مقدمة
عرض المقال السابق (الأول ) للتناقض بين الدولة الاسلامية المدنية العلمانية الحقوقية القائمة على الديمقراطية المباشرة ، وبين الدولة الدينية التى أقامها المسلمون وفق ثقافة العصور الوسطى ، حيث يستبد فيها بالشعب وثروته خليفة أو ملك أو سلطان .
الدولة الإسلامية دولة مدنية تقوم على العدل والقسط، وتوازن بين حق المجتمع وحقوق الفرد، والمجتمع الإسلامى هو الذى يملك السلطة والثروة والأمن، ويتمتع أفراده بحقوق متساوية ضمن منظومة للتكافل الاجتماعى، وذلك موضوع طويل يستحق بحثا مستقلاعن الملامح السياسية والاقتصادية والاجتماعية للدولة ومجتمعها المدني ، ولكن نتوقف هنا مع الملمح الأساس للدولة الإسلامية المدنية وهو القضاء.
وبدون الدخول فى تعقيدات فكرية أو فقهية فإننا نبسط الموضوع على الوجه التالي:
فمجلس القضاء الذى يتربع فيه القاضى ليحكم بين الناس له ثلاثة أركان:
(1) سلطة سياسية متمثلة فى الدولة التى تعين القاضى والتى تقوم بمراقبة أحكامه وتنفيذها،
(2) قانون أو تشريع يحكم به القاضى فى القضية التى ينظرها،
(3) ثم ضمير القاضى نفسه الذى يختار الحكم المناسب للحالة المطروحة أمامه، متحريا العدل فى أحكامه على الناس.
ويتخصص هذا المقال ( الثانى ) فى الركن الأول،وهوطبيعة السلطة السياسية فى الدولة الاسلامية التى تعين القاضى والتى تراقب أحكامه والتى تقوم بتنفيذ أحكامه تحققيقا العدل.
ونرتب الموضوع كالاتى :
اولا : منشأ الدولة الاسلامية ، ومنشأ الدولة الاستبدادية :
1 ـ ظهرت أولا الدولة الاستبدادية فى تاريخ البشرية ، فى مصر والرافدين والصين ، ثم مع التقدم البشرى فى الفكر ظهرت مقولات الديمقراطية و بعض تطبيقاتها فى اليونان ، وأخيرا نزل التشريع ( المنسى ) للديمقراطية المباشرة فى القرآن الكريم يربطها بالعقيدة و العبادات والثقافة والقيم العليا على نحو ما جاء تفصيله فى بحثنا باللغة الانجليزية و المنشور على موقعنا :
(Democratic Islam and Muslim tyranny):
(Roots of democracy in Islam)
2 ـ وهناك فارق أساس فى المنشأ بين الدولتين الاستبدادية و الديمقراطية.
فى الدولة الاستبدادية تكون هناك قوات مسلحة تدين بالولاء لقائد عسكرى أو دينى ، ويحكم بهم الشعب يملك الأرض ومن عليها ، والمثل الكلاسيكى هو فرعون موسى .
فى الدولة الديمقراطية تكون القوة مركزة فى الشعب نفسه ، ويتم إقامة الدولة بعقد بين المواطنين الأحرار فردا فردا ، لا فارق بين ذكر وانثى ، وتلك هى (البيعة) فى مصطلح القرآن الكريم (الممتحنة : 12 ).
فى الدولة المستبدة لا يستطيع المستبد ان يحكم بنفسه،لذا يلجأ الى تكوين تشكيلات حوله من (أهل الحل و العقد ) ، منهم من يقود القوات المسلحة يفرض بها هيبته (أو هيبة الدولة التى يملكها على الشعب الأعزل ) ومنهم من يقوم بالادارة وتسيير أمور ( الرعية ) باعتبارهم أدوات الانتاج العاملين فى خدمة الدولة أو الضيعة التى يملكها المستبد ، ومنهم من يقوم بغسيل مخ ( الرعية) ليتعود على الخضوع للمستبد ، ويغرس فيهم ثقافة العبيد ، من رجال الدين والاعلام . وأخيرا منهم القضاة الذين يحكمون بين (الرعية ) فى منازعاتهم الداخلية . وكل أولئك هم (جند) المستبد أو (ملأ) المستبد . ولأن فرعوم موسى هو المثل الكلاسيكى للاستبداد فان لفظى ( الملأ ) و ( الجنود ) يقترنان به فى القصص القرآنى .
