ضع موازنة مصر الجديدة للعام 2025-2026 التي تم العمل بها يوم الثلاثاء 1 يوليو/تموز الجاري، تأمل أرقامها جيداً، بخاصة على مستوى الإيرادات والمصروفات والأعباء الجديدة الضخمة الملقاة على المواطن. أول انطباع تصل إليه هو أنك ستصاب بالذعر الشديد من الأرقام والمؤشرات المالية المخيفة، ولذا تقلق بشدة على ما هو قادم، وتخلص إلى أنك أمام حكومة لا تضع أي قيود على الإنفاق العام ومحاولة ترشيده رغم الظروف الاقتصادية والمالية التي تمر بها الدولة.
وتمارس الحكومة كذلك سياسة تدوير الديون في الموازنة الجديدة رغم مخاطرها الشديدة سواء على الاقتصاد والأسواق والأجيال المقبلة، وتُحمّل الحكومة المواطن وحده لا غيره أعباء تدبير إيرادات الدولة ومصروفاتها، إضافة إلى أعباء اسرافها واخفاقها في إدارة شؤون الاقتصاد، إذ إنّ نحو 85% من إيرادات الموازنة تأتي من بند واحد هو الضرائب، والباقي من إيرادات لا دخل للحكومة بها مثل بيع أصول الدولة من شركات وبنوك وأراضي.
والملاحظ أيضاً في موازنة مصر الجديدة أن الحكومة تصر على تنفيذ مشروعات كبرى تلتهم مليارات الجنيهات من أموال الموازنة رغم أنها لا تمثل أولوية للاقتصاد أو إضافة إلى الخدمات العامة. وهناك استسهال شديد من قبل تلك الحكومة في الاقتراض الخارجي والمحلي، مع التزام شديد بتعليمات الدائنين وفي المقدمة صندوق النقد الدولي.
يصاحب المؤشرات الخطيرة إنفاق أكثر من 60 مليار دولار على عاصمة إدارية يقطنها 25 ألف شخص، وعدم إعطاء الحكومة أولوية لملفات مهمة منها تعميق الإنتاج المحلي ودعم الصناعة
ورغم الإعلان مرات عدة عن الاتجاه إلى تخفيض الدين الخارجي، تعتمد موازنة مصر للعام 2025-2026 على زيادة الاقتراض الخارجي بنسبة تفوق 186% مقارنة بالعام السابق وفق أرقام المبادرة المصرية للحقوق الشخصية الصادرة يوم 27 مايو/أيار الماضي. وهناك إصرار منقطع النظير ومتواصل من قبل الحكومة على زيادة أسعار السلع الرئيسية والخدمات سواء بشكل مباشر أو عبر خفض الدعم المقدم للطبقات الفقيرة والمتوسطة ومنها دعم الوقود والمنافع العامة من مياه وكهرباء وصرف صحي ومواصلات عامة واتصالات وغيرها.
وهناك أيضاً إصرار على زيادة الضرائب والرسوم الحكومية رغم الظروف بالغة القسوة التي يعيشها المواطن منذ سنوات. فحسب مؤشرات الموازنة فإن الحكومة تستهدف زيادة إيرادات الضرائب بنحو 800 مليار جنيه لتصل إلى 2.6 تريليون جنيه، ورفع الإيرادات العامة لتصل إلى 3.1 تريليونات جنيه، بنسبة ارتفاع 23%، لمواجهة زيادة متوقعة في المصروفات بنسبة 19.2%، بقيمة 4.6 تريليونات جنيه.يصاحب تلك المؤشرات الخطيرة إنفاق أكثر من 60 مليار دولار على عاصمة إدارية يقطنها حتى الآن 25 ألف شخص بشهادة رئيس الشركة المنفذة، وعدم إعطاء الحكومة أولوية لملفات مهمة منها تعميق الإنتاج المحلي ودعم الصناعة الوطنية، وزيادة الصادرات السلعية، وجذب استثمارات أجنبية إلى قطاعات حيوية مثل الصناعة والزراعة والتقنية وتكنولوجيا المعلومات والطاقة المتجددة، وتركز تلك الاستثمارات على القطاع الريعي مثل العقارات والأراضي وشراء الأصول القائمة من شركات ومستشفيات ومعامل تحاليل ومحطات وقود.
أما أخطر مؤشر فيتعلق بملف الدين العام والالتزامات على الدولة لسداد أصل الديون والفوائد المستحقة عليها، فوفق أرقام الموازنة الجديدة، فإن نحو 100% من الإيرادات العامة للدولة سيخصص لسداد أصل الديون والفوائد، وإن بند فوائد الديون وحده يستحوذ على نحو 50% من إجمالي المصروفات في الموازنة الجديدة المقدرة بنحو 4.6 تريليونات جنيه، وإن مخصصات الفوائد بلغت نحو 2.3 تريليون جنيه، مقابل 1.8 تريليون جنيه في موازنة العام المالي السابق 2024-2025، بزيادة 27.8%.
أخطر مؤشر يتعلق بملف الدين العام والالتزامات على الدولة لسداد أصل الديون والفوائد المستحقة عليها، فوفق أرقام الموازنة، فإن نحو 100% من الإيرادات العامة سيخصص لسداد أصل الديون والفوائد
وهنا يصبح كلام الحكومة عن وضع خطط واستراتيجيات لخفض وإدارة الدين العام في موازنة مصر للاستهلاك المحلي ليس إلا. واللافت هنا أن فوائد الديون المحلية والأجنبية تستحوذ على حوالي 87% من حصيلة الضرائب المتوقعة في العام المالي الجديد، ما يعني أن دافعي الضرائب يدفعون أعباء الدين، وكلفة مقرضي الدولة من أموال أجنبية ساخنة وديون بنوك وأفراد ومؤسسات، في الداخل والخارج.
لن نتحدث هنا عن أسلوب معالجة الدولة لسداد أعباء الدين، فلا خطة جادة في الأفق، والأساليب المطبقة باتت معروفة حتى للمواطن في أقاصي صعيد مصر وعلى أطراف مرسى مطروح، اقتراض جديد محلياً وخارجياً، طباعة بنكنوت، بيع مزيد من أصول الدولة، زيادة الضرائب والرسوم، زيادة الأسعار، لكن السؤال ماذا يتبقى من موازنة الدولة للإنفاق على بنود حيوية مثل الأجور والرواتب وبند الدعم والاستثمارات العامة بعد تخصيص كل إيرادات الدولة لسداد بند واحد هي تلك الأعباء المستحقة على الديون، وماذا يتبقى لشراء سلع أساسية مثل الغذاء والوقود والغاز وغيرها؟