انتقد تقرير صندوق النقد الدولي الخاص بالمراجعة الرابعة لبرنامج قرض مصر البالغة قيمته 8 مليارات دولار، والصادر في 15 يوليو/تموز الجاري، بشدة استمرار تدخل المؤسسة العسكرية في أنشطة الاقتصاد المصري، كاشفاً عن امتلاك المؤسسة العسكرية المصرية 97 شركة، بينها 73 تعمل في القطاع الصناعي وحده. وقال إن "سيطرة الدولة على الاقتصاد تعرقل النمو وتمنع خلق فرص عمل حقيقية للقطاع الخاص"، في إشارة إلى موت السوق، واختناق الاستثمار، وتضخّم الأجهزة على حساب المواطن العادي. تقرير صندوق النقد، الذي تأخر صدوره منذ مارس/آذار الماضي بطلب من الحكومة المصرية، كان عنيفاً في أسلوبه بعد تأخر مصر في طرح شركات الجيش للبيع، مشيراً إلى أن مصر رهينة اقتصاد تملكه الدولة وتديره القوات المسلحة. وجاء التقرير بعد أنباء عن اعتزام الحكومة المصرية قيد أسهم شركتين للجيش (وطنية للبترول)، و(صافي للمياه)، في البورصة المصرية خلال هذا الشهر تمهيدًا لبيع حصص أقلية، وهو ما لم يتم حتى الآن، ويتوقع خبراء أن يدفع الحكومة المصرية لتسريع البيع لتلافي انتقادات الصندوق.
وبحسب تقرير المراجعة الرابعة للاتفاق الموقع مع مصر، وصف الصندوق تدخل المؤسسة العسكرية في بعض الأنشطة الاقتصادية، مثل شراء الأراضي، وشراء كيانات خاصة، وتطوير مشروعات تجارية إضافية، وذلك منذ بدء تنفيذ البرنامج الحالي بين مصر والصندوق، بأنه يعرقل مناقشة التقدم في تنفيذ سياسة ملكية الدولة و"تقليص بصمتها في الاقتصاد"، معتبرًا أن هذا الأمر "يجب تصحيحه". وفي بيانه لهيمنة المؤسسة العسكرية على الحياة الاقتصادية، أوضح أن الجيش يمتلك 97 شركة عسكرية، بينها 73 تعمل في القطاع الصناعي وحده، و15 في مجال الخدمات، و9 في العقارات والبناء، و6 في مجال التعدين. ولبيان هذه الهيمنة المالية لهذه الشركات أوضح التقرير أن الحصة السوقية للشركات المملوكة للقوات المسلحة في بعض القطاعات المدنية تصل إلى نحو 36%، وأنها سجلت أعلى نسب في قطاعات الرخام والجرانيت والإسمنت والصلب.
وأكد التقرير أن هذه الشركات العسكرية، التي لا تدفع ضرائب أو ثمن الخدمات، واصلت توسيع نشاطها التجاري حتى خلال العامين الماضيين، وبجانب المجالات الأربعة التي تتوسع فيها (الصناعة والخدمات والتعدين والعقارات) نفذت عمليات استحواذ بارزة في قطاعات (الضيافة، والطاقة، والمرافق، والصلب)، خلال عام 2024. وأوضح أن التقرير أنه "رغم أن الشركات المملوكة للجيش قد لا تهيمن على كامل القطاع، فإن المنافسة مع القوات المسلحة قد تُثني المستثمرين من القطاع الخاص عن دخول هذه الأسواق، بالنظر إلى الامتيازات التي تتمتع بها الشركات العسكرية"، في إشارة إلى عدم المنافسة بالنسبة لما تحصل عليه مجاناً من مرافق وخدمات وضرائب.تباطؤ الخصخصة يقلل النقد الأجنبي
أيضا انتقد التقرير ما وصفه بالتباطؤ في تنفيذ برنامج التخارج (الخصخصة) من الكيانات الاقتصادية المملوكة للدولة، مشيراً إلى أن هذا أثر على نقص في النقد الأجنبي الذي كان يمكن تحصيله من بيع هذه الشركات. وأكد أنه "نتيجة لذلك انخفضت التقديرات الخاصة بحصيلة النقد الأجنبي من الخصخصة من 3 مليارات دولار أميركي عند نهاية المراجعة الثالثة إلى 0.6 مليار دولار أميركي بنهاية المراجعة الرابعة في السنة المالية الأخيرة 2024-2025". وذكر الصندوق أنه اتفق مع الحكومة المصرية على إعادة جدولة هذا الانخفاض ليغطي الفترة المتبقية من البرنامج، الممتدة لسنتين ماليتين، بحيث تستهدف الحكومة المصرية تحقيق حصيلة نقد أجنبي قدره 3 مليارات دولار خلال العام المالي الحالي 2025-2026، تخصص بالكامل لخفض الدين العام، وأن تستهدف2.1 مليار دولار في العام المالي المقبل من برنامج الخصخصة وبيع الشركات.