3 ـ وكى يفرض المستبد سلطانه على الناس فلا بد من إرهابهم بالتعذيب ، ولا بد من إعلان ذلك التعذيب بالتجريس أو التشهير حتى يبث الرعب فى النفوس ، وأشهر مثل لاستعمال التعذيب فى تثبيت السلطة السياسية كان فرعون موسى الذى هدد ( و نفّذ تهديده ) بقطع أيادى السحرة وأرجلهم وصلبهم على جذوع النخل ( الأعراف 124 ) ( طه 71 ) بينما كان الخليفة عثمان بن عفان أول من اتبع التعذيب العلنى فى تعامله مع المعارضة ، بالضرب و النفى و التسيير ( أى تسيير الخصوم بين الشام و العراق ( كعب داير) تحت الحراسة ) وعانى من هذا كبار الصحابة مثل ابن مسعود وعمار بن ياسر وابى الدرداء .
وربما كان من التعذيب النفسى الذى لاقاه أولئك الصحابة الأحرار أشد من التعذيب البدنى ، فلقد شهدوا ديمقراطية الدولة الاسلامية فى عهد خاتم المرسلين ، حين قال له ربه جل وعلا (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ)( آل عمران 159 ) أى كان النبى محمد نفسه هو الذى يستجلب رضاهم عليه لأنهم مصدر السلطة ، وأمره الله جل وعلا ـ بل جعله ـ لينا سهلا فى التعامل معهم حتى لا ينفضوا عنه ، ولو انفضوا عنه ضاعت قوته وزالت دولته لأنهم دولته ومصدر قوته . عاش اولئك الصحابة ذلك العهد ، ثم شهدوا تغير موازين القوى بفعل الأمويين الذين بدءوا فى استخدام القهر والتعذيب فى خلافة عثمان مع أولئك الصحابة ليجعلوهم عبرة لكل الناس. وربما كان عمار بن ياسر هو أشدهم تأثرا ، فقد عانى من التعذيب مرتين ، فى الأولى وهو شاب فى مكة حين دخل الاسلام فعذّبه الأمويون ليرجع للكفر ،ثم عذّبوه فى شيخوخته وشهرته فى خلافة عثمان حين سيطر الأمويون على عثمان ، وجعلوه يعتقد أن الخلافة قميص قد ألبسه الله تعالى له .
التعذيب نقطة فارقة بين الدولة الاسلامية ودولة الاستبداد . اولو الأمر فى دولة الاسلام خدم للشعب يهابون الشعب ، ويعملون بجد واجتهاد حتى (لا ينفض ) عنهم الشعب . أما فى دولة الاستبداد فلا بد أن يكون المستبد (فظا غليظ القلب ) حتى يرعب ويرهب الناس .
وطالما يوجد تعذيب فى أى دولة فاعلم أنها دولة استبداد ،بغض النظر عن (الديكور الديمقراطى ) الذى تتزين به .
نعود الى الدولة الأموية وقد توسعت فى استعمال التعذيب لارهاب خصومها حتى من كان منهم مسالما .واشتهر به من ولاتها زياد بن أبيه و الحجاج بن يوسف ويوسف بن عمر. وكان من وسائل تعذيبهم لأكبر فقيه فى العصر الأموى ، وهو سعيد بن المسيب ـ ربطه بحبل مثقوب فى عنقه وتسييره فى طرقات المدينة ، ذلك لمجرد رفضه البيعة لعبد الملك بن مروان ( صديقه السابق ). والتفاصيل فى بحث ( سعيد بن المسيب الفقيه الناقم ).
4 ـ وفى كل الأحوال تتحول الدولة المستبدة الى (إله ) مصنوع مخيف مرعب ، ويتحول جيشها ورجال دينها الى ذوات الاهية معصومة، ويقف على قمة التأليه المستبد كبير الآلهة . وكلما إزداد الاستبداد زادت جرعة التأليه حتى تصل الى حالة فرعون موسى الذى أعلن ان له ملك مصر وأنهارها التى تجرى من تحته ،وبهذا الهوس استغرب فرعون أن يكون هناك إله آخر غيره وطلب أن يرى هذا الاله ( القصص 38 ) ( غافر 36 : 37) وأعلن أمام جنده وقومه أنه ربهم الأعلى (النازعات 23 : 24 ).
وفى عصور الاستبداد فى تاريخ المسلمين الماضى والحاضر كان يتم تأليه المستبد صراحة ( كما فى الخلافة الفاطمية ) أو ضمنا ( كما فى الخلافة العباسية والعثمانية ) .
وورث مستبدو المسلمين فى عصرنا تلك الثقافة ، فمن من الرعية ( السعودية ) يستطيع التفوه بنقد آل سعود؟ ، ومن فى الرعية العراقية فى عهد صدام كان يستطيع نقد صدام بأسمائه المقدسة التسع والتسعين؟ .. وقس على ذلك فى ليبيا والمغرب والاردن و بقية دول (المسلمين ). وهناك فى مصر عقوبة لمن ينتقد الرئيس الذى يملك ويتحكم فى كل شىء و ليس مساءلا أمام أحد بحكم الدستور المصرى.أى اله معصوم من الخطأ لا يسأل عما يفعل مع أنه يملك كل القوة ويستبد بها طيلة حياته.
