتمر منظمة الأغذية والزراعة بالأمم المتحدة "الفاو" نهاية يونيو/ حزيران الماضي، حول التزام مصر بتنمية سلاسل قيمة زراعية شاملة ومستدامة، وبين الواقع "المرير" الذي تواجهه النساء في هذا القطاع، واللاتي يشكلن "الحلقة الأضعف والأكثر استغلالًا"، ووصفه بأنه "تناقض صارخ".توظيف قاصرات بـ 70 جنيهاً يومياً!
وكان أخطر ما أشار إليه التقرير الحقوقي هو "ظروف عمل قاسية وغير إنسانية تتعرض لها العاملات الزراعيات القاصرات"، وتحديدًا ضحايا الحادث، تتضمن تدني الأجور، وبأجر يومي للعاملة 120 جنيهًا مصريًا (نحو 2.5 دولار)، منذ عام 2018 بالرغم من التضخم الهائل وتحرير سعر الصرف المتكرر، بل قد ينخفض هذا الأجر إلى 70 جنيهًا فقط في أعمال الحصاد والجمع.
ولفتت إلى أن هذه الأجور لا تُسلم بشكل يومي غالبًا للعاملات، بل بشكل أسبوعي مجمع أو نصف شهري، مع إمكانية الحصول على منحة في أيام الأعياد الموافقة لموسم العمل الموسمي الزراعي تصل لـ 500 جنيه مصري. ووفقاً للإحصاءات الرسمية، تشغل النساء من العمالة غير الرسمية 32.4% من القطاع الزراعي لعام 2022، وهو ما أعادت الاستراتيجية الوطنية لتمكين المرأة 2030 التأكيد عليه بالإشارة لامتصاص القطاع الزراعي لـ 25% من طاقة النساء في القطاع غير الرسمي، وفق تقرير لـ "دار الخدمات النقابية والعمالية"، مطلع يونيو 2024.
والنساء والأطفال يشكلون مكوناً أساسياً من العمالة الزراعية في مصر، سواء كانت منتظمة أو موسمية، بالنظر لطبيعة المحاصيل الزراعية والتي تتطلب حساسية في التعامل معها، ما يُفسر الإقبال على هاتين الفئتين تحديداً لإدماجهما في سلاسل القيمة الزراعية، خاصة مع تزايد هجرة الرجال من الريف.
لذا دعا التقرير الدول المستوردة للمنتجات المصرية للتأكد من أن عمليات الإنتاج لا تنتهك حقوق المرأة والطفل قبل إبرام أي عقود استيراد مع مصر. وأوصى بضرورة إعادة النظر في سياسات دمج النساء في سلاسل الإنتاج الزراعي لضمان حقوقهن الأساسية في الأجر العادل، وعقود العمل، والتأمين الصحي. وطالب بتضمين شروط واضحة للحماية والسلامة للنساء العاملات في الاستراتيجية الوطنية للسلامة والصحة المهنية، فضلًا عن توسيع برامج الحماية الاجتماعية لتشمل العمالة غير المنتظمة من النساء للتصدي للفقر.
عمالة الأطفال تخالف قانون العمل
وكشف التقرير أن الحادثة كشف ما يجري من توظيف قاصرات دون سن الخامسة عشرة، في انتهاك مباشر لقانون العمل المصري الذي يحظر تشغيل الأطفال، عوضًا عن ساعات عمل الطويلة، حيث ثبت أن هؤلاء الفتيات كُن يعملن لساعات تتجاوز العشر والاثنتي عشرة ساعة يوميًا، وهو ما يخالف القانون الذي يحدد الحد الأقصى لعمل الأطفال بست ساعات فقط.وأوضح أن ظروف العمل القاسية تشهد أيضًا انعدامًا تامًا للسلامة المهنية، حيث تُجبر العاملات على العمل من دون تزويدهن بأي أدوات وقائية للتعامل مع بيئة العمل الخطرة، مثل المبيدات الكيميائية، مما يعرض صحتهن العامة والإنجابية لمخاطر جسيمة. وبرغم توصية الاستراتيجية الوطنية لتمكين المرأة منذ عام 2017 بإصدار قانون لحماية حقوق المرأة العاملة في القطاع غير الرسمي، فإن قانون العمل الجديد - الذي سيدخل حيز التنفيذ في سبتمبر/ أيلول المقبل - لا يوفر حماية كافية قانونية للعاملات غير الرسميات وخاصة الموسميات، إذ أحال القانون للوزارة وجهات الإدارة للعمل على تنظيم شروط عملهم وإدارته.