وبحسب الصندوق تنوي الحكومة المصرية التخارج من 11 شركة مملوكة للدولة، من بينها بنكان وأربعة كيانات مملوكة للمؤسسة العسكرية، من خلال طرحها في البورصة المصرية خلال عام 2025، وهو ما أعلنته الحكومة في يونيو الماضي مع إدخال بعض التعديلات على التفاصيل، إذ تضمنت القائمة المعلنة للشركات المملوكة للمؤسسة العسكرية خمس شركات لا أربعاً، هي: وطنية لتشغيل محطات الوقود، وصافي للمياه المعبأة، وسيلو فودز للصناعات الغذائية، وتشيل أوت لتوزيع الوقود، والشركة الوطنية للطرق. وتتوقع الحكومة الحصول على تدفقات مالية بقيمة 3 مليارات دولار من بيع الأصول خلال العام المالي الحالي، صعوداً من 600 مليون دولار في العام المالي الماضي، وأن يصل الرقم إلى 2.1 مليار دولار في العام المالي 2026-2027، وهو أعلى من الرقم الوارد في المراجعة الثالثة، وفق تقرير صندوق النقد الدولي.
وأشارت إحصاءات الصندوق الواردة في التقرير إلى أن إجمالي العائدات الناتجة عن التخارج الجزئي أو الكامل من الشركات المملوكة للدولة (ونسبيا الجيش) في جميع القطاعات بلغ حوالي 5.7 مليارات دولار منذ مارس/آذار 2022. وكان مجلس الوزراء، أعلن في 9 مايو الماضي، في بيان أصدره، ونشرته "صحيفة "الأهرام، أن الحكومة أبرمت 21 صفقة ضمن برنامج التخارج من ملكية الدولة، وقدر حصيلتها بنحو 6 مليارات دولار، من دون أن يوضح الإطار الزمني لتلك الصفقات. إلا أن بيانات تقرير صندوق النقد الدولي أظهرت أن خطة الخصخصة لم تسفر عام 2024 سوى عن بيع 9 شركات من 35 شركة أعلنتها الحكومة.
وزارة المالية لا تضمن القروض
ومن الانتقادات التي وجهها الصندوق إلى الحكومة المصرية، مسألة عدم ضمان وزارة المالية لبعض القروض التي تحصل عليها مؤسسات مالية حكومية.
حتى إن التقرير وصف هيكل الاقتصاد المصري بأنه ما يزال "يُدار من أعلى"، وتتحكم فيه مؤسسات سيادية لا تخضع للمساءلة، مثل الهيئة العامة للبترول EGPC وهيئة المجتمعات العمرانية NUCA، مؤكدًا أن هذه المؤسسات "خارج الميزانية الرسمية" وتعمل من دون رقابة برلمانية حقيقية أو شفافية مالية، ما يجعلها أقرب إلى "دولة داخل الدولة". وأشار التقرير إلى أن أبرز المخاطر المالية تتعلق بسياسة الضمانات الحكومية، أي ضمان وزارة المالية للقروض التي تحصل عليها هيئات لا تشملها الموازنة العامة، وكذا العمليات المالية التي تتم خارج الموازنة، مشيراً إلى قروض وضمانات غير مؤكدة تتعلق بالهيئة العامة للبترول وهيئة المجتمعات العمرانية الجديدة، وأوصى الصندوق بمواجهة تلك المخاطر عبر تعزيز الرقابة على هذه الكيانات وإخضاعها لإشراف مالي أقوى من وزارة المالية.