بايجاز : الفارق الأساس فى المنشأ بين الدولتين الاسلامية والاستبدادية : أنه فى الاستبدادية تجد المستبد وحده ، وفى الاسلامية تجد الناس والشعب .
وفى المقابل تجد الديمقراطية المباشرة مظهرا اساسا فى عقيدة التوحيد الاسلامية ، بحيث يكون الاستبداد نوعا اصيلا من انواع الشّرك بالله وتاليه البشر . فإذا كان خاتم المرسلين مامورا بالشورى فإن الذى يستنكف عن الشورى يرفع نفسه فوق مقام النبوة ،أى يزعم الالوهية صراحة وضمنا ، وإذا كان اولى المر مساءلون أمام الناس فان المستبد الذى يستنكف من أن يسائله الشعب يكون قد وضع نفسه صراحة فى مقام اللوهية لأن الله جل وعلا هو وحده الذى لا يسائله أحد ، وما عداه جل وعلا يتعرضون للمساءلة : (لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ ) ( الأنبياء ـ 23 ـ ).
وبالتالى فان دولة المستبد هى دولة الكفر ودولة الظلم ، حتى لو كان الناس فيها ( الرعية ) من المسلمين المستضعفين . ونلاحظ أن الظلم من مرادفات الكفر فى مصطلحات القرآن الكريم .
5 ـ فى دولة المستبد لا يوجد ( مسئول ) ينتخبه الشعب طواعية ليخدم الشعب بأجر معلوم وفى مدة معلومة ، بل يوجد (اله ) قد يوصف بأنه ( زعيم ملهم ) ، وهذا الاله يملك الشعب الذى لا صوت له ولا قيمة له ، وأبرز دليل على ذلك أن الحديث عن عبد الناصر والسادات ومبارك أكثر من الحديث عن الشعب المصرى ـ أعرق شعوب الدنيا ، ومعظم العالم يعرف القذافى و لا يعرف ليبيا ، ويسمع عن صدام وقد كان لا يعرف شيئا عن العراق . وتاريخ المسلمين يدور فى معظمه حول المستبد واعوانه دون أدنى التفات للشعب والرعية ، تماما كالتعامل مع صاحب الضيعة ، يعرف الناس صاحب الضيعة و لايهتمون بما فيها من مواشى وأدوات ومن فيها من عمال .
ولا نملّ من التكرار بأن النموذج الغربى فى الحكم هو الأقرب للاسلام ، وفى هذه النقطة بالذات تجد من الصعب معرفة اسم ملكة هولنده ،أو رؤساء سويسرا وبلجيكا و دول اسكندنافيا والنمسا وكندا...الخ ، لأن الكلام كله عن تلك الشعوب الفاعلة، أما القائمون بالادارة فيها فهم فى خلفية الصورة ( كومبارس ) لأنهم خدم للشعب . بينما فى الشرق المنكوب تجد المستبد وحده قد استحوذ على كل الصورة ،فالكل يعرف مبارك وصدام والقذافى و احمدى نجاد وآل سعود..الخ ..
وحين تحاول إجراء مسح علمى لقياس الرأى العام فى تلك البلاد المنكوبة تجد التهمة بالتجسس تنتظرك ،لأن هذا ( أمن قومى ) فلا يوجد أصلا رأى عام للشعب لأنه لا يوجد شعب ، يوجد فقط المستبد ، وتوجيهات المستبد ، هو الشعب والوطن و الدين ( وبابا وماما .. وأنور وجدى ) .!!
ثانيا : أثر منشأ الدولة الاسلامية فى التكوين الثقافى للمجتمع الاسلامى
1 ـ ليس سهلا
ليس سهلا أن يتحرر شعب من ثقافة العبيد وينهض ليستعيد حقه ويستحوذ على القوة ، ثم ينشىء نظاما ديمقراطيا مباشرا يكون فيه أولى الأمر خدما للشعب تحت رقابته ، يملك عزلهم ومحاكمتهم .
ليس سهلا أن يستعيد الشعب ثروته من الفئة المترفة التى تمتص دماءه ، وأن يضع نظاما عادلا فى توزيع الثروة يوازن بين تكافؤ الفرص والرعاية الاجتماعية ويمنع الاحتكار وتدخل رأس المال فى السياسة ، و يطبق قوله جل وعلا للمجتمع الاسلامى (وَلاَ تُؤْتُواْ السُّفَهَاء أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا ) فالثرة طبقا للآية الكريمة ملك للمجتمع كله (أَمْوَالَكُمُ ) ، وللفرد حق أن يرث ويتمتع بملكية ميراثه طالما يحسن القيام عليه، ولو كان سفيها لا يحسن التصرف في ثروته فلا بد أن ترجع تلك الثروة لمالكها الأصلى وهو المجتمع ليديرها لمنفعة المجتمع ، مع احترام حق السفهاء فى الحياة الكريمة من ذلك المال (وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُواْ لَهُمْ قَوْلاً مَّعْرُوفًا) ( النساء 5 ) .