ولا يوفر القانون للعمالة غير المنتظمة أي ضمانات قانونية أو حمائية، أو تنظيمية لعملهم، إذ لم يشترط وجود عقود قانونية لهم، وهو ما تم مع ضحايا الحادث. وحتى في ظل سريان قانون العمل السابق (12 لسنة 2003) ولحين العمل بالقانون الجديد، فلا يبدو أن جهات الإدارة قادرة على توفير الحماية والرقابة الكافية لضمان حقوق النساء والقاصرات منهن، حيث كشفت الحادثة عن توظيف بعض من الفتيات القاصرات دون سن الخامسة عشر بالمخالفة لنصوص القانون القديم (مادة 98) من دون منح صاحب العمل بطاقة لهن تُفيد بذلك، ومن دون اعتماد مكتب القوى العاملة المختص.
وأكد أن العمالة هي الحلقة الأضعف في سلاسل القيمة بالنظر لانخفاض الأجر الذي تتحصل عليه، وانخراطها في مراحل بدائية من الإنتاج تُساهم في قلة أجرها، وأن الحادث تكشف عن استمرارية النساء في احتلال مواقع بدائية من سلاسل القيمة كمراحل الحصاد والجمع والقطع وبشكل أقل في مراحل الفرز والتعبئة والتصنيع بخلاف المساعي التي دعت لها الاستراتيجية الوطنية لتمكين المرأة، نحو إدماج النساء في القطاع الزراعي في عمليات أعقد مثل التصنيع الزراعي.
أين الاستراتيجية الوطنية لتمكين المرأة 2030؟
وتساءل التقرير عن "الاستراتيجية الوطنية لتمكين المرأة 2030"، التي سبق أن أعلنت عنه الحكومة وانتقدها، مشيرًا إلى أنها على الرغم من اعترافها بأن القطاع الزراعي يستوعب 25% من طاقة النساء في القطاع غير الرسمي، إلا أنها لم توفر لهن الحماية الكافية. واعتبر أن الاستراتيجية ركزت بدلاً من ذلك على تمكين النساء في القطاعات الرسمية الأكثر حظاً، واكتفت بالدعوة لوضع قوانين "فضفاضة" لحماية العاملات في القطاع غير الرسمي دون آليات تنفيذ واضحة.وشدد التقرير الحقوقي على أنه: لا توجه هذه الاستراتيجية دعماً وحماية كافيين للنساء في سلاسل قيمة الإنتاج الزراعي في مقابل الدعوة نحو زيادة مشاركتهن فيها، كذلك لا تعكس السياسات الرسمية للدولة التزاماً حقيقياً نحو إيجاد سلاسل قيمة شاملة ومستدامة تخدم كافة المساهمين فيها، بخاصة النساء بالنظر لأهمية موقعهن فيها على النحو الذي كشفته حادثة الطريق الإقليمي، حيث يبدو أن الهدف الأول والأخير هو الربح والتصدير واستخراج الفائض.
وأشار إلى أن قانون العمل الجديد، المزمع تطبيقه في سبتمبر/ أيلول 2025، لا يوفر أيضاً حماية كافية للعاملات الموسميات، إذ لا يوفر القانون للعمالة غير المنتظمة أي ضمانات قانونية أو حمائية، أو تنظيمية لعملهم حيث لم يشترط وجود عقود قانونية لهم، وهو ما تم مع ضحايا الحادث، بل وأحال تنظيم شؤونهن إلى قرارات وزارية، ما يبقي على حالة غياب الضمانات القانونية والحمائية لهن، وأبرزها عدم وجود عقود عمل!
قمع المطالبين بحقوق الفتيات
وفيما تساءل التقرير حول مصداقية التعويضات التي وُعدت بها أسر الضحايا، حيث "أفادت تقارير بعدم صرفها أو بتدخل جهات إدارية لاقتطاع نصف مبالغ التعويضات من الأهالي وإجبارهم على التبرع بها للدولة"، أكد أهالي في القرية أن التعويضات العديدة التي جرى الإعلان عنها لشهيدات العمل الصغيرات لم يتم صرف أغلبها والشرطة تحاصر قريتهم لمنع غضب الأسر التي تحتج على ذلك. وأكدوا أن قوات الأمن المصرية تفرض حصاراً على القرية وتمنع الصحافيين من الوصول إليها، بحسب عدد من الأهالي.وكانت الحكومة المصرية أعلنت عن تعويضات لأهالي الضحايا بقيمة 200 ألف جنيه لأسرة كل ضحية من وزارة التضامن الاجتماعي، و300 ألف جنيه من وزارة العمل، و100 ألف من وزارة النقل، بالإضافة إلى تبرعات من رجال أعمال، لكن أقارب الضحايا أكدوا أنهم لم يتسلموا التعويضات حتى الآن.
وقالت "الجبهة المصرية لحقوق الإنسان" أن التعامل الأمني مع أهالي الضحايا جاء ضمن "الممارسات الإذعانية"، وأشارت إلى الإصرار على التعامل الأمني مع مثل هذه الكارثة من خلال فرض قيود على التواصل بين ذوي الضحايا، وسكان القرية وبين الإعلام، بما يحول دون تسليط الضوء على ظروف هذا الحادث وظروف العمل والفقر التي تعاني منها القرية ودفعت الفتيات للقبول بظروف عمل غير إنسانية وخطرة.