وقال إن الهيئة العامة للبترول على وجه الخصوص، تشكل مصدرًا كبيرًا لتلك المخاطر، إذ إن الضمانات الحكومية الممنوحة لها تبلغ نحو 18% من الناتج المحلي الإجمالي، والبنوك المحلية تطلب الآن ضمانات حكومية على جميع القروض المقدمة إلى الهيئة العامة للبترول لعدم ضمان وزارة المالية لها!
وقد قدر التقرير المتأخرات المستحقة على الهيئة بما يراوح بين 3-4 مليارات دولار، من دون توضيح طبيعة تلك المتأخرات، لكن تقديرات اقتصادية أشارت إلى أن ذلك ربما مرتبط بانخفاض إنتاج النفط والغاز في مصر منذ عام 2022، وقيام الهيئة العامة للبترول باستيراد الغاز الطبيعي المسال من إسرائيل ودول أخرى نيابة عن الحكومة لتلبية احتياجات السوق المحلي من الغاز.
وأكد الصندوق أن السلطات المصرية التزمت بإعداد خطة شاملة ومعتمدة من مجلس الوزراء لإعادة هيكلة الهيئة العامة للبترول خلال فترة زمنية محددة، وبدعم من جدول محدث لزيادات أسعار الطاقة، في محاولة لوضع خريطة طريق أكثر وضوحًا لإصلاح أوضاع الهيئة، لكن هذا لم يحدث حتى الآن.
وللتغلب على قروض هيئة المجتمعات العمرانية الجديدة، غير المسددة، جمد مجلس الوزراء ودائعها قصيرة الأجل والبالغة نحو 500 مليار جنيه مصري المودعة في الحساب الموحد للخزانة، لمدة ثلاث سنوات، تشمل السنة المالية 2024-2025، أو إلى حين صدور تعليمات من المجلس بخلاف ذلك.5.8 مليارات دولار فجوة تمويلية
وقد كشف تقرير صندوق النقد الدولي الخاص بالمراجعة الرابعة لبرنامج قرض مصر، أيضاً أن مصر ستواجه فجوة تمويلية بقيمة 5.8 مليارات دولار في العام المالي 2025-2026، مقارنة بـ 11.4 مليار دولار في العام المالي 2024-2025، وذلك بعد احتساب صرف دفعات اتفاق تسهيل الصندوق الممدد لسد جزء من الفجوة. لكنه ذكر أن الحكومة نجحت في تأمين التزامات تمويلية للأشهر الـ 12 القادمة من شركاء دوليين، لسد هذه الفجوة التمويلية بخلاف مصادر الإيرادات الأخر. وضمن هذه الالتزامات التمويلية من مصادر عربية وأجنبية، وفقاً للتقرير، تمويل يتعلق ببيع "حقوق تطوير أو بيع مباشر لعقارات إلى شركاء خارجيين بما لا يقل عن 3 مليارات دولار"، وإبقاء دول خليجية ودائعها، التي تبلغ قيمتها الإجمالية 18.3 مليار دولار في خزائن البنك المركزي المصري حتى نهاية ترتيبات "اتفاق تسهيل الصندوق الممدد" في أكتوبر 2026، ما لم تُستخدم لشراء أسهم في شركات مصرية، وفقاً للتقرير.
وحول توقعات الصندوق للدين الخارجي لمصر، أكد أنه من المتوقع أن يسجل الدين الخارجي لمصر 46.6% من الناتج المحلي الإجمالي، ليصل إلى 180.6 مليار دولار خلال العام المالي 2025-2026، قبل أن ينخفض إلى 43.3% من الناتج المحلي الإجمالي، ليصل إلى 186.6 مليار دولار في العام المالي 2026-2027. كما توقع أن تسجل خدمة الدين الخارجي للبلاد 46.6 مليار دولار خلال العام المالي الحالي، قبل أن تنخفض إلى 45 مليار دولار في العام المالي المقبل. وحذر التقرير من النمو المفرط في الدين الخارجي، والذي قد يصل إلى أكثر من 202 مليار دولار بحلول عام 2032 وهو ما وصفه التقرير بـ "مؤشر خطر" على "الاستدامة المالية".