وانظر الى حال المسلمين فى الجزيرة العربية وووادى النيل وشمال أفريقيا والرافدين، وقد أعطواالسفهاءالمستبدين عرق جبينهم وبترولهم يعيثون به فسادا فصاروا اضحوكة بين العالمين .!!
2 ـ ليس سهلا إلا بالتربية القرآنية
فى إرساء الديقراطية لا بد أولا من غرس ثقافة الديمقراطية ، وأنجح وسيلة لتعليم الديمقراطية هى التربية القرآنية . وهو موضوع طويل ومعقد ، ونوجز اهم ملامحه :
لقد استنفد تعليم المسلمين ثقافة الديمقراطية المباشرة طيلة العهد المكى حيث تم التركيز على جانبين :
تحرير العقيدة من الخضوع لغير الله جل وعلا ، وعدم تأليه البشر، فهذا الأساس الأول للديمقراطية المباشرة ، فالمؤمن لا يخشى إلا الله جل وعلا ، وهو يعلم أن الحتميات الأربع لا يملكها إلا الله جل وعلا ، وهى الميلاد و الموت و الرزق و المصائب ، وبالتالى فليس له أن يخاف البشر بل رب العالمين و رب البشر ، وينبع هذا من ايمان حقيقى وعملى باليوم الآخر والخوف من عذاب النار و الأمل فى دخول الجنة ، وأن الفوز الحقيقى ليس فى الدنيا بل فى الاخرة هو الفوز الأعظم ، وهو مترتب على مدى الايمان الحق و العمل الصالح . وأن المؤمن الحقيقى الفائز يوم الدين هو الذى لا يريد علوا فى الأرض ولا يرضى بالفساد فى الأرض (تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ وَلا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ ) ( القصص 83 )
ثم يأتى الأساس الثانى فى تعليم القيم الأخلاقية العليا ، ومنها إرادة التغيير والاصلاح التى أوكلها الله جل وعلا للبشر ، وجعل إرادة التغيير للبشر سابقة لارادة الله جل وعلا ، مثل الهداية ، فإن أرادوا التغيير الى الأفضل أراده الله جل وعلا لهم (إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ ) ( الرعد 11 ) أى لا بد أن يغيروا ما بأنفسهم من خضوع وخنوع ومن كل ملامح ثقافة العبيد ليستبدلوا مكانها ثقافة الأحرار وفق القيم الاسلامية ، وعلى راسها العدل و القسط والاحسان والسلام واحترام حرية الرأى والفكر والدين وحقوق (العباد ) أو حقوق الانسان . إما إذا أرادوا الخنوع للملك المستبد فالله جل وعلا يعترف به ملكا عليهم طالما ارتضوه لأنفسهم ، ولذلك أرسل الله جل وعلا موسى ليس للمصريين ولكن لفرعون الذى جعلوه ربهم وسيدهم .
تعلم المسلمون فى مكة تلك القيم والعقائد ، بل وتعلموا ممارسة الشورى فى سورة الشورى المكية ، ثم أتيح لهم تطبيق الديمقراطية المباشرة فى العهد المدنى ، حيث نزلت تفصيلات التشريع ، منها ما يخص الشورى ،أو الديمقراطية المباشرة .
3 ـ المجتمع المسلم ( مجتمع نشط حى متفاعل بالخير )
على قدر حيوية المجتمع يكون حظه من التحرر والقوة ، وحتى فى دول الاستبداد تجد فارقا بين مستوى التحرر بين مصر حيث حرية (القول) التى بدأت تنال من الرئيس نفسه ، ولكن تظل فى إطار حرية النباح فى مفهوم الحاكم المستبد ، وقد دخل المجتمع المصرى الان فى مرحلة أكبر وهى انتزاع حرية (الفعل ) أو حرية الحركة السلمية بالتظاهر والاضراب ، وبالطبع يقف الجيش الحاكم ضد هذا التحول موجها أسلحته للشعب المصرى الأعزل ،يرهبهم بقوات ( الأمن المركزى) ، ويتوقف نجاح الوطنية المصرية الحرة على مدى استعدادها للصمود فى وجه الجيش (المصرى ) مغتصب الحكم وقاهر الشعب المصرى .
هذا فى مصر حيث القدر الأكبر من الحيوية و الحراك السياسى . وفى بلاد عربية أخرى تجد حرية النباح محاصرة تنتظر المزيد من التضحيات، وتتطلب قدرا أكبر من الحيوية السياسية .
فى المجتمع المسلم الحقيقى لا وجود للصامتين لأن ممارسة الشورى فربضة تعبدية ، يتعين فيها على كل المسلمين حضور مجالس الشورى وعدم التغيب عنها ،بل يأتى الانذار الالهى لكل من يتخلف عن حضورها مهما كان عذره ، وفق ما جاء فى الايات الأخيرة من سورة النور ، وهى أول ما نزل فى التشريع فى العهد المدنى.
والمسلمون أفراد المجتمع هم المسالمون المشاركون فى بنائه بغض النظر عن عقائدهم ، وسبق القول فى المقال السابق إن المسلم فى مفهوم الدولة الإسلامية هو المسالم والمؤمن هو المأمون الجانب. فكل من يعيش مسالما فى الوطن فهو مسلم مؤمن مهما كانت عقيدته، لأن الذى يحكم فى العقائد والمذاهب هو الله تعالى يوم القيامة. باختصار: "الدين لله والوطن للجميع".
كما تمت الاشارة الى حقوق المعارضة التى وصفها الله جل وعلا بالنفاق ، وقد تمتع المنافقون بحرية يوجد مثيلها فى أرقى نظم الحكم الديمقراطية الراهنة .
حيوية المجتمع المسلم مفتوحة للجميع ذكورا وإناثا ، حيث يأتى الخطاب للذين آمنوا بما يفيد الرجال و النساء ، وهى أيضا مفتوحة للمعارضة حتى لو كانت معارضة متآمرة ،ولا تقتصر معارضتها على السياسة بل تعلن رأيها فى رفض القيم العليا للمجتمع ، وتدعو علانية للمنكر و تنهى علانية عن المعروف ، وهى تتمتع بهذا الحق لأنها جزء من الدولة التى هى الناس ،أى هى جزء من الناس المشاركين فى الحكم .
ونستشهد هما بقوله جل وعلا عن مجتمع المدينة من رجال و نساء ، مؤمنين ومؤمنات ومنافقين ومنافقات : (الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُم مِّن بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُواْ اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ وَعَدَ اللَّه الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّقِيمٌ ). هنا المنافقون الذكور والاناث يتحركون فى طرقات المدينة و شوارعها وأسواقها يأمرون بالمنكروينهون عن المعروف ، ولا يتعرض لهم أحد (اين هيئة المطوعة السعودية ؟!) لأن الذى سيكفل بعقابهم ـ إن لم يتوبوا ـ هو رب العزة يوم القيامة. وكفى بذلك عذابا وخسرانا .
وفى مقابل المنافقين يقول جل وعلا :(وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ)(التوبة 67 ـ ، 71 ـ) هنا مجموعات الأغلبية من المؤمنين و المؤمنات يتحركون فى الشوارع و الطرقات و الأسواق يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر قولا ونصحا ( وليس ضربا وحبسا كما يفعل مطوعة السعودية ) الأمر بالمعروف (أى القيم العليا فى الاسلام ) و النهى عن المنكر واجب على كل مؤمن و ليس لفئة معينة مستأجرة تأمر الناس بالبر و تنسى نفسها . ويكون نصحا ووعظا ودعوة بالتى هى أحسن طبقا للأمر الالهى بالتعاون على البر و التقوى و بالتواصى بالحق و بالصبر.
4 ـ بدون التربية القرآنية يكون الوصول للديمقراطية شاقا ودمويا .
لم تتخلص أوربا من الاستبداد إلا عبر قرون من الثورات والصراعات الدموية ، تداول فيها الأحرار والطغاة النصر والهزيمة ، كما حدث فى فرنسا بالذات . وشهدت الحرب العالمية القضاء على النازية و الفاشية أعتى صور الاستبداد شراسة ، وبعد القضاء عليها حل محلهما الاستبداد الشيوعى ، وبعد القضاء عليه أطلت مكانه بعض مظاهر الاستبداد المتخفى بالعرق كما فى الصرب ، وانتهى هذا بانتهاء القرن العشرين . ولم يبق الآن من نظم الاستبداد إلا بعض جيوب فى أفريقيا و آسيا ، وبلاد العرب الأمجاد .