وتوقع التقرير أن تصل احتياجات مصر من التمويل الخارجي إلى 30.4 مليار دولار خلال السنة المالية الحالية، قبل أن تنخفض إلى 27.5 مليار دولار في العام المالي 2026-2027. ويمثل هذا زيادة مقارنة ببيانات المراجعة الثالثة لصندوق النقد الدولي، عندما توقع أن تبلغ احتياجاتنا من التمويل الخارجي 25.9 مليار دولار للعام المالي 2025-2026 والعام المالي 2026-2027. ويتوقع صندوق النقد الدولي أن تجذب مصر 26.4 مليار دولار من التمويل الخارجي خلال العام المالي 2025-2026، وفق المراجعة الرابعة، وذلك مقارنة بـ 24.1 مليار دولار متوقعة في مراجعته الثالثة.
وكان الصندوق خفض توقعات التمويل الخارجي للعام المالي المقبل إلى 25.9 مليار دولار، انخفاضاً من 26.0 مليار دولار في المراجعة الثالثة.
يتوقع الصندوق أن يصل صافي الاستثمار الأجنبي المباشر (المساهم الأكبر بين مصادر التمويل الخارجية) إلى 15.6 مليار دولار خلال السنة المالية الحالية، وأن يرتفع ارتفاعاً طفيفاً إلى 16.9 مليار دولار خلال 2026-2027. ويقدر الصندوق أن صافي تدفقات الاستثمار الأجنبي المباشر سجل 13.2 مليار دولار في العام المالي 2024-2025، صعوداً من 10.8 مليارات دولار في المراجعة الثالثة. نمو الناتج المحلي 4.1% والتضخم 15.3%
وأشار صندوق النقد الدولي إلى أنه من المتوقع أن ينمو الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي لمصر بنسبة 4.1% خلال هذه السنة المالية، وأن يتسارع إلى 4.6% في 2026-2027، وهو ما يختلف عن توقعات الحكومة التي ترى أن الاقتصاد سينمو بنسبة 4.5% في العام المالي 2025-2026، قبل أن يرتفع أكثر إلى 5.0% في العام المالي 2026-2027. أيضاً يرى صندوق النقد الدولي أن التضخم في مصر سيصل إلى 15.3% في المتوسط خلال العام المالي 2025-2026، قبل أن يتباطأ إلى 10.7% في المتوسط في العام المالي المقبل. ويتوقع الصندوق أن تصل إيرادات قناة السويس إلى 6.3 مليارات دولار في العام المالي الحالي، قبل أن تتعافى إلى 8.2 مليارات دولار في العام المالي 2026-2027، مما يعيدها تقريباً إلى المستويات المسجلة نفسها خلال العام المالي 2022-2023، قبل الاضطرابات التي وقعت في البحر الأحمر منذ ديسمبر/كانون الأول 2023، وقصف الحوثيين في اليمن بواخر وناقلات متوجهة إلى إسرائيل. وأن تبلغ إيرادات قطاع السياحة خلال العام المالي الحالي، 17.1 مليار دولار، قبل أن تقفز إلى 19.2 مليار دولار في العام المالي 2026-2027.
هل يرتفع الدولار وينخفض الجنية؟
واللافت على صعيد السياسة النقدية، أن صندوق النقد الدولي دعا إلى "الحفاظ على نظام تحرير سعر صرف ومرونته"، ما يشير إلى احتمالات ارتفاع سعر الدولار مستقبلاً. والدليل على هذا أن الصندوق ذكر أن "مصر معرضة لصدمات أساسية، مثل صدمات أسعار السلع وصدمات الإنتاجية، التي تتطلب استخدام سعر الصرف بوصفه ممتصاً للصدمات". حيث ذكر الصندوق أن "الاستقرار الملحوظ لسعر الصرف هو مصدر للمخاطر على المدى القريب، ولا سيما في ما يتعلق بتأثيره على تدفقات المحافظ". ومن المقرر أن يجري صندوق النقد الدولي مراجعتيه الخامسة والسادسة المدمجتين لاتفاق تسهيل الصندوق الممدد البالغة قيمته 8 مليارات دولار في 15 سبتمبر، بحسب ما أشار في تقريره.
وأوصى الصندوق باستمرار مرونة سعر الصرف وترك قوى السوق لتحديد القيمة الحقيقية للجنية، والحفاظ على سياسة نقدية انكماشية حتى انخفاض التضخم بشكل مستدام، وتعزيز إصلاحات الحوكمة والشفافية في الشركات العامة، وضمان عدالة المنافسة بين القطاعين العام والخاص، والإسراع ببرامج الحماية الاجتماعية لتخفيف أثر الإصلاحات على الفئات الضعيفة