بدأت النهضة المصرية بالأخذ عن أوربا عسكريا ثم علميا وانتهى الأمر بنقل الثقافة الديمقراطية الغربية ، فقام أول برلمان مصرى فى بداية النصف الثانى من القرن التاسع عشر ، وقامت فى مصر دولة ليبرالية فيما بين 1923 : 1952 ـ رغم أنها كانت محتلة بالانجليز. جاء إنقلاب العسكرمعززا بتأييد الإخوان المسلمين فى الشارع المصرى فتم إجهاض المنجزات الديمقراطية المصرية ، و استبدل العسكر ثقافة الديمقراطية الغربية فى مصر بالاستبداد العسكرى اليسارى أولا فى عهد عبد الناصر ، ثم ثقافة الاستبداد الدينى الوهابى منذ عصر السادات والى الان .
وبينما تغزو رياح الديمقراطية أفريقيا وأمريكا اللاتينية وآسيا تنجح الوهابية السعودية وحركة الاخوان المسلمين فى صدّ المدّ الديمقراطى ، يريدون العودة بالعرب و المسلمين الى الدولة الدينية التى كانت سائدة من العصر العباسى الى العصر العثمانى . يعزز ذلك ترسخ الدول السعودية السنية وغيرها فى الجزيرة العربية و الخليج ، وترسخ الدولة الفارسية الشيعية فى ايران ،ولجوء نظم الحكم العسكرية الى التمسك بملامح الدين السنى على أمل البقاء كما يحدث فى مصر و السودان .
وينسى الجميع دولة الاسلام القائمة على الديمقراطية المباشرة وحقوق الانسان.
والفكر القرآنى الذى يدعو سلميا للاصلاح مضطهد ، يجتمع على عدائه الفرقاء المتشاكسون ، النظام العسكرى والاخوان المسلمون .
وبدون التربية القرآنية فى تعليم الديمقراطية الى ندعو اليها ـ نحن أهل القرآن ـ سيتعين على القوى الحية المناضلة من أجل الاصلاح السياسى و الديمقراطى أن تسير فى نفس الطريق الدموى الذى سارت فيه اوربا عبر قرون من الحروب . ثم بعد معاناة وحروب أهلية وانقلابات وصراعات سيحصلون بعد أجيال على يمقراطية غير مباشرة ، أى ديمقراطية نيابية تمثيلية ، تكون انعكاسا لسيطرة تحكم رأس المال وسطوته ، كما يحدث فى أمريكا والغرب ،أى ديمقراطية النخبة حيث لا تملك الأغلبية سوى انتخاب (أهل الحل و العقد ) و التصفيق لهم ، وحيث يظل التغيير الشكلى مرهونا بالتنافس بين حزبين أو أكثر من( أهل الحل و العقد ) ، مع بقاء المعادلة كما هى ، وهى أن من يملك هو الذى يحكم حتى بصناديق الانتخابات الحرة النزيهة .
ثالثا : أثر منشأ الدولة الاسلامية فى طبيعة النظام السياسى وآلياته .
1 ـ ليس فى الدولة الإسلامية حاكم بالمفهوم العادى:
حيث أن المجتمع هو مصدر السلطة والحكم، ولكل الأفراد ـ وبالتساوى ـ مسئولية المشاركة فى الحكم ، وحيث تعنى الشورى فى المفهوم القرآنى فن ممارسة السلطة والحكم فليس فى الدولة الإسلامية حاكم بالمفهوم العادى.
وإذا كانت أمور الناس يديرونها بينهم بالشورى فذلك تأكيد على أن السلطة من حق المجتمع وحده، والمجتمع لايتنازل عن جزء من هذه السلطة لأحد الأفراد ليقوم بالحكم بدلا عنه وفق ميثاق العقد الاجتماعى فى الفكر العلمانى، ولكن المجتمع فى الشورى أو الديمقراطية الاسلامية المباشرة هو الذى يحكم نفسه بنفسه، والذى يباشر التنفيذ ليس إلا موظفا خبيرا يكون مسئولا أمام الناس فى مجالس الشورى، وتلك المجالس تضم كل الأفراد رجالا ونساء، وتشريع القرآن يجعلها قضية إيمانية وهى التزام جميع المؤمنين بحضور مجالس الشورى وألا يعتذر أحدهم عن حضورها، وألا يتسلل أحدهم بعد الحضور، وذلك حتى لا ينتج عن تقاعس البعض انفراد الأقلية بالإدارة والحكم. (راجع الآيات الثلاث الأخيرة من سورة النور).
والنبى محمد عليه السلام الذى كان يأتيه وحى السماء كان مأمورا بأن يستشير، إذن فمن يستنكف من الشورى فقد رفع نفسه فوق مكانة النبى، والآية الكريمة "فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ ) ( آل عمران 159 ) تؤكد على أن الأمة هى مصدر السلطات، حتى لو كان قائدها هو النبى نفسه، وتأمر النبى بأن يتحمل هؤلاء الناس فى مجالس الشورى بأن يعفو عنهم ويستغفر لهم وألا يقطع أمرا دون أن يشاورهم وإلا انفضوا عنه، وإذا انفضوا عنه زال عنه الحكم والنفوذ والسلطان لأنهم هم الحكم والنفوذ والسلطان.
وبالتالى فإن الدولة الإسلامية لا تعرف الحاكم بمفهوم العقد الاجتماعى إذ لا تتنازل عن جزء من سلطتها لفرد أو جماعة كى تحكمها.
كما أن الدولة الإسلامية لا تعرف الحاكم المطلق المستبد بالأمر سواء كان خليفة أمويا أو عباسيا أو فاطميا أو كان حاكما عسكريا، لأنهم بكل بساطة سلبوا الأمة حقها فى الحكم بقوة السلاح.
ولذلك ترك النبى دولة المدينة دون أن يعين حاكما لأن الأمة هى التى تدير شئونها بنفسها، ولكن الروايات التى صيغت فى عصور الاستبداد دارت حول الاختلاف فى تعيين حاكم وفق ما ساد بعد عصر الخلفاء .
2 ـ القرآن لم يخاطب حاكما مسلما وإنما خاطب المجتمع المسلم :
ويلفت النظر أن آيات التشريع التى نزلت فى المدينة -حين كان للمسلمون دولة- لم تخاطب النبى أبدا بوصفه حاكما. وهذا ما جعل الشيخ على عبد الرازق وغيره ينفى عن النبى صفه كونه حاكما ويتجاهل وجود الدولة فى عصر النبى، مع أن كل شروط الدولة الحديثة -أقول الحديثة- تتوافر فى دولة النبى . وقد غفل أولئك عن طبيعة نظام حكم الشورى فى دولة النبى، إذ غلب فى فكرهم تصور الحاكم الفرد سواء بالمفهوم الديمقراطى العلمانى - وفق نظرية العقد الاجتماعى، أو بالمفهوم الثيوقراطى أى الحكم الإلهى فى الدولة الدينية الاستبدادية. ولم يعرفوا أن الذين كانوا يحكمون فى دولة المدينة هم المجتمع من خلال مجالس الشورى، تلك المجالس التى كانت تعقد فى المسجد، وقد تحدث عنها القرآن، ولكن أغفل التاريخ لها الرواة فى عصر التدوين. لأن التدوين للتاريخ الإسلامى بدأ فى العصر العباسى، عصر الدولة الدينية والاستبداد السياسي.
3 ـ مصطلح ( الحكم ) فى القرآن يعنى القضاء بين الناس وليس حكم الناس .
ويلاحظ أن مذهب الحاكمية لدى التيار الدينى السياسى يفهم مصطلح "الحكم" فى القرآن على أنه الحكم السياسى، وهذا يخالف التشريع القرآني. حيث يأتى مصطلح الحكم بمفهوم القضاء، والآيات الثلاث التى يرفعونها فى مواجهة السلطة وهى: (وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ) (وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ)(وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ) (المائدة 44، 45، 47 ) هى آيات لا تتحدث عن الحكم السياسى ولكن عن القضاء، وسياق الآيات يتحدث عن اليهود الذين جاءوا للنبى ليتحاكموا إليه، فقال تعالى له: (وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِندَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ) (المائدة 43 )، فالحديث هنا عن المصدر التشريعى أو القانون الذى يحكم به القاضي ، وليس على نظام الحكم.
واستعمل القرآن نفس المصطلح "يحكم" فى قصة تقاضى حدثت أمام داود وسليمان: (وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ)(الأنبياء 78)،وجاء ذلك أيضا فى قصة تقاضى أخرى حدثت أمام داود، إذ دخل الخصوم على داود ففزع منهم: (قَالُوا لا تَخَفْ خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ فَاحْكُم بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلا تُشْطِطْ) (ص 22 )، فالحكم هنا يعنى الرأى القضائى وليس الحكم السياسي.
وقد يكون الرأى فقهيا نظريا خارج دائرة القضاء، والقرآن يسميه حكما، وقد يكون هذا الحكم سيئا مستحقا للوم القرآن، كما قال تعالى فى وصف آراء المشركين فى وأد البنات (ساء ما يحكمون)( النحل 59) أو فى تفضيل أنفسهم على المتقين (ساء ما يحكمون)( العنكبوت 4، الجاثية 21) أى أنهم ساءوا فى حكمهم الفقهى ومقالتهم، فالحكم هنا أيضا لا يعنى السياسة.
وفى تفصيلات التشريع القرآنى جاءت كلمة "يحكم" بمعنى يقضى، فالذى يقتل الصيد فى الحرم متعمدا عليه أن يقدم هديا من الأنعام يكون مماثلا للصيد المقتول، والذى يحكم بذلك اثنان من الخبراء العدول: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقْتُلُواْ الصَّيْدَ وَأَنتُمْ حُرُمٌ وَمَن قَتَلَهُ مِنكُم مُّتَعَمِّدًا فَجَزَاء مِّثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنكُمْ) (المائدة 95 ).
ومن هنا لم تأت كلمة الحكام إلا مرة واحدة فى القرآن، ليس للحكام السياسيين وإنما للقضاة. وذلك فى معرض النهى عن رشوة القضاة وأكل أموال الناس بالباطل، يقول تعالى: (وَلاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُواْ بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُواْ فَرِيقًا مِّنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالإِثْمِ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ) ( البقرة 188).
ولغويا فان استعمال فعل (حكم ) متعديا يستلزم مفعولا به هو المحكوم ،كأن تقول ( يحكم مبارك الشعب المصرى ) فمبارك هو الفاعل ، والشعب المصرى المسكين هو المفعول به ( دائما ).ضع مكان( مبارك ) إسم أى حاكم آخر، وضع مكان (الشعب المصرى) أى شعب عربى تعيس، تجد النتيجة واحدة ، وهى أن (حكم / يحكم ) فعل متعدى يحتاج الى مفعول به ، وأنتم ايها العرب والمسلمون المفعول بكم دائما من حكامكم الأفاضل.
المراد أنه لم يرد فى القرآن الكريم ( مطلقا ) استعمال الفعل ( حكم ) أو ( يحكم ) للبشر متعديا ، ولكن ورد استعماله لازما ،أى ( حكم بين ) بمعنى التحاكم للقضاء.
4 ـ الخطاب القرآنى يأتى للمجتمع و الناس وليس لحاكم
وإذا عرفنا أن مفهوم الحكم فى التشريع الاسلامى يعنى الفصل بين الناس فى أمور التقاضى، وليس حكم الناس أو التسيد عليهم، وإذا عرفنا أن الدولة الإسلامية لا تعرف حاكما بالمفهوم العلمانى أو بالمفهوم الاستبدادى لأنها هى مصدر السلطات وهى التى تقوم بالسلطات وتعين القاضى ليحكم باسمها وليقيم العدل .. إذا عرفنا ذلك أدركنا لماذا يخاطب التشريع القرآنى عموم المؤمنين كلهم، ولا يخاطب فئة حاكمة وفق المفهوم العلمانى فى الحكم، ولا يخاطب ذلك الخليفة المستبد الكهنوتى . إن الله تعالى يخاطب المجتمع باعتباره صاحب السلطة والقائم بها فيقول: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ )(النساء 58 ) ، والمفهوم أن المجتمع يتكافل معا فى تأدية الأمانات والحكم بالعدل فى التقاضي.
والآية التالية (النساء، 59) تأمر بطاعة الله ورسوله وأولى الأمر أى الخبراء أصحاب الشأن والمطاع واحد، هو الله تعالى فى كتابه الذى نزل على رسوله، والذى يطبق أحكامه بعد النبى هم أولوا الأمر، وهم هنا فى هذه الآية وفى الآية الأخرى التى جاءت فى سورة النساء (أية 83) هم أولو الشأن أى أولو الاختصاص الذين يكونون مرجعية فى الشأن المعروض أو المطروح، مثل القضاة مثلا، أو الخبراء فى الموضوع المراد بحثه أو الحكم فيه.
وتلك الآيات فى العموميات، ولكن فى تفصيلات التشريع القرآنى نجد التوجه الدائم نحو المجتمع كله، ولذلك يتردد قوله تعالى "يا آيها الذين آمنوا" ولم يقل يا آيها الحكام أو يا آيها القائمون بالأمر، وعلى سبيل المثال فتشريعات اليتيم من رعايته والإحسان إليه والحرص على أمواله وتعيين وصى عليه، كل ذلك جاء خطابا للمجتمع وليس لحاكم فرد (النساء :2 ، 6 ). ويقول تعالى عن حالة الخصومة بين الزوجين إذا تعذر الإصلاح بينهما:(وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُواْ حَكَمًا مِّنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِّنْ أَهْلِهَا) (النساء 35 ) فالحاكم هنا ليس حاكما سياسيا، وانما هو المجتمع الذى يقوم بتعيين رجل من أولى الأمر أو الشأن يفهم فى الموضوع، أحدهما من طرف الزوجة والأخر من طرف الزوج، ويختارهما المجتمع.
أخيرا :
هذا هو المناخ السياسى الذى يمارس فيه القاضى وظيفته كأحد عناصر الحكم فى المجتمع .
وفى المقال القادم ( المقال الثالث ) سنناقش ـ بعون الله جل وعلا ـ القانون أو التشريع الذى يحكم به القاضى فى القضية التى ينظرها.